ضوءٌ أبيضٌ قوي، سرير حديدي، وجسد لمخرج راقد بلا حراك. صوت نبضات القلب يتردد عاليًا في أرجاء الغرفة، وصوت جهاز قياس النبضات مضطرب ومنخفض. تشير النتيجة المعلقة على الحائط إلى أن التاريخ هو الثالث والعشرين من يونيو عام 1995، يقول المخرج عاطف الطيب الراقد على السرير، بلا حراك، أنه يستمع الآن إلى موسيقى شديدة الجمال. ينخفض صوت القلب الذي ينبض، ليتوقف، ويعلو بعده صوت جهاز قياس النبض، بنغمة عالية، وثابتة.
عاطف الطيب
مشهد البداية، لفيلم سواق الأتوبيس، هو بداية الخط الذي سيسير فيه عاطف الطيب طوال مشواره الفني الذي لم يتعدَ الخمسة عشر عامًا. حسن، سائق الأتوبيس، ذاهبًا لعمله في الصباح، وفي الخلفية، موسيقى لكمال بكير، هي في الأساس توزيعًا جديدًا وعبقريًا للحن “الحلوة دي” لسيد درويش.
يبدأ حسن، خط سيره بهدوء، لكن الأحداث لا تسير دائمًا كما نريد، يقطع هذا الهدوء، خبر حجز مصلحة الضرائب على الورشة التي يمتلكها أباه. لم يكن أمام حسن، سوى أن يبدأ في البحث عن حل لهذه المشكلة، لكن المشكلة الأكبر، أن كل شيء حوله ينهار، فزوجته تتركه، وأخوته يمتنعون عن مساعدة أباهم، بل ويطمعون في أخذ ما يستطيعون أخذه من الورث حتى قبل وفاة الأب.
يصل حسن إلى نهاية الخط، كل من كانوا ضمن رُكّاب الأتوبيس تركوه، عندما مات الأب. لقطة صامتة، وكاميرا تدور على وجوه الحاضرين، المشوّهة، ليتأملها المشاهد. يعود الصوت مرّة أخرى، عندما نسمع صوت صراخ أحد السيدات التي تمت سرقتها للتو.
يترك حسن الأتوبيس، ويركض خلف اللص، ليمسك به، ويضربه ضربات متتالية، ومع صراخ وسُباب عالٍ، وكأنه ينتقم من كل من دمروه ودمروا حياته وحياة والده، وفي الخلفية، تظهر نغمات نشيد بلادي بلادي، بتوزيع جديد لكمال بكير، فتبدأ معها رحلة عاطف الطيب، في ترسيخ مبدأ العدالة الناجزة.
بعد انتاج فيلم سواق الأتوبيس بعامين، ينتقل عاطف الطيب إلى المحطة التالية عبر فيلم
التخشيبة، ليحكي قصة دكتورة، تصادمت سيارتها مع سيارة أحد المواطنين، فأصرّ المواطن على عمل محضر في القسم، لتفاجئ الدكتورة، بعد إخلاء سبيلها – بمساعدة المحامي -، أنها مطلوبة على زمّة قضية أخرى، قضية سرقة وممارسة رذيلة.
ظلت تبحث الدكتورة، عن سبب إتهامها، بل ووجود شهود وصفوها وصفًا دقيقًا، وهي لم تفعل أي شيء مما هو مذكور في المحضر. يحاول المحامي أن يبحث عن خيط البراءة في قضية تتشابك كل خيوطها بشكلٍ شديد التعقيد، فيذهب إلى حيث تدله الأدلة، ويلتقي بكمال رستم، الشاب الذي اتهم الدكتورة بأنها سرقت منه مبلغًا من المال، بعد قضاءهم ليلة في شقته بالقاهرة، ليتضح فيما بعد، أن الأموال التي تم التبليغ عنها كمسروقات، هي أموال خاصة بأبيه، وخسرها هو في البوكر.
أما عن لماذا اتهم الدكتورة بالذات، فالسبب لأنها ضربته عندما حاول التحرش بها مرة منذ سنوات. المشكلة في هذه الحكاية، ليس الإتهام الظالم فحسب، لكن أن القانون لم يستطع إنصاف الدكتورة البريئة، لأن يديه مكبلتان، ولا يستطيع فعل شيء طالما لا توجد أدلة قطعية تثبت عدم وجودها في شقته ليلة وقوع الجريمة الوهمية.
قررت الدكتورة، عدم انتظار أمر القانون (المحكمة)، واستدرجت كمال إلى إحدى الشاليهات في بلدٍ ساحلية لتقضي عليه، ببساطة، لأنه حاول أن يغتصبها مرّة أخرى، لمعرفته أن القانون لن ينصفها، لعدم وجود/ثبوت الأدلّة.
أظن، أن هذا ما كان يحاول أن يقوله عاطف الطيب من خلال مشهدٍ كهذا، القانون لن يستطيع حمايتك طوال الوقت، ولن يأخذ حقك ممن ظلموك، لأنه عاجز تمامًا، عن إنصاف الضعفاء، في مواجهة أصحاب النفوذ والسلطة.
يغادر أحمد سبع الليل في فيلم البريئ بلدته حزينًا، كعود البوص الذي تم قطعه، ليصبح فيما بعد نايًا يُصدر صوتًا مليء بالحزن والآسى. يلتحق أحمد سبع الليل بالتجنيد الإجباري، ليذهب إلى أحد المعتقلات السياسية، كحارس ضمن مجموعة أخرى ممن تم اختيارهم من القرى والنجوع المختلفة.
في أول يومٍ له، يأمر الضابط أحمد سبع الليل بضرب زميله وبلدياته، فيفعل، بلا أي تردد، ثم يطلب من المجند رد الضربة لأحمد سبع الليل، فيفعل، كما فعل أحمد سبع الليل، بلا إحساس، ويعود الاثنان إلى أماكنهم، ليتحقق للضابط ما كان يريده بالضبط.
يتعرف أحمد سبع الليل على المكان كطفلٍ يتعلم المشي لأول مرة ويتعثّر، حدود سبع الليل لا تتعدى بلدته الصغيرة، هي الوطن بالنسبة له. يفاجئ أحمد سبع الليل، في يومٍ من الأيام، بعملية هروب، لأحد السجناء السياسيين، فيركض خلفه ويمسك به ويقتله، فيكافئة العقيد توفيق شركس، ويقول أنه قتل أحد أعداء الوطن، وأن كل من يدخلون إلى هذا المعتقل هم أعداء الوطن فلا داعي للتعاطف معهم.
تدخل سيارة ترحيلات جديدة إلى المعتقل، يقف أحمد سبع الليل وزملاءه، بانتظار أن يبدأوا حفلة الاستقبال المعهودة، للمعتقلين الجدد. ينزل المعتقلون من سيارة الترحيلات، واحدًا تلو الأخر، وتبدأ الحفل، ليفاجئ أحمد سبع الليل، بوجود حسين وهدان، صديقه الوحيد في البلد، ليدافع عنه ضد خراطيم أصدقاءه، التي مزقت جسده وجسد صديقه.
مرّت الأيام، بعد سجن أحمد سبع الليل وخروجه، وعودته إلى الخدمة بعد موت وهدان، وقف أحمد سبع الليل في مكان خدمته أعلى برج المراقبة، ممسكًا بسلاحه، ليوجهه إلى جميع من في المعسكر من ضباط، ويبدأ في ضرب النار بشكلٍ عشوائي، ليموت جميع من في المعسكر.
يعزف أحمد سبع الليل على الناي لحنًا حزينًا، ينزل من البرج على الأرض، ليفاجئ برصاصة من سلاح أحد المجندين الجدد، والذي يظهر على وجهه علامات البلاهة، فبعد قتله، ترك الجثة في مكانها، وأكمل خط سير خدمته، بلا إحساس، وكأنه عروس ظلت تتحرك بقوة الدفع، حتى بعد موت المُحرك الأساسي لها.
تم حذف هذه النهاية، بعد السماح للفيلم بالنزول إلى دور العرض، وذلك بناءً على إجتماع ثلاثي بين وزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الثقافة في ذلك الوقت.
يبدأ الخط الدرامي في فيلم كتيبة الإعدام، من نقطة الخيانة، لتصبح هي المحرك الأساسي لجميع الأحداث.
السويس، الخط الأول لإشعال فتيل الحرب، يقاوم الفدائيون العدو ببسالة، لكن المقاومة لا تستمر، بسبب وجود خلل خلقه فرج الأكتع، عندما تواطؤ مع العدو ضد أبناء بلده. يموت سيد الغريب، ويدخل حسن عز الرجال إلى السجن، ليخرج بعد أربعة عشر عاما، مُحمّلًا ومشبّعًا بشهوة الانتقام.
يقابل سيد في رحلته، نعيمة الغريب، ابنة سيد الغريب، صديقه الذي استشهد يوم الهجوم، ليسيروا معًا في رحلة البحث عن فرج الأكتع. ينضم إليهم فيما بعد، ضابطان شرطة يحاولان القضاء على فرج الأكتع، بعد التأكد من براءة حسن من تهمة الخيانة التي سُجن بسببها.
تتوصل كتيبة الإعدام (الأربعة الذي يبحثون عن فرج الأكتع) إلا أن فرج الأكتع أصبح فيما بعد عباس أبو خطوة، يمتلك متجرًا تجاريًا كبيرًا، ليصبح من الأغنياء أصحاب السلطة والنفوذ. لم يكن أمام الكتيبة إلا أن تلجأ للمبدأ الذي أرساه عاطف الطيب، منذ أن بدأ رحلة الإخراج، مبدأ العدالة الناجزة البعيدة عن القانون، فالقانون – بالنسبة له – أداة يتم سحق الضعفاء بها حتى لا يُحاسب الأغنياء وأصحاب النفوذ.
ذهبت الكتيبة إلى المتجر الذي يمتلكه أبو خطوة، وطاردوه بداخله، حتى استطاعوا في النهاية إشهار مسدساتهم في وجهه، وقتله كما قتلهم هو بنفوذه وسلطته. ليؤكد عاطف الطيب دائمًا على ترسيخ مبدأ العدالة الناجزة، التي تُنتزع بيد المظلوم بقوة، بعيدًا عن يد القانون المُكبّلة، وعيونه المعصوبة.
المصدر
www.arageek.com