ليس لي علاقة أو تماس مباشر بشخصيات الفيلم ولا بمكان أو زمان وقوع أحداث الفيلم، ولم يوجد موقف لأحد أبطال الفيلم يتشابه مع موقف شخصي لي، ولكن مع أول مرة شاهدت فيلم الحريف شعرتُ بانتمائي الغريب لهذا الفيلم، ومع المشاهدات المتتالية له، أدركت أنه لم يمس وجداني فحسب.. بل نفذ بداخلي وشكل جزءً من روحي.
في هذا الفيلم تحديدًا، تطل بوضوح سينما “خان” التي تسودها روح التجريب والابتكار، فكما بشّر فيلمه القصير الأول (البطيخة – 1972) وفيلمه الطويل الأول “ضربة شمس” بخان المخرج المختلف والذي أخذت السينما المصرية على يده خطوات واسعة للأمام، أتى بفيلم الحريف لفرض روح التجريب والابتكار وذلك من خلال الثورة على أهم عنصر في الفيلم المصري التقليدي وهو “الحدوتة” التقليدية التي تتكون من أزمة وذروة وانفراجة، لتصبح الحدوتة إحدى أدوات الفيلم وأحد العوامل المساعدة لصنعه، فهو هنا إذ يهتم.. نجده يهتم برصد الاضطرابات النفسية والتوترات الداخلية لأبطاله بغض النظر عن السير التقليدي للدراما.
شوارع القاهرة التي لطالما أُغرِم بها محمد خان، يصنع من بين ثناياها معزوفة مليئة بالشجن للذين يحيون على الهامش، حيث لم يحلموا بأكثر من حياة كالحياة كما قال محمود درويش.
يتضح ذلك من اختياره للحن أغنية “الشوارع حواديت” لهاني شنودة، كموسيقى تصويرية لأحداث الفيلم على ما تحتويه هذه الأغنية من حنين وشجن وهيام بالشوارع القديمة وحكاياتها الثرية وكأنه إيحاء بانحياز الفيلم للبسطاء ومآسيهم وهمومهم، واختياره أيضًا لقصيدة أمينة جاهين “في ناس بتلعب كورة في الشارع” التي أداها بصوته أحمد زكي والذي كان من المقرر أن يقوم هو ببطولة الفيلم لولا اختلافات في وجهات النظر بينه وبين المخرج محمد خان، والحقيقة رغم تقديسي لأحمد زكي كممثل إلا أنني لا أستطيع أن أتخيل أحدًا غير “عادل إمام” في هذا الدور.
ينتمي جميع أبطال الفيلم إلى الطبقة التي لا تملك إلا عمل يدها، أو كما أطلق عليهم ماركس “البروليتاريا”، ففارس عامل على ماكينة في مصنع أحذية، وكذلك طليقته في ورشة منسوجات، وكذلك والده صانع أقفاص.. ويحاول الفيلم أن يرصد توتر المسافة الفاصلة ما بين أحلام هذه الطبقة، وبين واقعها الكئيب.
لا أقصد أن فيلم الحريف مجرد بكائية أخرى من البكائيات التي كانت بمثابة صيحات اعتراض في وجه سياسة الانفتاح التي أطلقها السادات منتصف سبعينات القرن الماضي، حيث لا يروق لي تسطيح الفيلم بهذا الشكل.. صحيح أن هذا أحد جوانب الفيلم، لكن بجوار هذا كان الغوص في نفسية “فارس” ورصد ردود أفعاله المتناقضة وسلوكياته المتضادة، حيث تُشكِّل هذه السلوكيات اللوحة المعاصرة لنماذج فرسان هذا العصر.
اختيار اسم “فارس” للشخصية الرئيسية في الفيلم لم يكن عشوائيًا، فإذا كان فرسان العصور الوسطى كانوا يتقلدون سيوفهم ويعتلون خيولهم ويتعاملون بأخلاق نبيلة ويتحلون بصفاتٍ مثالية، ويلقون احترام من الجميع.
فإن فرسان هذا العصر، ليسو بمثل هذه السمات أبدًا، إنهم تعرضوا لضغوطات مادية ومعنوية من قِبَلِ مجتمعاتهم، وحصلوا على تهميش وتجاهل وتحقير غير محتمل، فأصبحوا نفسيات مشوهة تغص بالتناقضات، وتتباعد أحلامهم كلما ازداد واقعهم بؤسًا وكآبة، كما يتضاعف لديهم الشعور بالاغتراب ليس في محيطهم فحسب، بل الاغتراب حتى مع ذواتهم وأنفسهم.
فارس الذي على يقين من استغلال “رزق الاسكندراني” سمسار المباريات له، والمتاجرة باسمه وبموهبته، لا يستطيع الفكاك منه ويجد نفسه يواصل تعامله معه، فارس الذي يكره زميلته في العمل (سعاد) رغم ذلك يجد نفسه غارقًا معها في علاقة جنسية جافة تفتقر لأي عاطفة من جهته، فارس الذي يحب طليقته جدًا ولا يستطيع الإفصاح بهذا وعلى الرغم منه نجد أن الطلاق قد حدث بسبب اعتدائه عليها.
فارس الذي يبيع مباراة ويتراخى في اللعب مسببًا الهزيمة للفريق الذي يلعب له لصالح الخصم مقابل نقود، هو نفسه الذي يساعد كابتن (مورو) أحد المعارف القدامى بالمال والذي طحنه الزمن وجعله يقتات على الفتات.
يُمزّق فارس عشقه للكرة وعدم رضاه عن وضعه المعيشي بما يُلزمه بتطلعات صعود طبقية، يجد نفسه مدفوعًا إليها دفعًا عن طريق اللاعب السابق، والمـُهرب الحالي الذي يقنعه بالعمل معه في تهريب السيارات.
لا أريد أن أضع تفسيرات وتأويلات صارمة لرموز وعناصر الدراما في فيلم الحريف أو لسلوكيات البطل، وهناك أشياء أحب أن أشاهدها كما هي حتى لا تفسد علي الحالة الشاعرية والجو التراجيدي المغلف بالشجن للفيلم.
فمثلاً: لا أحب أن أوغل خلف تصرف فارس حينما هرب من العسكري الذي كان ينتظره أمام منزله راكضًا رغم ساقه المصابة، ولكنه يذهب إلى الضابط الذي كان سيقوده له العسكري.. لما فعل فارس هذا؟ هناك مليون إجابة وتأويل وتفسير من الممكن أن نطلقهم.. ولكنني لا أحب أن أفسد على نفسي هذه المتعة بالتأويلات الكثيرة.. وأقول أنه فعل هذا فحسب.
تظهر في فيلم الحريف معاناة الفقراء من خلال حبهم للحياة ومقاساتهم معها والصراع ما بين محاولات تطويعها لهم وتطويعهم لها.
ويمتلئ الفيلم بالمشاهد التي تبرز معاناة فارس والصراع بداخله دون مشاهد زاعقة مباشرة يتحدث فيها البطل بشكل فج صريح عن مكنونه بدلاً من الإيحاء به عن طريق الصورة والحركة.
مثلاً: مشهد محسن ابن صديقه من قريته، وهو يظنه أنه حزين بسبب موت والدته، ليفاجأ أنه لا يعرف أصلاً.. لا يبدو على فارس تأثره بموت والدته بقدر تأثره بعدم اهتمام أحد بإعلامه بالأمر.. ولا يجد العزاء في موت والدته ولا العزاء في وجوده الذي أصبح لا يعني أحدًا حتى أقرب الأقربين إليه.
يبحث فارس عن أي حد يخبره بالأمر لعله يخفف عنه فجيعته، يقابل جارته فتاة الليل التي تحكي له عن جارهم الغني و تصف له شقته التي انبهرت بها، لكنه يقاطعها قائلاً: “أنا أمي ماتت”.
يذهب بعدها لوالده ليعلمه بالنبأ فيبتسم والده بأسى ويسأله: “معاك سيجارة؟”
رسم شخصيات الفيلم كان غاية في الدقة والإحكام ولم يكن هذا على مستوى الشخصية الرئيسية “فارس” فقط، بل امتد حتى طال “رزق الاسكندراني” و “سعاد” و “عبد الله” الجار الفقير.. يغص الفيلم بالعديد من الشخصيات الهامشية، وما أعجبني حقًا وأثر فيَّ؛ هو شخصية الأستاذ إسماعيل الجالس في المقهى والذي دائمًا يسأل القهوجي عن إن كان أحدًا قد سأل عنه من التلفزيون أم لا، ودائمًا ما يجيبه القهوجي بنفاد صبر بأنه لا يوجد من يسأل عنه مطلقًا.
وفي إحدى مشاهد فيلم الحريف اللاحقة، تنتقل الكاميرا إلى رزق وهو يتفق مع آخرين على مباراة جديدة، بينما تنتقل الكاميرا للقهوجي وهو يتحدث في هاتف المقهى، ثم يذهب ليسأل عن الأستاذ إسماعيل لأن التلفزيون يريده، فيخبرونه بأن أستاذ إسماعيل قد توفي، لا يترك هنا خان فرصة للتأثر أو للتأسي أو وضع موسيقى حزينة في الخلفية؛ بل ينتقل مباشرة إلى الاسكندراني وزبائنه لاستكمال اتفاقهم حول المباراة.
المشهد الرئيسي في الفيلم – من وجهة نظري – والذي لا يمكن أن أنساه، مشهد الديسكو حيث ذهب فارس برفقة صديقه المُهرِّب، ليجد فتاة ذات ملامح أجنبية ترقص وحيدة ببهجة وكأنها تمارس حريتها بالرقص، فما كان من فارس.. إلا أن استدعى كرة صغيرة، وراح يلعب بها أمامها.. في مواجهتها تمامًا وكأنه أراد أن يثبت لنفسه أن حريته في لعب الكرة أمام المرأة التي حريتها الرقص.
وأخيرًا، يوّدع فارس حبه وحريته بمباراة أخيرة وينقاد إلى التقيّد بجمع المال من أجل التآلف مع آليات مجتمعه الذي يشعر فيه فارس بالغربة والانهزام والانكسار كل يوم وكل ساعة، ليسأله ابنه الذي ورث محبة كرة القدم من والده إن كان سيلعب مرة أخرى أم لا، فيخبره الأب بأنه “زمن اللعب راح”.. مسدلاً الستار على زمن المتعة المجانية وحرية ممارسة أن يصنع المرء ما يحب، مقابل أن يصنع ما يأمل أن يجلب له الأمان المادي فحسب.
ينتهي الفيلم وفارس لازال يلهث، كما ظل طوال الفيلم يركض، ونسمع لهاثه المتواصل.
فيلم الحريف بالنسبة لي.. حالة لا يمكن وصفها، أو الكتابة عنها أكثر من ذلك.. ومحاولة تأويل كل مشهد في الفيلم وكل كادر وكل لقطة عابرة ولقطة صغيرة وجملة حوارية، أشبه بتفكيك نوتة موسيقية إلى حروف موسيقية بدلاً من الاستمتاع بها.
قام بالبطولة إلى جوار النجم عادل إمام: فردوس عبد الحميد، عبد الله فرغلي، نجاح الموجي، زيزي مصطفى، فاروق يوسف.
عن قصة لمحمد خان وبشير الديك وسيناريو لبشير الديك، ومونتاج رفيقة مشوار خان السينمائي نادية شكري، وتصوير صديق طفولة خان؛ سعيد شيمي.
جدير بالذكر أن فيلم الحريف قد سقط سقوطًا مدويًا عندما عُرِض لأول مرة في دور العرض وتم رفعه من دور السينما سريعًا، (تزامن عرضه مع فيلم “رجب فوق صفيحٍ ساخن” لعادل إمام أيضًا والذي نجح نجاحًا ساحقًا) إلا إنه على الرغم من ذلك قد لاقى إعجاب المشاهدين عندما عرض بعد ذلك على شاشات التلفزيون ولاقى استحسانًا نقديًا في عدة مهرجانات قد شارك فيها وحصل على جوائز، وأخيرًا تم اختيار الفيلم ضمن قائمة أفضل مائة فيلم عربي حسب استفتاء النقاد والسينمائيين في مهرجان دبي السينمائي في دورته العاشرة لعام 2013.
فيلم الحريف ملحمة الإنسان المعاصر، هو سيمفونية البشر العاديين.. الحريف هو معزوفة الهامش.. هو اللحن الشجي الحزين؛ للمواطن الذي لا يملك إلا الرغبة في الحياة.
المصدر
www.arageek.com