فـــن الـــرســـم الـــعـــربـــي
العربي:
أولاً: ما المقصود بكلمة عربي؟ الجواب هو أن لهذه الكلمة تاريخاً طويلاً فقد ظهرت أول مرة في كتابة منقوشة يعود تاريخها إلى عام / 853 ق.م / وهي كتابة يتحدث فيها الملك الآشوري ( شلمناصر الثالث ) عن أحد المتمردين ويسميه العربي الذي ألحق الملك الآشوري الهزيمة به في إحدى الحملات ، ومنذ ذلك الحين انتشر استخدام هذه الكلمة غير أن دلالات هذه الكلمة أخذت تتغير من وقت لآخر بحيث أنها صارت مكتنفة بالغموض، وعلى سبيل المثال نذكر أن كلمة عربي كانت تشير ومازالت وإلى درجة ما إلى البدو الرحل في الصحراء ، وذلك مقارنة لهم بالسكان الدائمي الإقامة في أماكن معينة ، وفي أحيان أخرى تشير كلمة العربي إلى القاطنين في شبه الجزيرة العربية وبعض المناطق المحيطة بها ، وفي الوقت الحاضر تشير كلمة العربي إلى مجموعة شعوب في الأقسام الجنوبية الغربية من آسيا وشمال أفريقية وهي شعوب ناطقة بالغة العربية .
ولكننا لن نستخدم في هذا الموضوع أي معنى من هذه المعاني التي ذكرناها ، و إنما سوف نستخدم كلمة العربي هنا بمعناها الأوسع لتشير إلى الحضارة العالمية لتلك الأمة التي يعود أصلها إلى دين العرب الجديد ( الدين الإسلامي ) الذي كان قد أصبح قوة سياسية وعسكرية في شبه الجزيرة العربية ، هي قوة آخذت تتماسك بفعل اللغة العربية التي أصبحت لغة العبادة الإلهية والإدارة والعلم والشعر.
وعلى الرغم من هذه المساهمات العربية حظيت حضارة ذلك العالم الواسع بتطوير كبير بسبب القوة الفكرية والمهارة الفنية اللتين كان يمتلكها رجال من أصول عرقية أخرى مثل الفرس ، البربر ، و الأتراك الذين كان معظمهم من المسلمين .
لم تكن الأهمية الأولى للرابطة العرقية في تلك الأقوام ، وإنما كان هناك مشاعر قوية تجمع بين المسلمين في تلك العصور الوسطى ، وكان هناك شعور قوي لدى تلك الأقوام المختلة بانتمائها إلى حضارة عربية مقدرة من السماء ، وكانت اللغة العربية لغة الدين والعلم ، وأهم وسيلة للتماسك والتلاحم بين تلك الأقوام والأجناس .
ينصب الاهتمام الأول في هذا الموضوع على فن الرسم الذي كان أحد نتاجات ذلك المصهر الضخم الذي انصهرت فيه الأشكال الفنية السابقة للإسلام وأشكال الفن اللاحقة ، ثم تبلورت من جديد لتكون أساليب فنية جديدة ذات خصائص معينة ومميزة ، وكانت تلك الإبداعات التصويرية ذات صفة عربية خالصة في بداية الأمر وبالمعنى الضيق لهذه الكلمة ولكن سرعان ما أصبحت تلك الإبداعات التصويرية جزءً من إنجاز حضارة كثيرة اللغات ومتعددة الجنسيات ، ثم جرى استخدام الأساليب الفنية المختلفة بطرائق شديدة التباين من قبل الغالبية العظمى من المسلمين غير أن تلك الأساليب كانت تتصف بدرجة كافية من الديناميكية لتؤثر في فنون أديان أخرى كانت تعيش تحت " خيمة الإسلام " .
بعد سقوط الخلافة العباسية في عام / 1258م / استمرت تلك الأساليب الفنية في تأثيرها الخلاق في فنون الدول الأخرى في الأقطار الناطقة بالغة العربية مثل مصر ، ثم بعد ذلك في أثناء حكم الأتراك ( من أواخر القرن الثالث عشر إلى القرن الثامن عشر ) ، وأدت تلك الأساليب الفنية أيضاً دور كبير في الفن الفارسي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر ، غير أن قلب ذلك العالم الفني كان هو الأقطار الناطقة باللغة العربية .
يمكن الافتراض هنا بأنه لم تسنح الفرصة أبداً للأساليب الفنية الإسلامية غير الفارسية لكي تزدهر إزدهاراً خلاقاً في بلاد فارس وفي أجزاء أخرى من المناطق الشرقية من الخلافة ويعود سبب ذلك إلى أن التقاليد التصويرية التي تطورت في القصور الساسانية ( من القرن الثالث إلى القرن السابع ) كانت شديدة التخندق والانعزال ، بالإضافة إلى أن المشاعر المعادية للعرب قد حالت دون ظهور مناخ فني يمكن أن يؤدي إلى مزيد من التطور المثمر لأساليب فنية عربية ، وهكذا فالمساحة التي سنتحدث عنها في هذا الموضوع تتكون وبالدرجة الأولى من العراق وسورية الكبرى ومصر وهي تضم أيضاً وبالدرجة الثانية مناطق أخرى واقعة بين إسبانيا ومراكش في القسم الغربي وهضبة بلاد فارس في القسم الشرقي ، وتمتد الفترة الزمنية ذات العلاقة من أواخر القرن السابع إلى القرن الرابع عشر ، وأما عبارة " فن الرسم " فسوف نستخدمها هنا بأوسع معنا لها ، أي أنها لا تقتصر على الأعمال الجصية والرسوم على المواد الشائعة الاستخدام مثل الخشب والورق ، وإنما هي تتعدى ذلك لتشمل الزجاج وأعمال الفسيفساء الحجرية والفخار الذي يحمل صوراً ، ومن الواضح أن المجال الأوسع الذي كان متاحاً للرسام هو أن يرسم أشكالاً هندسية أو نباتات وأزهار أو أن يهتم بالخط ، وهو أمر يميز الفن الإسلامي حقاً .
مراحل مبكرة من الفنون التصويرية ( المعالم الأموية : 691 – 750م ) :
ما زالت أقدم الأعمال التصويرية التي ابتدعتها الحضارة الإسلامية محفوظة على الجدران الداخلية في " قبة الصخرة " في القدس والتي تمثل أول المباني الكبيرة التي تم تشييدها في عام / 691م / بأمر من الخليفة عبد الملك / 685 – 705م / وتتألف قبة الصخرة من قبة كبيرة ومرتفعو واثنين من المماشي اللذين يحيطان ببروز صخري .
وتبين أعمال الموزاييك الزجاجية التي تغطي الأقواس في المماشي وتلك الأعمال الزجاجية الموجودة في القبة ، عدة أنواع من صور النباتات المتمثلة بأشجار وأوراق أشجار وثمار ، ويشيع هنا أيضاً استخدام أشكال نباتية متكررة تظهر فيها أيضاً صور لمزهريات وزخرفة قرنية الهيئة ، ويشير هذان التصميمان وكذلك الاستخدام الواسع جداً لصور ترمز إلى نبات ( الأقنثا ) الشائك وذي الأوراق الكثيرة والكبيرة إشارة واضحة إلى المضي في استخدام تصاميم فنية كلاسيكية وهو أمر يجب ألا يثير الاستغراب بالنظر إلى أن القدس كانت واقعة تحت الاحتلال البيزنطي قبل ذلك بخمسين سنة فقط .
ومن الأمور غير الاعتيادية ذلك الاستخدام الواسع جداً لأشكال عمودية من النباتات المتراصة التي تشيع فيها أزهار غريبة الشكل وذات حجم كبير جداً وهذا نوع من التصاميم كان قد عمل على تطويره النقاشون على الحجر وصانعوا الفضة في بلاد فارس في عهد الساسانيين ، وكانت التصاميم الفارسية قد ظهرت في الفن السوري في الفترة السابقة للإسلام غير أن تلك التصاميم لم تكن في مثل هذه الوفرة وبمثل هذه الأشكال الغير كلاسيكية ، وهناك خاصية أخرى مميزة لتلك التصاميم وهي خاصية تعتمد على كثرة استخدام أشكال المجوهرات المصنوعة من اللؤلؤ والأحجار الكريمة وإضافة هذه الأشكال إلى صور النباتات ، وهناك أيضاً التيجان البيزنطية والفارسية ذات الأنواع المختلفة والأكاليل والقلائد والأعمال التزينية المتعلقة في جوانب الأروقة المقابلة للصخرة المركزية في قبة الصخرة .
وفيما يتعلق بأعمال الفسيفساء ، ومما لاشك فيه أن هذه الأعمال هي إنجاز فني كبير ولها تأثير في النفوس ، وكان الغرض منها يتجاوز مجرد الزخرفة لأنها كانت تلبي متطلبات دينية وجمالية من التي كان الخليفة يريدها ، وكان المقصود منها اجتذاب الناس وهديهم إلى الدين الإسلامي ، ويبين أمر استخدام أشكال نباتية بحتة مع استثناء رسوم الأشخاص تطابقاً مع الاتجاه الإسلامي الذي كان قد ظهر للوجود حديثاً .
مباهج حياة القصور :
عند اقتراب نهاية الفترة الأموية تعاظم الضغط على السلالة الأموية من قبل العناصر المتمردة ، وتجمعت تحت قيادة أحد أبناء سيدنا العباس عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
وكان أحد المساعي المبكرة للسلالة العباسية الجديدة هو نقل العاصمة إلى القسم الشرقي ، وهكذا تم في عام / 762م / وعلى نهر دجلة تأسيس " مدينة السلام " التي عرفت باسم بغداد على غرار اسم قرية سابقة كانت تقوم في المكان نفسه ، وأتى الدعم الرئيس للسلالة العباسية من الشرق .
في تلك الفترة تعرض تماسك الخلافة إلى صدوع عميقة ففي عام / 756م / انسحبت إسبانيا من الحكومة المركزية ثم استقلت شبه استقلال عدة أقاليم هي مراكش ، وتونس ، وبلاد فارس الشرقية ، بحيث أن الخليفة كان لا يعد أكثر من رئيس أسمي لها ، وأهم ارتداد كان ارتداد مصر التي حكمتها من عام / 969م إلى عام 1171م / سلالة منشقة من تونس ومعارضة للخفاء العباسيين ، وأخذ يتعاظم تأثر الخلفاء العباسيين بوزرائهم ، وفي وقت لاحق وصلت السلطة الفعلية إلى أيدي قادة حراس القصر الأتراك .
وفي أواسط القرن العاشر ، لم يكن الخليفة أكثر من رئيس صوري فاقد للسيطرة الكاملة حتى على العراق ، وعلى الرغم من التفكك السياسي في تلك الفترة ، ازدهر الأدب وازدهرت الفنون وكان تلك الفترة من فترات السلم ولو أنها اتصفتا بعدم الاستقرار الاجتماعي ، ومن الطبيعي أن تكون موضوعات الرسوم المعلقة في القصور خلال تلك الفترة الأولى من حكم العباسيين ، مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في أثناء حكم الأمويين ، ويبدو أن من بين الموضوعات الرئيسية وأهمها كانت تلك الموضوعات التي تلبي متطلبات حياة القصور في تلك الفترة وعثر على بعض تلك الرسوم التي من أهمها تلك التي تم اكتشافها في قصر ( الجوسق ) وخاصة في القسم المخصص للحريم منه ، وهناك لوحة متقنة ومحتوية على رسم لنبات ( الأقنثا ) الشائكة وعدد من الحيوانات وصورلأشكال آدمية ما هي سوى نسخة لاحقة للوحة رومانية جميلة سابقة ، ولكن معظم الرسوم في تلك الفترة تعكس طرازاً في الرسم مغايراً للطراز ( الهليني الشرقي ) وهو الطراز الفارسي الساساني والصفة الساسانية في تلك الرسوم تذكر المرء بقصة وردت في كتاب ألف ليلة وليلة وهي تشير إلى أن الرسوم قد نفذت في سرادق الحديقة وبالأسلوب الفارسي ومن قبل عدد من الرسامين الفارسيين كان الخليفة قد استدعاهم لذلك الغرض .
وهناك مثال نموذجي عن الأسلوب المرتبط بمدينة " سامراء " وهو صورة لفتاتان ترقصان وتحملان آنيتين بأيديهما المتقاطعة وتسكبان من وراء رأسها شراباً في حاويات ، وكل ما على هاتين الراقصتين من أدوات زينة ولآلئ وألبسة فاخرة يدل دلالة واضحة على أنهما تعودان إلى قصر الخليفة .
وهناك أيضاً صورة لمشهد من مشاهد الصيد وبصفته نوعاً أخر من أنواع التسلية تبين فتاة تقتل غزالاً في أثناء عملية الصيد .
ازدهار فن الكتب:
ابتداءً من العقد السابع من القرن الثاني عشر أخذ يظهر إلى الوجود فن جديد ومزدهر فيما يتعلق بإعداد اللوحات الفنية ، وتم التعبيرعن ذلك الفن بعدة وسائل هي ، أعمال معدنية ، أوان خزفية ، أعمال قرميدية، وأعمال جصية ، وما إن حلت نهاية القرن الثاني عشر حتى اكتسب هذا التطور الجديد قوة دافعة جديدة ، انعكست في مجال إعداد المخطوطات الحاوية أجمل المنمنمات التي كانت قد ظهرت في النصف الأول من القرن الثالث عشر .
وكان الشعراء العرب الأوائل يكثرون من ذكر الحيوانات في قصائدهم جاعلين منها مائدة لأدبهم ، ويكشف وصفهم للحيوانات وخاصة الخيول والجمال ، عن قوة ملاحظتهم ولذلك ليس من الغريب أن يتحدث عن الحيوانات وباللغة العربية عمل من أرقى الأعمال الأدبية أي كتاب ( دليلة ودمنة ) ، وهذا الكتاب كان هو النسخة العربية عن مجموعة حكايات هندية قديمة تضم قصصاً عن الحيوانات وتنسب إلى أحد الحكماء البرهميين وهو ( بيديا ) ولكن الذي قام بالترجمة إلى العربية وهو ابن المقفع المتوفى في عام / 759م / لم يترجم ترجمة مباشرة من النص الأصلي للحكايات المكتوبة باللغة السنسكريتية وإنما اعتمد في الترجمة على نسخة فارسية بعود تاريخها إلى القرن السادس ، وقد ذكر ابن المقفع في المقدمة أنه قد استخدم حيوانات في الحكايات لمكي يحرك اهتمام الملوك بالإضافة إلى اهتمام الشباب وعامة الناس لأن كتاب الحكايات الهندي الأصلي كان يتحدث في الواقع عن أمراء ، وقد قيل أيضاً : إن رسوماً بألوان مختلفة كانت قد أضيفت إلى الكتاب لغرض زيادة استمتاع القارئ ومن أجل زيادة تأثير التعاليم الأخلاقية التي تتضمنها تلك القصص .
أما الطراز الأيقوني في الرسم فإنه يظهر في المجلدات العشرين من كتاب " الأغاني " لمؤلفه أبي الفرج الأصفهاني الذي انتهى العمل فيه عام / 1219م/ بعد أربع سنوات من الجهد .
تعاقب التأثيرات الخارجية في فن الرسم العربي:
خلال فترة الأموية كان العنصران الرئيسيان في فن الرسم العربي هما العنصر الكلاسيكي والعنصر الفارسي ، وكان هذان العنصران مجردين من الصبغة الإسلامية ولكن في الفترة العباسية اللاحقة أصبح العنصر الفارسي في فن الرسم العربي هو العنصر السائد ، وخلال الازدهار الجديد في هذا الفن الذي كان قد ابتدأ في نهاية القرن الثاني عشر ، استرجع العنصر الكلاسيكي سيادته بسبب التأثير البيزنطي القوي هذه المرة ، وبعد التطور الذي حصل وعلى امتداد ستة قرون أصبح العالم العربي قادراً على تحقيق التكامل بين التأثيرات الكلاسيكية والبيزنطية من جهة والأساليب الخاصة به من جهة أخرى ، وقد تحقق هذا التكامل عن طريق احتفاظ فن الرسم العربي بالأنماط والأساليب البيزنطية والقيام في الوقت نفسه بتكيف ذلك على طريقة حياة العرب والمسلمين وهذه العملية تتضح جداً في الكتابات والآداب الإغريقية المترجمة إلى اللغة العربية التي توافرت بموجبها مخطوطات بيزنطية مزخرفة وتحمل أشكالاً لأشخاص ، ومما يوضح هذه المسألة التحليل لمخطوط سقراط الذي يعود تاريخه إلى عام / 1229م/ والموجود في متحف طوب قابي سراي في اسطنبول ، وهناك فقرة في هذا المخطوط ضمن إطار زخرفي ، وتشير إلى أن المخطوط كان قد كتب لأغراض شمس الدين أبي الفضائل محمد الذي حكم وكما هو واضح القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين وأجزاء من الأناضول وسورية أيضاً ، والصورة الاستهلالية في المخطوط المذكور هي صورة رائعة ومزدوجة ، وكل جزء من جزأيها يبين رسوماً لأشخاص على أرضية ذهبية وفي إطار من أقواس ، وفي إطار من أقواس .
وهناك عدة مخطوطات في تلك الفترة تجتمع فيها خصائص فارسية وبيزنطية وعربية ، وأحياناً تظهر هذه الخصائص بصورة منفصلة وفي منمنمات مختلفة ، ولكن هناك أيضاً رسوم يمتزج فيها عنصران أو أكثر من هذه العناصر امتزاجاً دالاً على البراعة ، وفي وقت مبكر يعود إلى القرن السابع كان المزخرفون البيزنطيون للمخطوطات يضيفون أحياناً أشكالاً بشرية في رسومه الاعتيادية التي تصور أعشاباً طبية لغرض الإشارة إلى نوع المرض الذي كان ينفع في علاجه نوع معين من الأعشاب أو لغرض توضيح طريق جمع هذا العشب وتحضير دواء منه ، وكان الظهور الأول لأشكال أولئك الأشخاص التوضيحيين في النسخة العربية من مخطوط سقراط قد تحقق في مجلد يعود تاريخ كتابته إلى عام / 1083م / وكان يعتمد على نسخة يعود تاريخها إلى عام / 990م / ، وفي تلك المجلدات البيزنطية والعربية الأولى كانت الأشكال البشرية لم تزل صغيرة جداً بالقياس إلى النباتات وكانت توضع في مواضيع غير ملائمة .
إنجازات في بغداد:
كان فن الرسم العربي قد وصل إلى كامل قدرته على التكامل بعد عام / 1200م / في عاصمة الخلافة العباسية ، وحقق الروعة الكاملة هناك في الربع الثاني من القرن المذكور .
والشاهد الأول على هذا التطور الحاصل هو كتاب عن طب بيطري متعلق بالخيول وهو كتاب ( البيطرة ) لمؤلفه أحمد بن حسين بن الأحنف وتدل المعلومات الواردة في هذا المخطوط الموجود في المكتبة الوطنية في القاهرة على أن هذا المخطوط كان قد كتب في بغداد في عام / 1209م / ونحن نستطيع القول بأن هذا المخطوط العربي مع المنمنمات الواردة فيه كان قد اعتمد على قوالب فنية بيزنطية ، و تتمثل مرحلة اكتمال النضج بمنمنمة مزدوجة ( منمنمتين ) في الصفحتين الاستهلاليتين من مخطوط آخر هو( رسائل أخوان الصفا ) الذي هو موسوعة يعود تاريخها إلى القرن العاشر ، وتدل المعلومات الواردة في هذا المخطوط على أنه كان قد كتب في بغداد عام / 1287م / ، وهكذا تدل هذه المعلومات على أن المخطوط المذكور يعود تاريخ وضعه إلى ما بعد الاحتلال المغولي الكارثي للعاصمة العباسية عام / 1258م / ، ومع ذلك فالمخطوط لا يعكس أي خصائص جديدة أو مستوردة من الشرق الأقصى والتي هي خصائص أصبحت شديدة الوضوح في وقت لاحق ، وعلى الرغم من أن المنمنمتين المذكورتين سابقاً كان تاريخ رسمهما يعود إلى زمن متأخر نسبياً من القرن الثالث عشر غير أنهما يمثلان الأسلوب البغدادي البحت في ذروته وفي جانبه الدينامي .
وفي حين أن القسم الأعلى من الجانب الأيسر يذكر لنا عنوان الكتاب وهو( رسائل إخوان الصفا ) يبين لنا الجانب الأيمن أن هناك خمسة من المؤلفين للمخطوط هم : أبو سليمان محمد بن مسار البسطي الذي يسمى المقدسي أيضاً ، أبو حسن علي بن زهران الزنجاني ، أبو أحمد النهراجوري ، العوفي ، وزياد بن رفاعة ، وتمثل صورة هؤلاء المؤلفين إبداعاً ذا قيمة كلاسيكية كبيرة وقد شاع استخدام هذه الطريقة في الزخارف على ورق البردي .
مخطوطات " مقامات الحريري " العظيمة:
وصل فن الرسم العربي إلى ذروته في المجهود المتنوع والخالد والمنعكس في الرسوم الواردة في المقامات الموضوعة في بغداد ، وبما أن الفصول الخمسين من مقامات الحريري تجري أحداثها في عدة أماكن فإن الرسوم الواردة منها تعطينا فيها لا يجاريه فهم لواقع الحياة في العالم العربي وخاصة في العراق لأن المقامات كانت قد وضعت في العراق ونحن نشاهد فيها حدثاً يحدث في جامع وأحداثاً أخرى في مكتبة أو سوق واحد أو مقبرة أو في مخيم في صحراء أو في قصر أحد الحكام ، وبسبب الواقعية التي تتصف بها تلك الرسوم فهي تكشف عن ملامح كثيرة من حياة الناس في القرون الوسطى .
ومن بين النسخ المختلفة من مقامات الحريري اشتهرت النسخة الموجودة في المكتبة الوطنية في باريس لأن عدداً من الرسوم الواردة فيها كانت قد نشرت ومعظم المنمنمات فيها كانت فقد عرضت في معرض أقيم في باريس عام / 1938م /وهذه النسخة من المخطوط وما فيها من صور عددها 99 صورة كانت قد أعدت وزودت بالرسوم عام / 1237م/ من قبل ( يحيى بن محمود الواسطي ) الذي سمى أيضاً وللسهولة ( الواسطي ) نسبة إلى مدينة واسط في جنوب العراق التي كان الفنان ينتمي إليها وأما النسخة الثانية من مخطوط المقامات فهي توجد في معهد الدراسات الشرقية في أكاديمية العلوم في ( لينينغراد ) ولكن هناك أجزاء من هذه النسخة لم تحظى بالمحافظة التي تستحقها وقد ضاعت منها الصفحات الإحدى عشرة الأولى ، ولم يذكر فيها تاريخ كتابتها ، ولم ينشر من منمنماتها سوى عدد قليل ولهذه الأسباب لم تبلق هذه النسخة الاهتمام الذي تستحقه ، ومع ذلك فإن الرسوم الواردة فيها تمتلك قوة تعبيرية عظيمة ويقول " ودين أس وايس " إنه يجب اعتبار هذه النسخة الأقدم من بين النسخ المختلفة من مخطوطات المقامات .
ومما لاشك فيه أن هناك نسخاً أخرى من المقامات ولكنها فقدت ومما يدل على ذلك وجود نسخة أخرى مزخرفة ، وتم اكتشافها مؤخراً وهي موجودة الآن حسب العنوان الآتي ( اسطنبول – السليمانية – أسعد أفندي – 2916 ) ، وكما هو الأمر في النسختين الأخريين ، تحتوي نسخة اسطنبول على الذخيرة النفيسة نفسها من الحكايات والنوعية نفسها من الرسوم .
تأثير الغزو المغولي:
تتمثل نقطة الانعطاف الكبير في تاريخ الرسم العربي الإسلامي بالغزو المغولي للشرق الأدنى الذي تتوج باحتلال بغداد في عام / 1258م / وقتل الخليفة العباسي الأخير ، وكان ذلك الغزو كارثة لا نظير لها في تاريخ العرب ، وحتى عندما لم يكن يتم تدمير المدن وقتل سكانها كانت ظروف المعيشة تتغير تغيراً كبيراً ، وقد أدت تلك الجائحة إلى تخريب المناخ الاجتماعي والاقتصادي وإلى ازدهار فن الرسم في المخطوطات وخاصة في مدن العراق ، وقد حصلت تغيرات كبيرة ثلاث : أولها هو أن عدداً من الفنانين وجدوا أن عليهم الهجرة إلى مناطق أكثر أماناً وهي في الأجزاء الغربية أو الشمالية الغربية ، وكان هناك فنانون آخرون قد هاجروا شرقاً بحثاً عن عمل في العواصم المغولية الحديثة التأسيس ، وقد خلقت التغيرات الكبيرة في البيئة نوعاً آخر من التغيرات إذ أن الفنانين العاملين في ظل سادة جدد كان يجب عليهم تكييف أنفسهم مع الظروف الجديدة وللاختلاف في الأذواق ، والنوع الثالث من التغيرات هو أنه وبالنظر إلى أن الشرق الأدنى ومن ضمنه العراق كان جزءاً من إمبراطورية كبيرة في الشرق الأقصى ، فإن الفن في الشرق الأدنى أصبح الآن خاضعاً لتأثيرات الشرق الأقصى ، وقد تجاوز انتشار ملامح الفن الصيني حدود الدولة المغولية بكثير بحيث إن هذه الملامح الفنية أصبحت تشاهد أيضاً في سورية ومصر .
ويبدو أن العراق قد استمر في فن زخرفة المخطوطات ولكن بأساليب محدود ، وعلى الرغم من وقوعه قرناً ونصف القرن تحت وطأة حكم المغول الذين كانوا وثنيين في البداية ثم أصبحوا مسلمين بعد ذلك .
والآن أصبح المركز الحقيقي للفن هو دولة المماليك في مصر وسورية حيث ظهر بعض أجمل أنواع زخرفة الكتب العربية واستمرت في الظهور مع حصول تغير فيها ، وعلى الرغم أن فن الرسم هنا لم يصل أبداً إلى المستويات الفنية الرفيعة التي وصل إليها في النصف الأول من القرن الثالث عشر غير أن الثلث الأخير من القرن الثالث عشر والنصف الأول من القرن الرابع عشر كانا قد شهدا انتعاشاً ضئيلاً في الفن .
وفيما يتعلق بتأثير الغزو المغولي في فن الرسم نذكر هنا أن إحدى المجموعات الرابعة من المنمنمات التي يعود تاريخها إلى تلاك الفترة هي مجموعة مؤلفة من إحدى عشرة صورة في بداية المخطوط المعنون " منافع الحيوان " الموضوع من قبل " ابن بختيشو " وكان هذا المخطوط قد كتب في " مراغة " في القسم الشمالي الشرقي من بلاد فارس وبين عامي / 1294 و 1299م / ولأغراض شخص معين له ذوق فني متميز ولكنه ليس من الأمراء أو من الحاملين لألقاب رسمية ، والصور الواردة في الفصول الأولى هي استمرار للتقاليد العربية في الرسم خلال الفترة التي سبقت الفترة المغولية ومقارنة بالرسوم في هذه الفصول الأولى تحتوي بقية فصول المخطوط على أعمال عدة رسامين كانوا متأثرين ، وبدرجات متباينة بأنواعه مختلفة من فن الرسم الصيني ، ومن هذا التجوز في الأساليب نستطيع الافتراض بأن فنانين من أصول مختلفة قد التقوا في هذا المركز المغولي لينتجوا مخطوطات مزخرفة .
ومن بين تلك الجماعة من الفنانين كان هناك رسام من جنوب العراق استمر في الرسم حسب التقاليد الفنية التي كان قد تعلمها ففي الصورة المعنوية " فيلان " نجد أن هناك الأرض المعشوشة نفسها التي تقف عليها الحيوانات المرسومة ، والأشجار والطيور نفسها التي تتكرر أشكالها في رسومات عربية أخرى وخاصة الرسوم التي مصدرها بغداد ، وفي عدد من صور هذه المجموعة الأولى ( الاستهلالية ) يستطيع المرء أن يلاحظ وجود المجموعة نفسها في الأفكارعن الخصائص المتعلقة بحيوان معين والطريقة التلقائية نفسها في التصوير التي ميزت مثلاً الصورة المعنوية " قطع من الجمال " الواردة في مخطوط المقامات المحفوظ في باريس والذي يعود تاريخه إلى عام / 1237م / .
تشكل فن رسم المنمنمات ( فترة المماليك : 1250 – 1390م ):
كانت الفترة الأخيرة التي أنتجت أسلوباً خاصاً ومستديماً هي فترة السلالة الأولى من حكم المماليك في مصر وسورية والذين يسمون ( المماليك البحريين )، و كانت السلالتان الحاكمتان من المماليك أو العبيد قد نالتا هذه التسمية بسبب أن رؤساء الدولة كان أجدادهم يعملون بصفة عبيد أجانب ، ومن أصل تركي في أغلبهم ومن حراس الملك ، وجميع أصحاب المناصب الرفيعة أو الأمراء كانوا من هؤلاء المماليك وقد تمت ترقيتهم إلى مناصبهم بسبب القدرات التي كانوا يمتلكونها ، وكان التنظيم الصارم للوظائف المدنية والعسكرية يتألف من هرمية ذات وظائف ومراتب متعددة وكانت جميع شؤون الدولة متمركزة في القاهرة و في دمشق أيضاً بالمرتبة الثانية.
وهذا الناظم التنظيمي ينعكس في جانبين من الفن في هذه الفترة ، وهذا الفن هو فن شديد الصرامة في تكوينه ، وقياساً إلى سائر أشكال الفن الإسلامي فهناك أشكال هندسية معقدة تغطي جدران الجوامع وقببها وهو تغطي أيضاً منابر الوعظ والأبواب والنوافذ وعدداً من الأشياء المعدنية وأغلفة الكتب وزخارف القرآن الكريم والسجاجيد أيضاً ، والجانب المهم الآخر هو أن أحد أشكال التزيين الرئيسية كان يتمثل بالعرض الخطي ( خط اليد ) لأسم السلطان أو الأمير مع ذكر جميع ألقابه وبالتفصيل ومع شعار النبالة الخاص به ، وهذا الاهتمام بالنظام الصارم وبالشكلية الجامدة هو الذي يفسر عجز الرسام في فترة المماليك عن إنتاج فني واقعي يصور أحداث الحياة اليومية ، ويحتوي على مضامين سيكولوجية ، ويبين العيوب الاجتماعية أي أن ذلك الفن لم يكن من نوع الفن الوارد في مخطوطات " المقامات " المحفوظة في لينينغراد وباريس ، وأقدم مثال على أسلوب الفن في زمن المماليك هو مخطوط فريد يعود تاريخه إلى عام / 1273م / وعنوانه " دعوة ( مأدبة ) الأطباء " الذي هو كتاب يتضمن حواراً يهدف إلى فضح الدجالين من الأطباء ، ومؤلف الكتاب هو طبيب في بغداد ومن القرن الحادي عشر واسمه " ابن بطلان ".
والمخطوط الذي يمكن وصفه بأنه مخطوط بارز ومن مدرسة المماليك هو مخطوط المقامات المكتوب في عام / 1334م / الذي هو الآن في المكتبة الوطنية في ( فيينا ) وتبين الصورة الاستهلالية في هذا المخطوط حاكماً وبيده قدح وهو محاط بحاشيته ، ويعكس إطار الصورة كله نمطاً زخرفياً عربياً ملوناً و متقناً ، وهذا النوع من التصوير يقوم على أساس قوالب فنية فارسية يعود تاريخها إلى زمن الساسانيين ، ومن النماذج المشابهة لهذا النوع الصورة الاستهلالية في كتاب الأغاني الذي يعود تاريخه إلى / 1215 – 1219م / الموجود في اسطنبول ، وكذلك الصورة الاستهلالية الموجودة في كتاب ( الترياق ) الموجود في فيينا حيث أن هاتين الصورتين تتضمنان حاشية متقنة وحسب أسلوب الفن العربي الذي يعود إلى مدرسة الموصل الفنية.
الزخارف القرآنية ( من أواخر القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر ):
بالإضافة إلى الرسوم المصنوعة لأغراض حية القصور وفي المراكز الحضارية ، كان هناك صنف ثالث من فن الرسم وكان تاريخه موازياً لتاريخ الصنفين الآخرين ، ويتمثل هذا الصنف في الفن بزخرفة زيتية بحتة للمخطوطات وخاصة القرآن الكريم ، وهو فن زخرفة هندسية بالدرجة الأولى وبواسطة أشكال نباتية بصفة أشكال ثانوية ، ومن القرن الحادي عشر وصاعداً أضيف فن الخط اليدوي ليكون مكملاً للتصاميم ، وعلى الرغم من أن الزخرفة أصبحت نوعاً راسخاً في إضافة أعمال زيتية إلى القرآن الكريم ، غير أنها كانت قد جوبهت في البداية باعتراضات من قبل رجال الدين ، ولكن تلك الاعتراضات لم تؤدي إلى إعاقة تطور فن الزخرفة في نهاية الأمر ، وكانت الزخارف القرآنية الأولى عبارة عن أشكال زينيه تفصل بين الآيات القرآنية ، وبعد ذلك ظهرت الأشكال التي تفصل بين السور ، ثم أدخلت أيضاً بعد ذلك أشكال لتزيين الحواشي ثم أدخلت بعد ذلك التقسيمات المختلفة للنصوص القرآنية الكريمة ، وأخيراً ظهرت الصفحات الاستهلالية للسور القرآنية الكريمة بزخارف كاملة مع إضافة ما يماثلها أحياناً ، وفي نهاية السور.
ومن الأمثلة النموذجية على الصفحات التزينية الاستهلالية إحدى الصفحات المحفوظة الآن في مكتبة " شستربيتي " في ( دبلن ) ، وهذه الصفحة تعكس نوعاً من تصاميم ذات اتجاه أفقي في الزخرفة وهو نوع كثير الوجود بالقياس إلى الشكل المربع في الزخرفة أو التصميم العمودي.
ولهذا الأمرعدة أسباب منها أن المفاهيم الدينية تؤكد ضرورة أن يكون حجم المخطوطات القرآنية كبيراً وأن تختلف أشكال هذه الزخرفة عن زخرفة الكتب الأخرى التي تكون زخرفتها عمودية ، وكما كانت الحال في المخطوطات الرومانية القديمة ، وتتألف زخرفة الصفحة القرآنية المحفوظة في مكتبة شستربيتي من شكل مستطيل يحتوي على زخرفة مركزية مع وجود زخرفة أخرى في الحاشية ، وينعكس الشكل المتشابك من الزخرفة في الصفحة الاستهلالية المحفوظة في مكتبة شستربيتي بوجود حلقات في زوايا المربعين وتقاطع أضلاعها في الأعلى وفي الأسفل.
وكثيراً ما يكون من الصعب تعقب أصل الزخرفة في صفحة معينة من الصفحات الاستهلالية القرآنية.
ولكن من الواضح أن الصفحة القرآنية المحفوظة في مكتبة شستربيتي هي نسخة إسلامية مماثلة لصفحة الإهداء الواردة في المخطوط البيزنطي المشهور لـ سقراط الذي يعود تاريخه إلى عام / 512م / والمحفوظ الآن في المكتبة الوطنية في فيينا.