التأثيرات في فن العمارة الإسلامية











عرف العرب الجاهليون والقدماء أنماطا من فنون العمارة، ففي شبه الجزيرة العربية اعتمدوا على مواد كالحجر والجبس والخشب وما إلى ذلك من مستلزمات البناء.. ويمكن اعتبار بناء الكعبة أحد أبرز هذه النماذج.. أما في اليمن فكان للعمارة صيت رائع في مجال بناء السدود والقصور العظيمة ومنها قصر غمدان حيث استعمل اليمنيون الرصاص في أبنيتهم بصهره وصبه بين حجارة الأعمدة وفي أسسها لربطها وتقويتها، واستعمل العرب الجنوبيون القطران في البناء درءا للرطوبة ومنعا لتسرب المياه إلى أسس الأبنية، كما استعملوا المواد الدهنية النباتية لهذا الغرض.. واستعملوا الجص لكسوة الجدران لتبدو بيضاء ناصعة.. واتخذوا من الحجارة الملونة أداة للبناء فأبدعوا في تنسيقها وكسوا الأبواب والسقوف والأعمدة وبعض الجدران بصفائح الذهب والفضة والحجارة الكريمة وسن العاج والأخشاب الثمينة.. وكان في سد مأرب ومباني سبأ من الرقي العمراني ما يبرهن على عراقة العرب في حضارتهم منذ أقدم العصور.. وتتضح خطوات التطور العمراني من خلال ما اكتشفته البعثات الأثرية، حيث تبينت أنه تم تجديد بعض المدن، وكشفت الحفريات عن طبقات من البيوت فوق بعضها البعض.. وتبين أن اللبن قد استخدم في بعض الأبنية سواء كان مجففا تحت أشعة الشمس أو مشويا بالنار.. وقد بني مسجد الرسول الكريم باللبن، ويذكر أن الرسول كان يساعد بنقله.. ولعل استخدام اللبن يعود لقلة وجود الأحجار.
وقد عثر على آثار قلاع وحصون وأسوار بنيت باللبن، وكانت بيوت زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) من اللبن.. وفي حين انفردت يثرب عن مكة باستخدام الآجر واللبن والطين في بناء البيوت.. كانت بيوت أثرياء وسادات مكة تبنى بالحجر.. امتازت الطائف قديما ببيوتها الجيدة والمنظمة وسورها التاريخي.

أما البتراء فقد اشتهرت بآثار عمرانها الحجري.. الحصن والهيكل والمسرح المنحوت في الصخر والذي يتسع لزهاء أربعة آلاف إنسان.. فهي مدينة قدت من الصخر لتشد بعظمة الإنسان العربي.. وتدمر وما تقدم عبر آثارها ونصبها التذكارية ونقوشها وأطلال عمرانها الباقية وأعمدتها الشامخة وآثار هيكل الشمس فيها وأبراجها العالية ومدافنها المعروفة.. تروي سيرة عظمة إرادة الإنسان العربي وحضارته العريقة.

نقول هذا دون أن نتوغل عميقا في التاريخ فنعود إلى آثار بابل وأكاد ونينوى والأبراج المعلقة التي أذهلت العالم.. ودون أن نتوقف أمام معجزة الأهرامات..

في الحقيقة إن هذه المقدمة تؤسس للقول بإن بناة الحضارة العربية الإسلامية كانوا الخلف لسلف عظيم مبدع هم أولئك الأجداد العظام.

ولكن هل كانت لحظات النشوء الأولى للحضارة العربية الإسلامية بعيدة عن المؤثرات الأخرى لبناة الحضارات غير العربية التي وجدت خلال مراحل تاريخية موازية أو سابقة لولادة الإسلام؟.. وهل كانت الحضارة العربية الإسلامية قطعا من التاريخ.. أم تواصلا فذا ومبهرا استكمل أشواط الحضارة البشرية جمعاء وأضفى عليها من روعة ما هو جديد ومبدع؟ يبدو لي أن الاجابات على هذه الأسئلة تستدعي قراءة بعض ملامح التأثيرات التي أوجدتها الحضارات الأخرى في مسيرة الحضارة العربية الإسلامية.. ورصد الكيفية التي استقبل بها العرب المسلمون هذه المؤثرات وماهية المعطى الإبداعي الذي أنجزوه وحدود التقليد (إن وجد) ومدى الابتكار الذي قدموه.

وفي هذا السياق سنتوقف عند أبرز المؤثرات التي فعلت في توجهات وأعمال الفن العربي الإسلامي، وإظهار مدى وحجم هذه المفاعيل.

الأثر الأوروبي (البيزنطي والإغريقي والقوطي): تأثرت أشكال الفن الإسلامي الأولى بمؤثرات من الفن الإغريقي والروماني الذي كان قد استمر طوال سبعة قرون على الأقل كمحتل في منطقة بلاد الشام وأسس لتقاليده وأعرافه.

وسنجد أنماط هذا التأثير في الموزاييك والرسم الحائطي والزخارف في الفنون المعمارية وحتى طراز العملة وصك النقود.. وفي التيجان التي تكلل العمدان في مدينة الرقة السورية أو قرطبة الأندلسية حيث يظهر التقليد الروماني واضحا وكذلك في المباني الرائعة مثل قبة الصخرة في القدس والجامع الأموي والتي هي متأثرة بالمعمار البيزنطي أيضا.

إن البيزنطيين قد سعوا نحو تطوير فن التصوير إلى الكمال.. بسبب كون الطبيعة المفردة للمسيح هي المدد الأعظم للتركيز على الوحدة الإلهية، ومن هنا يبدو التركيز على دور الأيقونة في الفن البيزنطي ذي الطابع المسيحي.. الأمر الذي رفضه ونفاه الفن الإسلامي.. لكنه تأثر بدقة وروعة هذا الطراز من الفن.. فلقد استخدم الحكام الأمويون القصور الرومانية الخربة بعد أن رمموها، مثل قصر الموقّر الذي رمّمه الخليفة يزيد بن عبدالملك، وجمعله مركزا لقصور البادية.. وقد أحاط الأمويون قصورهم بأسوار أشبه بأسوار القلاع الرومانية مع بعض الاختلاف.. فالقلاع الرومانية محصنة بأبراج مربعة الشكل، بينما أبراج الأمويين اسطوانية الشكل أي انهم أخذوا عنهم الفكرة وأضافوا إليها أساليب المعمار والزخارف.

فقد استعمل الرومانيون النتوءات للانتقال بين تفصيل فني معماري وآخر (القبة والزاوية التي ترتكز عليها) وعمد المسلمون إلى تطوير هذا الأسلوب الذي لا يرضي حاجة الفنان المسلم للوضوح الهندسي والإيقاع المفضل.. لأن أسلوب النتوء يتضمن تغييرا للشكل وكسراً لسكونه وتسلسله التأملي.

لقد عرف الفن الإسلامي، القبة المضلعة أو العقد المضلع المشابه للعقد القوطي، وقد تطورت هذه الطريقة عند المسلمين بطريقة تميزها بدرجة واضحة عما هو موجود في الفن المسيحي وامتلكت مفهوما مختلفا عما هو عند الفن القوطي، حيث تبدو الطريقة عند القوط على شكل التقاء بين القوى التي تصعد بواسطة العمدان نحو الأعلى للالتقاء عبر الضلع مع تاج العقد.. أما عند المسلمين فتبدو منتشرة من الأعلى إلى الأسفل في وحدة كلية.. إنه الفرق بين مفهوم التقاء (الأب والابن) عند المسيحيين.. ومفهوم الذات الإلهية الراسخة الكلية الكمال والمطلقة عند المسلمين وحقيقة الإله الذي لم يلد ولم يولد.

ويميل بعض المؤرخين إلى اعتبار التشابكات الزخرفية العربية مشتقة من أفاريز الموزاييك الروماني والتي كانت لاتزال تستعمل في سوريا في عصر الأمويين.

إن الفن الإسلامي قد أخذ موتيفات قديمة وطورها بعبقريته فجاءت تحتوي على تعقيدات هندسية وكيفيات إيقاعية مفتقدة في شبيهها الروماني. لاسيما وأن التشابكات العربية تقدم الفراغ المملوء والمساحات الخالية، والتصميم وأرضيته في صورة خاصة بحيث يكون لكل منهما قيمة متعادلة مع الأخرى ومتوازنة (وهذه ميزة خاصة في الفن الإسلامي).

لقد اعتمد الرومان على استخدام الكتل المعمارية الضخمة الأمر الذي تبدى في القلاع والحصون والأسوار والقصور الرومانية القديمة.. حيث نجد الكميات الهائلة من الحجارة الضخمة المتلاصقة بالملاط.. ولقد أسرف الرومانيون في هذا المجال بحيث أعطوا أكثر ما يمكن من شعور القوة والصلابة والمهابة.. وكان للرومان فضيلة استخدام الأقواس نصف الدائرية في أعلى البوابات العملاقة والنوافذ والإطلالات الضخمة فوق التلال والممرات المؤدية إلى باحات المسارح الكبيرة.. هذه الأقواس التي تستند على كتل الأعمدة العالية.. ولكن الفنان المسلم أخذ عنهم هذه الأقواس نصف الدائرية وعمل على تطويرها والتشكيل فيها فأبدع العرب المسلمون نماذج عديدة من الأقواس فرأينا الأقواس نصف الدائرية ونصف الأهليلجية وتلك التي تأخذ شكل حدوة الحصان والقوس المنبسط والمفتوح والقوس المدبب والقوس المقرنص والقوس المركب.. ساعد في هذا الابتكارات العديدة التي توصل إليها الفنانون المسلمون في مجال التيجان والأعمدة والمقرنصات وحل المسائل الميكانيكية والهندسية وتوازن القوى الجاذبة والنابذة.. ويبرز هنا مثال المهندس المسلم سنان الكبير الذي استطاع أن يتفوق على إنجازات الفن المعماري المذهل في بناء كنيسة أيا صوفيا التي بقي الفن المسيحي يعتز ويفتخر بهذا الانجاز الفريد.

لقد استطاع الفن الإسلامي أن يبتلع طرز الفن المعماري الأوروبي ويهضمها ويبدع نسقا مميزا في فن العمارة الإسلامية لا يدانيه أحد.. لقد زال شيئا فشيئا كل أثر إغريقي أو روماني أو قوطي وبقي الفن الإسلامي بروحه وخصوصيته الصافية.. باستثناء بعض الأوابد الباقية في الأندلس.

وفي مجال آخر وهو تخطيط المدن نجد كيف اتبعت المدن الأولى في الإسلام التخطيط المعروف للمدن الرومانية ذات المحورين.. ثم بدأ ظهور المدن المستديرة أو الدائرية.. فالمدينة القديمة في بغداد، كانت مستديرة أو دائرية، والشوارع تتفرع من المركز، والمركز في المدينة يكون خاويا على قصر الخليفة والجامع الكبير.. وتحيط بها الأبواب المحصنة.

ومفهوم المدينة الدائرية يرتبط بمفهوم الكون.. ففي هذه المدينة صورة الوحدة الكاملة، وشكلها يظهر طريق المرء الذي يندمج بنفسه داخل الكون.. إن ميدان المدينة الذي يشير إلى المحاور الأصلية، ما هو إلا تعبير عن الحياة المقيمة والصورة الساكنة المتزنة للكون.

لكن لم يستطع المجتمع الإسلامي أن يتقبل أيا من هذين النمطين من المدن.. وهكذا هجرت المدن الدائرية نتيجة القلاقل وبرزت المدينة العاصمة التي تشكل امتدادا لقصر الحكم. وتشمل إحياء مدينة سكنية وحدائق وثكنات ومصانع فنية وأسواق.. حسب تخطيط مهندس البلاط، أما المدينة التجارية فتكون مدينة جامعية في الوقت نفسه الذي تحتوي قلعة وتتطور بطريقة عملية.. وثمة مدن نمت وتطورت بشكل عفوي.

أخذ تخطيط المدن الإسلامية شكله العام وواقعه وشخصيته الروحية.. بحيث تستجيب للمتطلبات المادية وهذا ما يميزها عن المدينة المسيحية التي تميل إلى تفكيك الاحتياجات الجسدية، النفسية والروحية للمرء.

وثمة من يرى أن هناك ملامح ينظر إليها على أنها إسلامية تماما يرجع تاريخها إلى ما قبل الرسول.. فنجد أن تخطيط المسجد مثلا، كان قائما على أفكار موجودة قبل الإسلام.. والحمام يتبع النموذج الروماني الأصلي.. كذلك في الفنون الزخرفية نجد أن تصميمات النبيذ والعنب والوحدات الدائرية على المنسوجات.. ترجع إلى تاريخ ما قبل الإسلام، وكان الرومان هم أبرز الحضور وأقواهم في مناطق بلاد الشام، فكان من الطبيعي أن يكون لهم ذاك الأثر في المراحل الأولى من عمر الإسلام.. ولكن الفنان المسلم لم يكن عاجزا إطلاقا عن الابتكار بل فعل ذلك في مجالات عديدة، وإن كان حضور التأثير ينطبق على تقنيات عدة مثل تطعيم البرونز بالفضة وغزل السجاد.. وكذلك التصوير فإننا مع هذا نجد أشياء ابتكرت ابتكارا خاصا.. مثل لمعان الدهان والرسوم على الفخار والخزف والتي قلدت في أوروبا وأيضا ابتكارات في تصميمات معينة خاصة الأرابيسك.

لقد كان للفن الإسلامي من حيث البدء تقليدا بيزنطيا.. لكن هذه التقاليد تغيرت وتبدلت لتصبح عربية إسلامية.. بعد زوال الأثر البيزنطي إلى حد كبير.

الأثر الساساني الفارسي: إذا كان نتاج بلاد الشام متصل بالفن الهيلنستي والبيزنطي، فإن إنتاج العراق يبدو شديد الاتصال والتأثر بالفن الساساني.. فقد كانت قصور سامراء مزخرفة بالحصى على الطراز الساساني.. ووجدت رسومات حائطية في حفائر القرن الثامن للقصر العباسي في سامراء حيث كانت هذه الرسومات متأثرة بالأسلوب الساساني.

لقد كانت فارس في صدارة من تأثر بها الإسلام، فقد حمل الفن الفارسي مؤثراته الخاصة، وما تأثر به هو كالفن الصيني إلى ميدان التفاعل في الفن الإسلامي، وحاول الفنانون الفارسيون خلق تقاليد فارسية جديدة خاصة بهم (خصوصا في مرحلة مد الشعوبية) ولكنهم لم ينجحوا إذ كان الطابع الإسلامي هو الأقوى والأبرز والأعم.

وبرز أسلوب فني جديد في مدينة تبريز الفارسية الأصل والجغرافيا، الإسلامية الطابع والانتماء، وقدمت أعمالا فنية غاية في الدقة واللطف في تشكيلاتها وألوانها، تبهج العين، بمنتهى المهارة.. سواء فن المعمار أو فنون الزخرفة وصناعة السجاد وتزييناتها.

إن تكتيك الألواح الجصية المحفورة والمنقوشة بنماذج متكررة والذي يعتبر أهم وسيلة للزخرفة كان موجودا أصلا في الامبراطورية الساسانية.. ولكنه في الاسلام تطور تطورا كبيرا خاصة في العراق وفارس.. والفارسيون بطبيعتهم وثقافتهم، يرون الأشياء بعيون غنائية، حيث نشاطهم الفني وكأنه لحن داخلي.. لقد قيلت كلمة في الشرق مؤداها «إن اللغة العربية هي لغة الله، والفارسية هي لغة النعيم».. وهذه الحكمة تبين حقيقة الفرق بين ما هو موجود في فن العمارة في المغرب حيث الهندسة البلورية للأشكال، والعمارة الفارسية بقبابها الزرقاء وديكوراتها ذات الأزهار.

في قصر الجوسق الخاقاني الذي شيده المعتصم تبدو التأثيرات الساسانية كالديوان الكبير والأفنية المكشوفة التي في وسطها نافورات، والبهو الكبير المغطى بعقود نصف دائرية. وامتد الأثر الساساني كذلك في المجالات الأخرى من المعمار فنجد الميل دائما للفسحات المفتوحة في صحن المسجد الأمر الذي نفتقده كثيرا في مناطق بعيدة عن متناول الأثر الساساني.

ويدين فن التخييل (التمثيل) كأحد أنماط الفن في الفترة الأولى إلى فنون المناطق المفتوحة، خاصة مصر وسوريا ووسط آسيا وفارس.. وندرك الآن مدى التأثير الفارسي على الفن هذا عند العباسيين حيث أخذوا عنهم طرزا مختلفة في مجال هذا الفن المسرحي غالبا.. وحتى فن البروتوكول وقواعده الذي يمكن أن نراه في نسق فن الديبلوماسية نقلت أساليبه من الفارسيين إلى الأمويين أواخر أيامهم ومن ثم العباسيين في أصول التعامل مع القائد والوزير وقائد الجند والشرطة وكيفية تنسيق الدواوين والمراسلات والسفراء وممثلي البلدان.. لقد كان لإيوان كسرى شكل من أشكال الحضور في الديبلوماسية.

ونستطيع كذلك أن نجد أصول الأشكال التزيينية النباتية في الخط العربي في الفن الساساني فلم يكن التطوير الذي تم في أشكال كتابة الخط العربي وزخرفته وتزيينه والذي ساهمت فيه عناصر مسلمة غير عربية بعيدا كثيرا عن هذا التأثير بل إن الفارسيين أخذوا لكتابة لغتهم الفارسية رسم الخط العربي.

الأثر التركي برز الطابع التركي كمؤثر اخر في الفن الإسلامي، وكانت مميزاته بامتلاك عنصر فطري أو طبيعي دائم وتجليات المناظر التي تعكس الطبيعة القاسية للأرض التركية (حيث الجبال الشاهقة والهضاب المرتفعة والأودية). وكذلك اختلاف الألوان، حيث تتسم الألوان ذات الطابع التركي بميل نحو القوة والقسوة وشيء من الخشونة.. بموازاة رقة وشاعرية الطابع الفارسي (ربما بسبب الليونة في الطبع والسهولة في الأراضي السهبية الشاسعة في بلاد فارس).

لهذا تفضل الرسوم التركية الأشكال الكبيرة والمناظر الأمامية أو الجانبية الكاملة، وهي دلالات القوة والصلابة.. إنه الطابع التركي في الفن الذي اندمج شيئا فشيئا في النسق الإسلامي العام.

وتركت الطبيعة التركية أثرها في تطور الجامع العثماني بطريقة خاصة ففي البداية كان هناك تنويع بسيط لفناء المصلى المغطى بسقف أفقي والمدعم بالعمدان ثم حلت محله سلسلة القباب التي ترتكز كل واحدة على أربعة أعمدة.. وهذه الطريقة للجامع العثماني جعلت الفراغ الداخلي للجامع منفصلا عن الفناء وهذا الانفصال مبرر بخشونة الأناضول.

في الفن الإسلامي تبدو العبقرية التركية التي تكشف عن نفسها بقوة تركيبية معينة يتصور البعض أنها الروح الاستبدادية التي هي من صفاتهم.

إن الإيرانيين والأتراك صنعا مشتركين أثرا خاصا لهما في الفن الإسلامي.. وثمة العديد من القصور ذات الطابع التركي مثل قصور (ديار بكر وقوباد باد) وهما من أوائل القصور التي حوت الزخارف المعمارية التركية.

وبالرغم من أن الأتراك العثمانيين استمروا في استعمال بعض الموتيفات التركية الهندسية القديمة، كالنماذج الثمانية والسداسية حتي القرن السادس عشر، فإن المدى الواسع الفخم للحفر الهندسي وأعمال القرميد ذات السمات الخاصة للغاية في القرن الثالث عشر للفن الأناضولي ابتدأت في الموات بعد ذلك. وقد حل محل الموتيفات الهندسية في الأزمنة العثمانية الموتيفات الزهرية، التي كانت مختلفة عن التقاليد النباتية اللولبية للفن الأناضولي. إن الأشكال النباتية، كانت جزءا من الرمزية الدينية، فصورة الوردة كانت تظهر في كتاب الصلاة التركية.. لكي تفي بالغرض.

عموما ترك الأتراك أثرهم في الفن الإسلامي عند بدايته.. ثم اندمج خلفهم وبشكل أساسي العثماني في مسيرة الإبداع العربي الإسلامي.

الأثر المغولي: أدخل المغول تأثيرا غير مباشر في الفن والتكنيك، إذ أحضروا معهم فنانين وحرفيين صينيين. وأصبح هذا التأثير مباشر مع غزو المغول للمنطقة، وتبدى التأثير الصيني من خلال تكنيك الإضاءة ولونها وكذلك من خلال الشكل والرمز ككتل المياه والسحب والحيوانات الأسطورية وفي مقدمتها التنين والعنقاء.

وظهر التأثير الصيني كذلك من خلال تقاليد الفن الصيني غير المقيد والسطوح اللانهائية.. هذه التكوينات الحافلة بالتفاصيل الدقيقة والألوان الخاصة المميزة.

وتكرر حضور الأثر المغولي في تكرار الغزوات التي شنوها نحو هذه المنطقة كما تركوا أثرهم في الفنين الفارسي والهندي.

ويملك الرسام المغولي حاسة فريدة للمنظور، وقد سعى المغول بأكثر السبل وحشية لإبراز صورة حضورهم الخاص الذي يعطي عناية فائقة للرسومات الجميلة والتصويرات عن الأعمال التاريخية التي صنعوها، والرومانسيات ومشاهد الصيد والبورتريهات الجماعية.. وتجلى هذا السعي من خلال محاولاتهم تدمير الإبداع الذي وجدوه في بلاد المسلمين.

ورغم بلوغ المغول ذرى جيدة في مجال الفن التصويري والرسوم إلا أنهم وخلال أقل من قرنين قد انطفأوا وذبلت زهور ابداعهم وبقي الفن الإسلامي مستمرا.

لقد استطاع الإسلام أن يمتص المغول بسرعة.

الأثر الهندي حضر فن رسم المنمنمات الهندية، التي أبرز سماتها الرسومات الصغيرة جدا التي تأخذ طابعا أفقيا دائما، ربما انسجاما مع طبيعة الهنود السلسة الرقيقة الناعمة.

ودون أن ننكر الفن الهندي لم يكن بعيدا عن التأثيرات الصينية أثناء غزو المغول لهم أو قبل وبعد ذلك.. وتبدو التأثيرات الهندية في ضريح تاج محل في القبة والمآذن وطراز المعمار.. إن زخارف هذا المبنى رائعة، ولقد كسيت جدران المبنى كله بألواح مرمرية ناصعة البياض ومزخرفة بروعة، كما أن هناك زخرفة مذهلة على جدران المبنى الداخلية.. وزخرفت الجدران بقطع من الأحجار الملونة الرائعة التطعيم.. وتقدمت المبنى بحيرة ماء تنعكس صورته فيها وهو أمر لم يكن مألوفا في الفن المعماري في هذه المنطقة.

خاتمة في كل الأحوال نستطيع القول لقد اعتمد المسلمون في البدايات على المهندسين والبنائين والصناع الإغريق والبيزنطيين والفرس والقبط. كما اعتمدوا اعتمادا كبيرا على الحضارات السابقة لهم ولغيرهم.. واستطاعوا أن يقدموا للبشرية عيون الابداع المتميز في نسق الفن العربي الإسلامي.

إن الحضارات تمتزج وتأخذ من بعضها البعض، وتثبت أن الفن الإسلامي يتسم بالذوق والإحساس المتأصل بالجمال، ولقد ابتكر المسلمون فنونا بهرت العالم، ونهلت أوروبا منها في قرون عدة.. إن الفن الاسلامي ذو شخصية واضحة المعالم، رغم تأثره في بداياته الأولى بفنون الأمم المجاورة، والفن الإسلامي عالم متنوع الإنتاج شكلا وزخرفة.. وله دائما طابعه الخاص وعبقريته الفريدة. وهذا ما يسجله له الجميع.