الأب الخوري الياس شعيا البرطلي



من الشخصيات الدينية البارزة اللامعة في سماء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية ، ومن الرجال القلائل المشهود لهم بحسن الإدارة وأصالة الرأي وحب العمل، ومن بناة المجتمع الملي بغيرة وإخلاص.

ولادته وحياته الأولى ورسامته قسيساً: ولد في برطلي سنة 1895 وترعرع في بيت قامت دعائمه على أس التقى، يغذيه بلبان التربية المسيحية أبوان تمثلا في محاسن الأخلاق وطيب الارومة هما متي بن شمعون ويلو ابنة بطرس دلف.
ينتمي إلى أسرة اشعيا البر طلية العريقة، التي تتبوأ المنزلة اللائقة بها بين القرية، ذكر بعض رهبان منها في القرن الثاني عشر.
كان منذ نعومة أظفاره ميالا إلى الخدمة الكنسية، شغوفاً بممارسة الطقوس البيعية، كلفا بالسريانية، فتعلم في مطلع حداثته مبادءها في مدرسة قريته الابتدائية آخذاً عن الشاعر السرياني الكبير المرحوم القس يعقوب ساكا، وثابر على مطالعة الكتب المقدسة وتفاسيرها فنال منها حظاً. وفي 20 تشرين الأول سنة 1911 رقاه مار قورلس الياس الثاني مطران أبرشية دير مار متى الى رتبة قارئ لكنيسة الشهيدة شموني في برطلي. وفي سنة 1919 تعين معلماً للدين والسريانية في مدرسة قريته لمدة سنتين وفي سنة 1926 رقاه ماراثناسيوس توما قصير مطران الموصل الى رتبة الافودياقون ورسمه شماساً.
وإذ رأى المثلث الرحمات البطريرك مار اغناطيوس الياس الثالث ما في نفسه من جدارة تؤهله للخدمة الكهنوتية المقدسة، رسمه كاهناً لكنيسة العذراء في سنجار بعد اعتذاره مرات. وذلك في 10 حزيران سنة 1928 في كنيسة مار توما بالموصل، وفي 18 منه أمر بتعيينه لكنيسة الشهيدة شموني المشار إليها على أثر وفاة كاهنها القس بينو، وفي سنة 1940 توجه الى البصرة بأمر بطريركي لخدمة كنيستها ، فمكث هناك خمسة أشهر عاد بعدها الى برطلي.
أعماله في عهد قسوسيته:منذ أن لبس الأب الهمام حلة الكهنوت شمر عن ساعد الجد للخدمة المثلى التي جاء من أجلها، وأخذ يعمل لرفع مستوى برطلي الروحي والأدبي. وتحصر أعماله وخدماته في خمس نقاط.
أولاً: الأعمال العمرانية:
(1) أوجد مقبرة للملة الى جانب الكنيسة الشمالية عام 1933 وسورها.
(2) شيد مدرسة معتبرة تحتوي على عشرين غرفة، وبهو كبير عام 1935، وبناية كبيرة بعشرين غرفة وبهو كبير جعلت داراً للحكومة عام 1944، وبناية أخرى بأربع غرف وبهو كبير جعلت هي الأخرى دائرة حكومية عام 1944 أيضاً. والواردات التي تدرها هذه العمارات هي للكنيسة.
ثانياً: جدد كتب طقوس (فناقيث) الكنيسة وآنيتها.
ثالثاً: فتح في برطلي مدرسة خاصة لتدريس العلم الديني واللغة السريانية والألحان البيعية ، تولى بنفسه إدارتها والتدريس فيها مجاناً، فزودت الكنيسة بالشمامسة والمرتلات.
رابعاً: رفع مستوى أبناء الكنيسة الروحي، وإهتم ببناء الأنفس وذلك بمواعظه وإرشاداته في الكنيسة والمنزل.
خامساً: رئاسته لدير مار متى في آب سنة 1942 شغركرسي دير مار متى على أثر وفاة مطرانه مار ديونيسيوس منصوراتي فعهد إليه مثلث الرحمات البطريرك مار إغناطيوس أفرام الأول برئاسة الدير. فنهض بأعباء هذه المهمة بجد ونشاط وأبدى في إدارة شؤونه عزماً وحزماً. وفي آذار سنة 1943 سلم إدارة الدير الى الرئيس الجديد وعاد الى برطلي. بيد انه اضطر بعد خمسة أشهر الى إستلام رئاسة الدير ثانيةً فقام بها حتى سنة 1945 ثم إستقال.
ومن أعماله في الدير خلال فترة رئاسته القصيرة عليه
(1) إستأنف المدرسة الإكليريكية التي ضمت عدداً من الطلاب إلتحق بعضهم بعدئذ بالمدرسة الإكليريكية الأفرامية بالموصل، نخص بالذكر منهم الكاتب الأب يوسف سعيد كاهن كنيسة كركوك، والأب القس اسحق منصور كاهن كنيسة رأس العين في سورية.
(2) رتب شؤونه الداخلية ترتيباً محكماً
(3) تمكن من تسجيل أراضي الدير سواء أكانت في الجبل أم في السهل، الخاصة بقريتي ميركي ومغارة في دائرة الطابو، وذلك بمساعدة المرحومين الدكتور عبد الأحد عبد النور، وبطرس عبد الأحد موسى. وعلى أثر إنتهائه من هذا العمل المجيد بعث إليه قداسة البطريرك بأمره الرسولي فيه يثني ثناء عاطراً على همته ويوصي بأن يدون هذا العمل في الكتب الطقسية لكنائس الأبرشية.
ومما هو جدير بالذكر أنه أوقف بيته الخاص أيضاً للدير.
خور نته: في أثناء الزيارة الرسولية التي قام بها مار اغناطيوس أفرام البطريرك الأنطاكي سنة 1945 لأبرشيات العراق زار برطلي ولمس بيده، ورأى بعينه الأعمال الإدارية والعمرانية الآنفة الذكر، فأثنى عليه وباركه. وتقديراً لذلك رقاه الى رتبة الخورنة في كنيسة القديسة شموني.
أعماله في عهد خور نته:
(1) عنايته بكنيسة القديسة شموني، فقد فتح لها أربع نوافذ كبيرة في الجهة الشمالية، وأربع نوافذ صغيرة في الجهة الجنوبية، كما فتح نافذتين صغيرتين في المذبح وكان ذلك في سنتي 1953 – 1954. وفي سنة 1955 أنشأ مدخلاً كبيراً فخماً بباب حديدي ممتاز نقش عليه بالسريانية.
وفي 18 آذار سنة 1956 أنشأ جرسية(قبة عالية للجرس) .
وإذا علمت أنه أوقف أراضيه الزراعية الخاصة لهذه الكنيسة بالذات، أكبرت غيرته الوقادة.
(2) إهتمامه بدير مار دانيال الناسك الواقع في الجهة الشمالية الشرقية من مدينة الموصل، وهو عبارة عن أطلال قائمة على قمة جبل مار دانيال(عين الصفراء) بصورة يرثى لها، فتمكن من إستحصال قرار من محكمة التمييز العراقية في بغداد مؤرخ في 22/ 12/ 1948 وتحت رقم 287/ ت/ 1948 ، يقضي بان هذا الدير وقف لملة السريان الأرثوذكس في برطلي. فسجل من ثم أراضيه في السجلات الحكومية، كما شق طريقين لوصول السيارة الى سطح الجبل.
تعيينه عضواً في المحكمة الكنسية: في سنة 1948 صدرت إدارة ملكية بتعيينه عضواً في مجلس التمييز لمحكمة السريان الأرثوذكس بالموصل، ثم ترأسه على أثر وفاة المطران توما قصير وذلك منذ أيلول سنة 1951 حتى صيف سنة 1952 حيث ترأس نيافة مارغريغوريوس بولس بهنام مطران الموصل فعاد المترجم الى العضوية وظل كذلك الى سنة 1956.
انعام بطريركي: لما ارسلت صورة القرار الصادر من المحاكم العراقية بشأن أراضي وجبل مار دانيال الى المثلث الرحمات مار إغناطيوس أفرام الأول، ارتاح كثيراً لهذا العمل المشكور وأثنى على همة الأب الغيور ونشاطه، وأمر بتقليده الصليب المقدس، فقلده اياه نيافة مار طيمثاوس يعقوب الثاني مطران أبرشية دير مار متى في حفلة باهرة في كنيسة الشهيدة شموني في برطلي. وفي ختامها ارتجل أبويته خطاباً باللغة السريانية، كما القى إبن اخته كاتب هذه السطور قصيدة سريانية مشيداً بأعماله وكان ذلك سنة 1953.
أبويته والشعر السرياني: الى جانب أعماله العمرانية والإدارية أعار للشعر السرياني أهمية كبرى، فمكتبته تضم دواوين لأشهر شعراء السريان، وهو مغرم بمطالعتها، فنتج له من ذلك ميل لنظم الشعر في مواضيع محدودة، وقد جعل من بعضها تراتيل تنشدها جوقة الترتيل في كنيسة الشهيدة شموني في برطلي، كما نقل الى السريانية من العربية رواية جنفياف وتاريخ حروب طهماسب خان.
انتقاله الى الخدور العلوية : في اليوم الخامس من حزيران من عام 1970 ودعت برطلي كاهنها البار ورجل العمل الجبار في تشييع مهيب خرجت له برطلة عن بكرة ابيها وحضره محبيه من خارج برطلي فخيم الصمت البلدة لايام تندب حظها بفقدان فارسها ومعلمها وقائدها وابيها الروحي ، انتقل بعد صراع مع المرض انهكت تلك القامة الفارعة فووري الثرى في مقبرة الكهنة داخل هيكل كنيسة مارت شموني ، رحل الخوري الياس ولكن ذكراه بقيت خالدة في متجذرة في حياة البرطليين .