حين نضع خططنا المستقبلية، حاملين رؤية واضحة عما نريد وما لا نريد، وغالباً ما نفعل ذلك وفق جدول زمني معين يناسب أمانينا تلك، ولكن لا نضع فراغاً أو فراغات وسط تلك المخططات حتى تملأها الاحتمالات الجارفة التي لا نعرف عنها شيئاً وقد تضرب عرض الحائط تصوراتنا الزائفة عمن نحن وما يجب أن نكون! أخشى أن الواحد منا ينغمس في أطوار الحياة ويلعب أدوارها بإتقان و درجة عظيمة من التصديق، تجعله يغفل عن وجود احتمال يقلب كيانه ويزعزع كينونته فتتغير أدواره تلك!
الحياة مليئة بالإمكانيات والاحتمالات كذلك، تلك التي تفرض نفسها فرضا وتنظر إليك بإصرار لتراها وتعترف بوجودها وإن تجاهلتها سوف تُلاحقك حتى تستطيع أن ترى أبعد منها، في الحياة، تأتي هذه في أشكال مختلفة؛ تجارب وعلاقات فاشلة، عمر في تقدم دائم…، أحلام لا تتحقق…ولكن أنا على يقين بأن هناك احتمال واحد فقط يفوق كل الأشكال قادر أن يغير مسارك مائة وثمانون درجة ويجتثك من أقاصي أمنياتك اجتثاثًا، وإنه لواحد لا شبيه له؛ المرض.
ما هو تعريف المرض؟
المرض هو اختلال وظيفي لعضو من الأعضاء بشكل جزئي أو كلي أو نظام بأكمله نتيجة عوامل وراثية، عدوى، سموم، نقص تغذية، عدم توازن أو عوامل بيئية غير مواتية، وفي اصطلاح اللغة هناك تعريف مطول وممل وله مسميات عدة أيضاً ! ولكن للأسف ليس هذا هو الوجه الذي نراه من المرض، سواء كان وعكة صحية خفيفة، نوبة زكام عابرة، مرضا مزمناً أو داء قاتل.
قسوة المرض وأوجهه العابسة الكئيبة
حين يكون المرض هو ذلك الاحتمال الذي لم تخطط له أو تتوقعه في أدوار حياتك، فيبطش بك أو بأحبائك بطشاً يجرف بأعماقك ويدمر أحشائك، فمن اقتضت الأقدار أن يكون المرض جزءا من حياتهم؛ التجربة تؤلمهم كثيرا وتُعلمهم أكثر.
- في بداية الرحلة، سوف يكون الخبر كزلزال داخلي ولكنه قد يستمر لأشهر وربما سنوات يأخذ فيها التقبل مراحل عدة ليكتمل، حالة النُكران سوف تزيد فقط من حدة الألم المعنوي أو الجسدي وتضاعفه، لن يساعد المريض أو ذاك الذي يسهر على رعايته دعما من أصدقاء أو علاج نفسي سوى أن يغوص في أعماقه ليجد أو يبتكر طريقته الخاصة ليتقبل ما ألم به بصدر رحب وفكر منفتح لما بعد ذلك من كل الإمكانيات وجميع الاحتمالات.
- التعامل اليومي الصحيح مع المرض سوف يقتضي معرفة كل تفاصيله وحيثياته، سوف يقتضي أيضا شجاعة من نوع خاص وأوقات طويلة مُخصصة للبحث والاستعلام عن نوع جديد من الحياة لم يكن في الحسبان.
- وفي مرحلة ما سوف يتوجب على المريض أن يواجه مرضه وجها لوجه فيراه جيدا ويعمق معرفته به ؛ إنها مرحلة الألم والانتكاسات الصحية المتكررة التي ستجعله صديق الأخصائيين و زبونا مفضلاً عند العيادات الطبية، وهذه المواجهة سوف لن تتطلب قوة داخلية معينة لأنه حين تبدأ ستمتص كل شيء معها ولا ينفع حينها فعلا سوى جرعة قوة خارجية من صديق أو قريب وفي.
- وقد تتكون جوانب أخرى للمرض لا يعلمها إلا ذاك الذي يدرك عما أتحدث بالضبط، منها ما هو نفسي، اجتماعي واقتصادي، وحين تحدثت سابقا عن المواجهة فقد عنيت أبعد مما قصدت أن أعني، في حالات إن لم تكن كلها، يواجه المريض مرضه وما يأتي معه من فواتير أدوية واستطباب خاصة إذا لم يكن محظوظا وكان يعيش في دولة نظام رعايتها الصحية يحتاج إلى الإنعاش الدائم، وقد يواجه يوميا أسوأ مخاوفه بمداهمة الألم والانتكاسات، مخاوفه تلك ستجعله يعيش نمطاً حياتياً مُختلفا، وفي بعض الحالات يواجه وعي مُجتمع بأكمله عاجز عن التفهم، التعاطف والرحمة.
أبعاد ما وراء المرض
قد يراودنا ذلك السؤال العجيب المتكرر؛ ما الحكمة من أن يمرض الإنسان؟ لما قد يمرض طفل ليتعذب ويعاني وقد يفارق الحياة تاركا ألمًا وفراغا في صدر والديه؟ والجواب دائما يفوق نظرة سطحية للأمور أو تحليل وجودي للمسألة، ما قد ندركه ضئيل أمام حقائق ميتافيزيقية أكبر من وجودنا نفسه، ولكن يبقى تدبر وتأمل وجود المرض في حياة الإنسان هو ما يُعطيه الأبعاد التالية:
المرض يجبرك على إبطاء وتيرة حياتك والاهتمام بنفسك رُغما عنك.
سوف تُعيد حساباتك وتضع لائحة لأولويات لن يتفهمها الآخرون ولكنك مُجبر على الالتزام بها.
الانتكاسات والوعكات الصحية المتكررة ستخبرك كل الحقيقة عن قيمتك عند المُحيطين بك.
المرض يُطهرك من الداخل إلى الخارج ويعطيك فرصة أن تُسامح بلا حدود وتنسى جراحك القديمة لأنك تواجه الآن ما هو أصعب وأهم ولأن ذلك سيساعدك على شفاء روحك واكتساب قوة لم تكن تحلم يوماً أن تتحلى بها.
ستعرف الكثير عن نفسك، ستتصالح معها وتكتشف مكامن قوتها وضعفها مكتسباً وعيا ذاتيا ومرونة عاطفية فريدة من نوعها.
و أخيراً، التعامل المباشر مع مرض أو مريض يجعلك تدرك مع الوقت أنك في واقع الحال أقوى بكثير مما كنت تظن،وسوف تتعلم كيف تتمدد خارج واقعك وتعي جيدا القيمة الحقيقية للأشياء؛ فتصبح ابتسامة،ليلة نوم هانئة، تناول وجبة غذاء أو مشاهدة فلم هي لحظات أثمن من كل شيء في الدنيا.
إلى من يُعايشون الأسقام ويُعانون من تأثيراتها وإلى من تتمزق قلوبهم حزنا على مرض أحبائهم وإلى أولئك الذين اختطف المرض عزيزهم، انظروا إلى أبعد ما تراه عيونكم وتُحسه جوارحكم، تلك الاحتمالات غيرت مجرى حياتكم، لا تهابوها لأن فيها عطاء وهبة من الحب الكبير والأمل.
المصدر
www.arageek.com