الخطاط جاسم النجفي: الخط لعب دوراً مهما في تأريخ الأمة
عندما تتكلم معه يشعرك بالخجل لتواضعه ودماثة خلقه في حين انك متيقن من قربك لعلم راسخ رسوخ حبه لمدينته التي ابدلها بعشرات العواصم التي قدمت له عروضها ومغرياتها.. وحين التمسنا منه اجراء لقاء لم يبخل علينا بوقته الثمين ولم يتذمر لتعثره عدّة مرات، مرة بسبب انقطاع الكهرباء واخرى لانشغاله المتواصل او ربما دعوة من مكان ما.. لانه ذلك الرجل الذي يرى ان العمل الجميل والإتقان والدقة هي عامل مشترك لجميع الفنون لانها تصب في مجرى واحد..انه جاسم النجفي..
*انصرف الناس منذ القدم الى تعلم فن الخط ودراسته فبرز فيه اناس قديرون كشفوا كنوزه الفنية واوضحوا مقاييسه ونسبه، ولما كانوا على درجات متباينة من الملكة في ضبط الخطوط العربية، فقد خلقت هذه الحالة التباين والتفاوت في قدراتهم..لذا كيف يستطيع المتلقي التمييز بين الغث والسمين وسط هذا الكم الهائل من الخطاطين؟
- هذه المسألة تتعلّق بالثقافة والإطلاع الواسع فكلّما كانت المتابعة في هذا الموضوع كان المتلقي أكثر خبرة والخبرة تاتي من التعرف على مختلف الاعمال الفنية عن طريق السفر والزيارات وأقصد زيارات المتاحف والرموز الموجودة داخل وخارج العراق كتركيا وسوريا ومصر ودول المغرب العربي وغيرها اضافةً إلى وجود المتاحف الأوربية الغنية بتراثنا الخطي وعندما كنت خارج العراق كنت أفاجأ عندما يعطونني عربوناً ممتازاً ومغرياً وأقول لهم ما المطلوب مني فيقولون لي أي قصاصة ورق من تلك التي ترميها، أحسبها علينا لقاء مبلغ مغري فتصور اهتمامهم.
* من اين يستمد الخطاط النجفي مواضيع لوحاته ؟ وكيف يستطيع ان ياتي بجديد وينفرد عن اقرانه باختيار مواضيع لوحاته؟ خصوصا ان الخطاط المتميز يتمتع برغبة الميل الى الاستحداث والابتكار؟
- من وجود العتبات المقدسة وما تحمله من معالم غنية بالتراث الهائل المليء بالأعمال الخطية والزخرفية والتي يحسدنا كل الفنانين في العالم عليها أما الحداثة والإبتكار فتطرقت إليه منذ بدايتي قبل ثلاثين عامأً ونيف وهذا موجود وموثق في الصحف منذ تلك الفترة وقد كانت لي بمثابة قفزة كبيرة نحو التحضر والتألق حتى أختيرت لوحاتي مع لوحات الفنانين الكبار الرواد أمثال جواد سليم وفائق حسن ومحمد علي شاكر وشاكر حسن آل سعيد ومحمد غني حكمت.
* كيف يرى جاسم النجفي التطور الواسع للخطوط العربية ؟ وهل هو مع الاحتفاظ بالموروث من اساليب الخط العربي ام مع ضرورة ايجاد انماط اخرى من الخطوط العربية لتواكب العصر..خصوصا ان الحرف اليوم هو اداة من ادوات الاعلام ؟
- هذا هو أمر طبيعي فالإسلام والقرآن الكريم دخل قلوب البشر من كل الأصناف فالفنان المسلم استمد ابداعه بكل قوة وجرأة وفجّر طاقات فنية كبيرة فالفتوحات الإسلامية امتدت مسافات كبيرة واصبح الفن الإسلامي موحداً لبني البشر والتأريخ الإسلامي الواسع كلما تصفحنا ملفاته ترى أفواجاً من الفنانين الكبار سواءً كانوا من الهنود او من الصينيين أو الإيرانيين أو الأتراك إضافةً لدول عربية كدول المغرب العربي والأندلس وكذلك العهد الفاطمي والسلجوقي وخارطة الإسلام امتدت إلى جميع أنحاء المعمورة والإبتكارات والخطوط التي تفضلتم بذكرها هي عبارة عن ولادة طبيعية لهذه البيئة التي ساعدت على استيعاب الطاقات والإبتكارات وخصوصاً في تركيا كما نقرأ عن السلاطين الذين كان معضمهم من الخطاطين وكانوا يرعون الخط والخطاطين بأنفسهم حتى كان الخطاط الجيد والمزخرف الجيّد يعيش في قصور السلاطين وكانوا يزوجون الخطاطين والخطاطات ولدينا مثلاً مشرّفاً فالخطاط الكبير محمود جلال الدين تم زواجه من الخطاطة الكبيرة أسماء عبرت وخطوطهما معروفة في الكتاب الشهير (مصور الخط العربي)
فالإهتمام الواسع من قبل رأس السلطة والمعنيين يجعل حالة الإبداع والإبتكار والتواصل مسألة طبيعية عكس ما موجود لدينا حالياً وما نراه من إهمال السلطات فيجعل الإساءة والتدني في الذوق والكتابة السيئة والألوان السيئة على الجدران ومداخل المدن والمحلات تدل على أهمال كبير من قبل الجميع المسؤولين والناس العاديين فالجميع مشترك بهذه الإساءة. حتى وصلنا الى مرحلة متدنية أكثر وهي وجود أخطاء إملائية وإهمال في الذوق في حياتنا والعمل السيء لمعامل الكاشي الكربلائي وعدم وجود ورشات فنية محترفة للمينيا والذهب وغير ذلك.
*كيف دخل جاسم النجفي عالم الخط؟ وماهي اهم مدارس الخط العربي التي تأثر بها؟ وهل تاثر النجفي بخطاط معين؟
من العصا إلى القصبة
من غرائب ما تحدث به النجفي انه كان في مرحلة الدراسة الابتدائية يعاني من رداءة خطه، وكثيرا ما كان معلم الصف الأول يضربه على رأسه بالعصا بسبب كتابته المائلة عن السطور. وأذكت هذه الضربات نار الكرامة لديه لينكب على ممارسة الكتابة والخط ليصبح في مرحلة السادس الابتدائي خطاط المدرسة بلا منازع. وعن أبرز الشخصيات التي تأثر بها وغدت مثله الأعلى في أسلوب الخط، قال النجفي:" الأستاذ المرحوم هاشم البغدادي الذي مافتئت أن قرأت كراسه التعليمي للخط الذي كان يوزع في دور التعليم العالي في السبعينات حتى تأثرت به أيما تأثر، ومما يعاب علي أنني أقلد أسلوب الكتابة والخط لدى البغدادي وفي ذلك شرف عظيم لي". ويعتز النجفي بأولى آثاره المحفوظة في مدينة النجف حين اشترك في مسابقة لكتابة كلمة (ثورة العشرين) بمساحة مترين في متر، وفاز في تلك المسابقة، وعن تلك المشاركة يقول: "تم اعتماد خطي بالأسلوب الكوفي على نصب ساحة ثورة العشرين التي تم تهديمها مؤخرا لإقامة جسور ومشاريع إنشائية حديثة مكانها".
- عند طفولتي وأنا أنظر إلى عناوين الكتب والخطوط في العتبات المقدسة التي هي مصدر إلهامي وحبي وتأثري الكبير بها عثرت بالصدفة على كتاب (قواعد الخط العربي) الذي كان بالنسبة لي الإنطلاقة.. حتى وصلت إلى مرحلة عندما يعاب على خطي يقولونان جاسم النجفي ماهو الا نسخة طبق الأصل من هاشم البغدادي) وفي الحقيقة إن هذا شرف كبير لي لأنه أرقى خطاط من خطاطي الوطن العربي وكراسته من أرقى الكراسات على مستوى العراق والعالم العربي وقد قال عنه الخطاط الكبير حامد الآمدي ـ آخر العمالقة الأتراك ـ بكلمته الشهيرة: ظهر الخط في بغداد ومات فيها على يد هاشم.
*اي الخطوط اقرب الى نفس الخطاط جاسم النجفي من دون بقية الخطوط العربية؟
- خط الثلث لأنه أصعب وأجمل وله القدرة الفائقة للتكيف والطواعية خصوصاً في الواجهات المهمة وعناوين الكتب الجميلة وخط التعليق هو الأقرب الآخر حتى قال عني كبار خطاطين إيران:لأول مرة نرى خطاطاً عربياً يجيد خط التعليق وبالمناسبة كثير من الذين لا يعرفونني يتوقعون بأني إيراني أو لي جذور إيرانية لشدة التقارب بالذوق الذي يحملونه… وهذا الأمر ليس بغريب لأن بيئتي التي عشت فيها في النجف كان لها تأثيرا كبيرا بما يحمله الكبار من الذوق العالي والفن الرفيع أمثال السيد مرتضى النجفي والآن هو في كرمانشاه والسيد مهدي القاضي والذي كانت آثاره منتشرة في الجوامع والمعالم الدينية في مدينتنا وبرأي الخاص ما المانع من أن تتأثر بأي شيء جميل ومهما تكن صفة هذا الشخص فأنا ومنذ بداية حياتي تأثرت كثيراً بالعلماء والشعراء الكبار كذلك قرأت عند المخترعين والموهوبين حتى من غير أديان أو من غير ملل وتأثرت كثيراً بسلوكهم وبإنجازاتهم فأنا إنساني أحب الجميع ولدي علاقات واسعة مع الجميع على سبيل المثال لدي علاقات واسعة مع فنانين من الهند والباكستان وإيران وأميركا وإيرانيين وبنكلاديشيين أما الدول العربية فإنهم كلّهم أصدقاء لي وأعتبرهم من ضمن العائلة القريبة عليّ. وعند مشاركاتي الدولية الواسعة اصبحت قريباً جداً إلى الكثير من فناني الشعوب المختلفة واتذكرهم ويتذكروني بالخير لأن الإبداع لا يفرق بين الشعوب إنما يوحدهم.
*بالتاكيد ان للخطاط النجفي العديد من الا عمال التي يعتز بها ؟ لكن ماهي اقرب هذه الاعمال الى نفسه؟
- خطوطي في جامع السيد عبد الأعلى السبزواري ومسجد الهندي ومسجد الجواد ولي خطوط كثيرة في جامع الحاج عطية الجبوري في حي الأمير وتتوّج أعمالي في الحضرة العلوية المقدسة والخطوط في الطوق الكبير لنصب ثورة العشرين في وسط مدينة النجف الاشرف من الداخل والخارج وبالخط الكوفي.
*يعمل بعض الخطاطين على المزاوجة بين الخط والرسم بطرق مبتكرة ؟ هل تجد ان الخطاط الجيد يجب ان يكون رساما ؟
-
الخط والرسم وجهان لعملة واحدة وهناك ذوق واحد مشترك بينهما هو الإبداع وحسن الأداء وربما يكون الرسام متألقاً ولديه ذوق عالي لا يمكن مقارنته بخطاط لا يمتلك هذه المواصفات وبالعكس ربما يكون الخطاط متألقاً ويمتلك مقومات العمل الراقي والمقارنة غير صحيحة لأن الإبداع دائماً هو الأساس.
*ماهي احلام جاسم النجفي وطموحاته؟ وهل وصل النجفي الى مرحلة القناعة؟
- حلمي الكبير هو التطور والتألق والإبداع ومن يعمل لمرحلة القناعة فإنه فاشل لأني أرى نفسي بعد هذا العمر الفني الطويل ما زلت في بداية الطريق الصحيح وإني أتأسف دائماً وأقول لنفسي لهذا لم أكن أفضل مما أنا عليه الآن.