الطوفان:
ثم أصدر الله تعالى حكمه على الكافرين بالطوفان. أخبر اللهتعالى عبده نوحا أنه سيصنع سفينة (بِأَعْيُنِنَاوَوَحْيِنَا) أي بعلم الله وتعليمه، وعلى مرأى منهوطبقا لتوجيهاته ومساعدة الملائكة. أصدر الله تعالى أمره إلى نوح: (وَلاَتُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) يغرقالله الذين ظلموا مهما كانت أهميتهم أو قرابتهم للنبي، وينهى الله نبيه أن يخاطبهأو يتوسط لهم.
وبدأ نوح يغرس الشجر ويزرعه ليصنع منه السفينة. انتظر سنوات،ثم قطع ما زرعه، وبدأ نجارته. كانت سفينة عظيمة الطول والارتفاع والمتانة، وقداختلف المفسرون في حجمها، وهيئتها، وعدد طبقاتها، ومدة عملها، والمكان الذي عملتفيه، ومقدار طولها، وعرضها، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء. وقال الفخر الرازيفي هذا كله: أعلم أن هذه المباحث لا تعجبني، لأنهاأمور لا حاجة إلى معرفتها البتة، ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلا. نحننتفق مع الرازي في مقولته هذه. فنحن لا نعرف عن حقيقة هذه السفينة إلا ما حدثناالله به. تجاوز الله تعالى هذه التفصيلات التي لا أهمية لها، إلى مضمون القصةومغزاها المهم.
بدأ نوح يبني السفينة، ويمر عليه الكفار فيرونه منهمكا في صنعالسفينة، والجفاف سائد، وليست هناك أنهار قريبة أو بحار. كيف ستجريهذه السفينة إذن يا نوح؟ هل ستجري على الأرض؟ أين الماء الذي يمكن أن تسبح فيهسفينتك؟ لقد جن نوح، وترتفع ضحكات الكافرين وتزداد سخريتهم من نوح.وكانوا يسخرون منه قائلين: صرت نجارا بعد أن كنت نبيا!
إن قمة الصراع في قصة نوح تتجلى في هذه المساحة الزمنية، إن الباطليسخر من الحق. يضحك عليه طويلا، متصورا أن الدنياملكه، وأن الأمن نصيبه، وأن العذاب غير واقع.. غير أن هذا كله مؤقت بموعد حلولالطوفان. عندئذ يسخر المؤمنون من الكافرين، وتكون سخريتهم هي الحق.
انتهى صنع السفينة، وجلسنوح ينتظر أمر الله. أوحى الله إلى نوح أنه إذا فار التنور هذا علامة على بدءالطوفان. قيل في تفسير التنور أنه بركان فيالمنطقة،وقيل أنالفرن الكائن في بيت نوح، إذا خرج منه الماء وفار كانهذا أمرا لنوح بالحركة.
وجاء اليوم الرهيب، فار التنور. وأسرع نوحيفتح سفينته ويدعو المؤمنين به، وهبط جبريل عليه السلام إلىالأرض. حمل نوح إلى السفينة من كل حيوان وطير ووحش زوجين اثنين، بقراوثورا، فيلا وفيلة، عصفورا وعصفور، نمرا ونمرة، إلى آخر المخلوقات. كاننوح قد صنع أقفاصا للوحوش وهو يصنع السفينة. وساق جبريل عليه السلام أمامه من كلزوجين اثنين، لضمان بقاء نوع الحيوان والطير على الأرض، وهذا معناه أنالطوفان أغرق الأرض كلها، فلولا ذلك ما كان هناكمعنى لحمل هذه الأنواع من الحيوان والطير. وبدأ صعود السفينة. صعدت الحيواناتوالوحوش والطيور، وصعد من آمن بنوح، وكان عدد المؤمنين قليلا.
لم تكن زوجة نوح مؤمنة به فلم تصعد، وكان أحد أبنائه يخفيكفره ويبدي الإيمان أمام نوح، فلم يصعد هو الآخر. وكانت أغلبية الناس غير مؤمنة هيالأخرى، فلم تصعد. وصعد المؤمنون. قال ابن عباس، رضي الله عنهما: آمن من قومنوح ثمانون إنسانا.
ارتفعت المياه من فتحات الأرض. انهمرت من السماء أمطارا غزيرةبكميات لم تر مثلها الأرض. فالتقت أمطار السماء بمياه الأرض، وصارت ترتفع ساعة بعدساعة. فقدت البحار هدوئها، وانفجرت أمواجها تجور على اليابسة، وتكتسح الأرض. وغرقتالكرة الأرضية للمرة الأولى في المياه.
ارتفعت المياه أعلى من الناس. تجاوزت قمم الأشجار، وقممالجبال، وغطت سطح الأرض كله. وفي بداية الطوفان نادى نوح ابنه. كان ابنه يقف بمعزلمنه. ويحكي لنا المولى عز وجل الحوار القصير الذي دار بين نوح عليه السلام وابنهقبل أن يحول بينهما الموج فجأة.
نادى نوح ابنه قائلا: يَابُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ
ورد الابن عليه: قَالَسَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء
عاد نوح يخاطبه: قَالَ لاَعَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ
وانتهى الحوار بين نوح وابنه:
وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
انظر إلى تعبير القرآن الكريم (وَحَالَبَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أنهى الموج حوارهما فجأة. نظرنوح فلم يجد ابنه. لم يجد غير جبال الموج التي ترتفع وترفع معها السفينة، وتفقدهارؤية كل شيء غير المياه. وشاءت رحمة الله أن يغرق الابن بعيدا عن عين الأب، رحمةمنه بالأب، واعتقد نوح أن ابنه المؤمن تصور أن الجبل سيعصمه من الماء، فغرق.
واستمر الطوفان. استمر يحمل سفينة نوح. بعد ساعات من بدايته،كانت كل عين تطرف على الأرض قد هلكت غرقا. لم يعد باقيا من الحياة والأحياء غيرهذا الجزء الخشبي من سفينة نوح، وهو ينطوي على الخلاصة المؤمنة من أهل الأرض.وأنواع الحيوانات والطيور التي اختيرت بعناية. ومن الصعب اليوم تصور هول الطوفانأو عظمته. كان شيئا مروعا يدل على قدرة الخالق. كانت السفينة تجري بهم في موجكالجبال. ويعتقد بعض العلماء الجيولوجيا اليوم إن انفصال القارات وتشكل الأرض فيصورتها الحالية، قد وقعا نتيجة طوفان قديم جبار، ثارت فيه المياه ثورة غير مفهومة.حتى غطت سطح الجزء اليابس من الأرض، وارتفعت فيه قيعان المحيطات ووقع فيه مانستطيع تسميته بالثورة الجغرافية.
استمر طوفان نوح زمنا لا نعرف مقداره. ثم صدر الأمر الإلهيإلى السماء أن تكف عن الإمطار، وإلى الأرض أن تستقر وتبتلع الماء، وإلى أخشابالسفينة أن ترسو على الجودي، وهو اسم مكان قديم يقال أنه جبل في العراق. طهرالطوفان الأرض وغسلها. قال تعالى في سورة (هود):
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِيوَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداًلِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) (هود)
(وَغِيضَ الْمَاء) بمعنىنقص الماء وانصرف عائدا إلى فتحات الأرض. (وَقُضِيَالأَمْرُ) بمعنى أنه أحكم وفرغ منه، يعني هلكالكافرون من قوم نوح تماما. ويقال أن الله أعقم أرحامهم أربعين سنة قبل الطوفان،فلم يكن فيمن هلك طفل أو صغير. (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) بمعنىرست عليه، وقيل كان ذلك يوم عاشوراء. فصامه نوح، وأمر من معه بصيامه. (وَقِيلَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أيهلاكا لهم. طهر الطوفان الأرض منهم وغسلها. ذهب الهول بذهاب الطوفان. وانتقلالصراع من الموج إلى نفس نوح.. تذكر ابنه الذي غرق.
لم يكن نوح يعرف حتى هذه اللحظة أن ابنه كافر. كان يتصور أنهمؤمن عنيد، آثر النجاة باللجوء إلى جبل. وكان الموج قد أنهى حوارهما قبل أن يتم..فلم يعرف نوح حظ ابنه من الإيمان. تحركت في قلب الأب عواطف الأبوة. قال تعالى فيسورة (هود):
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْأَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) (هود)
أراد نوح أن يقول لله أن ابنه من أهله المؤمنين. وقد وعدهالله بنجاة أهله المؤمنين. قال الله سبحانه وتعالى، مطلعا نوحا على حقيقة ابنهللمرة الأولى:
يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُصَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنتَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) (هود)
قال القرطبي -نقلا عن شيوخه من العلماء- وهو الرأي الذينؤثره: كان ابنه عنده -أي نوح- مؤمنا في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه: (إِنَّابُنِي مِنْ أَهْلِي) إلا وذلك عنده كذلك، إذ محالأن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم. وكان ابنه يسرّ الكفر ويظهرالإيمان. فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب. أي علمت من حالابنك ما لم تعلمه أنت. وكان الله حين يعظه أن يكون من الجاهلين، يريد أن يبرئه منتصور أن يكون ابنه مؤمنا، ثم يهلك مع الكافرين.
وثمة درس مهم تنطوي عليه الآيات الكريمة التي تحكي قصة نوحوابنه. أراد الله سبحانه وتعالى أن يقول لنبيهالكريم أن ابنه ليس من أهله، لأنه لم يؤمن بالله، وليس الدم هو الصلة الحقيقية بينالناس. ابن النبي هو ابنه في العقيدة. هو من يتبع الله والنبي، وليس ابنه من يكفربه ولو كان من صلبه. هنا ينبغي أن يتبرأ المؤمن من غير المؤمن. وهنا أيضا ينبغي أنتتصل بين المؤمنين صلات العقيدة فحسب. لا اعتبارات الدم أو الجنس أو اللون أوالأرض.
واستغفر نوح ربه وتاب إليه ورحمه الله وأمره أن يهبط منالسفينة محاطا ببركة الله ورعايته. وهبط نوح من سفينته. أطلق سراح الطيور والوحشفتفرقت في الأرض، نزل المؤمنون بعد ذلك. ولا يحكي لنا القرآن الكريم قصة من آمن معنوح بعد نجاتهم من الطوفان.