﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾
حديثنا حول الأية المباركة في محورين:
•في معنى خلق الموت والحياة.
•في ميزان العمل الصالح.

المحور الأول:

كل إنسانٍ عندما يقرأ الآية المباركة﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ يتبادر إلى ذهنه سؤال، الحياة شئٌ يمكن خلقه لأن الحياة وجود وعطاء، فخلّقها أمرٌ معقول، لكن مامعنى خلق الموت؟ الحياة قابلةٌ لأن تُخلق لأنها وجود ولأنها عطاء، أما الموت فهو فناء وزوال وعدم، فكيف يُخلق؟ خلق الحياة أمرٌ واضح، ولكن مامعنى خلق الموت؟ هذا السؤال له إجابتان:
1» إجابة سطحية ظاهريه
2» إجابة تحليلية.
الإجابة سطحية: أنه كما خلق الحياة وجود كذلك خلق الموت وجود لأن الموت انتقال من عالم الى عالمٍ آخر ومن صورةٍ الى صورةٍ آخرى، كما قال أبو العلا المعري:


خُلق الناس للبقاء فضلت

إنما ينقلون من دار أعمال



أمةٌ يحسبونهم لنفاذي
الى دار شقوةٍ أو رشادِ

فالموت أيضاً وجود لأنه انتقال من عالمٍ الى عالمٍ آخر، إذن كما أن الخلق يتعلق بالحياة لأنها وجود، كذلك الخلق يتعلق بالموت لأنه وجود وانتقال من عالمٍ الى عالمٍ آخر، هذه إجابة ظاهرية.
الإجابة تحليلية: خلق الموت والحياة يعني خلق تزاوجاً بين الموت والحياة، فلا يوجد موت الا وبإزائه حياة ولا توجد حياة الا وبإزائها موت، خلق الموت والحياة يعني خلق التزاوج بينهما، ما معنى هذا الكلام؟ هنا نشير الى مفهومين إذا اتضحا، يتضح معنى التزاوج والتعاصر بين الموت والحياة:
المفهوم الأول:
مفهوم أصالة الحياة، ما معنى أصالة الحياة؟ هناك بحث في علم الفلسفة وفي علم الأحياء، هذا البحث مذكور، هذه الحياة من أين أتت؟ مثلاً: البذرة تتحول إلى شجرة، لماذا البذرة تتحول الى شجرة؟ لان البذرة تملك الحياة، هناك جماد وهناك كائن حي، الجماد هو الذي لا يتفاعل مع المحيط، الحجر مهما سقيته ماءً ومهما أعطيته سماداً لا يتولد نباتاً، الحجر كائنٌ جماد لانه لا يتفاعل مع محيطه وبيئته، أما البذرة كائنٌ حي لانها متى مازرعت ومتى ما سقيت تفاعلت مع محيطها وبيئتها، هذا الكائن الحي الذي يتفاعل مع المحيط، هذه البذرة من أين أتتها صفة الحياة؟ كيف هذه البذرة ملكت صفة الحياة؟ هنا نظريتان:
1/ النظرية المادية.
2/النظرية الدينية.
النظرية المادية:
تقول الحياة نتاجٌ للمادة، يعني هذه البذرة فيها خصائص فيزيائية تختمِر الحياة وتولدها، الحياة نتاجٌ لهذه المادة، البذرة مادة لكن خصائصها الفيزيائية تختمر الحياة وتولدها.
مثلاً: الدماغ مجموعة خلايا، هذه الخلايا بخصائصها الفيزيائية تختمر الحياة وتولد حياة العقل والتفكير والإستنتاج والإستدراك، إذن الحياة هي نتاج للمادة وليس شيئاً أخر، هناك ملاحظتان على هذه النظرية:
الملاحظة الأولى:
أنه كما يقول الفلاسفة هناك سنخية بين الأثر والمؤثر وبين العلة والمعلول، مستحيل أن لا يكون هناك مسانخة ومشابهة بين العلة وبين المعلول وإلا لتولد شئ من كل شئ، كيف؟ مثلا هل ممكن خروف يولد تفاحة؟ لا يمكن لأن الخروف من السنخ والتفاحة من سنخٍ آخر.
مثلاً: هل ممكن الحجر يولد تفاحة؟ لا يمكن لأن الحجر سنخ والتفاحة سنخٌ آخر هناك قاعدة وهي «السنخية» بين العلة والمعلول بين المؤثر وأثره، لا يولد شئ من أي شئ وإنما لا يُولد شئ الا من شئ يسانخه، إذن، هناك سنخية بين العلة والمعلول وبين الاثر والمؤثر، الإنسان يولد إنسان، الشمبانزي يُولد شمبانزي، النبات يُولد نبات، لابد من سنخية بين العلة والمعلول، لا يوجد أي شئ من أي شئ وإلا صار هذا العالم فوضى. لأجل هذه القاعدة الفلسفية نقول انه مستحيل أن الحياة تكون نتاجاً للمادة، المادة عنصر ثابت والحياة عنصر متحرك، لا يستقر على شئ والثابت لا يُولد المتحرك، هما سنخان، البذرة عنصرثابت، إذن، هذا العنصر الثابت كيف يولد وينتج عنصراً متحركاً نسميه الحياة، ليس بينهما سنخية.
الملاحظة الثانية:
نأتي إلى نظرية ذكرها «فرويد» ربُ المدرسة التحليلية في علم النفس وهي نظرية العقل الباطن، مامعنى نظرية العقل الباطن؟ يقول: كل إنسان وُلِد وله ميول، لا يوجد إنسان ماعنده ميول، هذا وُلِد وميوله نحو الأدب أو الفن أو الطب، لكل إنسان ميوله يختلف بها عن الآخر، هذه الميول إذا غذاءها وأشبعها فهو شخصية مستوية وإذا كبت ميوله واضمرها هذه الميول لا تزول وإنما تختفي في منطقة تسمى بالعقل الباطن، متى ما حصل مثير، تظهر الميول فوجئةً على هذا الإنسان، وهذه نظرية العقل الباطن أشار إليها القرآن الكريرم وأشار إليها الإمام أمير المؤمنين في أحاديثه، القرآن الكريم يقول: ”وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى“ هناك منطقة أخفى من السر وهي منطقة العقل الباطن، منطقة الميول المكبوتة، تأتي الى أحاديث الإمام علي عندما يقول: ”ما اضمر امرؤٌ في قلبه شيئاً إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“ يعني الميول المكبوتة تظهر يوماً من الايام إذا حصل لها المثير، وقال في دعاء كميل كما ورد عنه: ”وكل سيئةٍ أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين وكلتهم بحفظ مايكون مني وجعلتهم الشهود عليّ مع جوارحي وكنت أنت الرقيب عليّ من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم“ ما الذي يخفى علي الملائكة؟ يخفى عليهم هذه الميول المكبوته المضمرة في منطقة العقل الباطن.
إذن نظرية العقل الباطن وهي الميول المضمرة والمكبوتة لا تلتقي مع نظرية أن الحياة نتاج المادة، يعني لو افترضنا مثلا أن الدماغ هو الذي وُلد الحياة العقلية، الدماغ بما يمتلك من خصائص فيزيائية أنتج الحياة العقلية، فالميول ماهو تفسيرها؟ من أين جاءت هذه الميول؟ فرويد يقول منذ الفطرة ومنذ الولادة ولد وعنده هذه الميول، هذه الميول لونٌ من ألوان الحياة، من أين جاءت؟ لايمكن أن تكون هذه الميول نتاجاً للمادة وقد وُلدت بولادة الإنسان ونشِئت بنشأة الإنسان، إذن، هذه النظرية أن الحياة نتاج المادة عليها ملاحظات.
النظرية الدينية:
أن الحياة ليس نتاج المادة، كيف؟ تقول الحياة هي الاصيل والمادة هي فرع الحياة، لا أن المادة أنتجت الحياة، المادة ليس هي التي اختزنت الحياة وانتجتها، الحياة قبل المادة، المادة صورة من صور الحياة ولون من ألوان الحياة وإلا الحياة سبقت المادة، مامعنى هذا الكلام؟ الحياة وجودٌ أصيل، هذا الوجود متحرك، كلما تحرك الوجود خلع صورة ولبِس صورةً آخرى، صور تتوارد على وجود واحد، هو وجود واحد لكن هذا الوجود الواحد بحركته يخلع صورة ويلبسُ صورةً آخرى.
مثلاً: الماء المائع، يخلع صورته ويلبس صورةً آخرى فيصير بخار ثم يرجع ويتحول الى مائع، وجودٌ واحد تتوارد عليه الصور المختلفة، نفس الشئ بالنسبة للإنسان، كيف؟ هذا الإنسان ليس مبدأه النطفة، النطفة قبل كانت طاقة في بدن الاب، تلك الطاقة تحولت الى نطفة، النطفة مشت في صور مختلفة قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ «12» ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ «13» ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ما هو الخلق الآخر؟
رجع طاقةً مرة آخرى، هذا الإنسان الذي كان طاقة ثم تحول الى مادة ”نطفة“ ثم تحول مرةً آخرى الى طاقة، طاقة تفكر، طاقة تستنتج، طاقة تستقبل الأفكار وتحللها، إذاً الحياة سبقت المادة، الحياة وجودٌ متحرك يخلع صورة ويلبس صورة، الحياة كانت طاقة ثم اصبحت نطفة ثم رجعت الى طاقة مرةً آخرى ثم تتحول نطفة لشخصٍ آخر، وهكذا وجود واحد واحد تختلف عليه الصور وتختلف عليه الألوان، فالمادة ليس هي الأصل وليست هي التي تنتج الحياة وإنما المادة صورةٌ من صور الحياة ولونٌ من ألوان الحياة. هذا المفهوم الأول المسمى بأصالة الحياة.
المفهوم الثاني: أزلية الحياة؟ الحياة من أين أتت؟ افترض أن الحياة هي الأصيل والمادة أتت بعد ذلك، الحياة من أين نبعت؟ الحياة أزلية لم يسبقها عدم، ما في شئ قبل الحياة وأتت الحياة من بعده، الحياة أزلية وأبدية لم يسبقها العدم قط، غاية ما في الآمر أن هذه الحياة لها درجات ولها مراتب مثل النور، النور له درجات، نور الشمس اقوى من نور القمر، ونور القمر أقوى من نور المصباح، النور له درجات وكذلك الحياة لها درجات، أقوى درجات الحياة حياةٌ لا حد لها ولا أمد لها ولا قيد لها وتلك الدرجة من الحياة التي لا حد لها اسمها الله جل جلاله.
الله درجة من درجات الحياة ولكنها أقوى درجة وأتم درجة، هذه الدرجة الأقوى التي لا حد لها ولا أمد لها، كلها علم، كلها قدرة، كلها عطاء، كلها إفاضة، هذه المرتبة الأتم من الحياة التي اسمها الله ترشح منها الحياة المحدودة التي تحولت الى حياة انسان وحياة نبات وتحولت الى حياة حيوان، المرتبة اللامحدودة من الحياة أفاضت المرتبة الحياة المحدودة، كما أن النور الاتم يفيض النورالاضعف منه.
إذن الحياة أزلية ولم يسبقها عدم، ولذلك السيدة الزهراء «سلام الله عليها» عبرت بالإبتداع، الإبتداع يعني أزلية الحياة، أبتدع الأشياء لا من شئٍ كان قبلها، لم تقل الزهراء «سلام الله عليها» أبتدع الاشياء من لا شئ، أن لا شئ لا يولد شئ، فاقد الشئ لا يعطيه وإنما التعبير الدقيق قالت: أبتدع الأشياء لا من شئ ولم تقل أبتدع الأشياء من لا شئ، فرق بين أن نقول أبتدع الأشياء من لا شئ، وهذا غلط، أو نقول ابتدع الأشياء لا من شئ، أي أنه أفاض الأشياء من حياته وأفاض الوجود من وجوده تبارك وتعالى، إذن، الوجود أزلي والحياة أزلية والمادة صورةً من صور الحياة ولونٌ من ألوان الحياة.
هذه المادة سجن، يعني هذه الروح في العالم الذي كان قبل هذا العالم قد تعيش حياة مطلقة ولكنها عندما تلتصق بالمادة تتقيد وتتحدد وتتأطر الى أن تنفصل عن هذه المادة وتعود الى الإنطلاق مرة آخرى كما كانت عليه قبل أن تتصل بهذه المادة، المادة مجرد مرحلة من مراحل الحياة ولون من ألوان الحياة، لأجل ذلك بعد أن فهمنا وعرفنا هذين المفهومين مفهوم اصالة الحياة ومفهوم أزلية الحياة نعرف معنى التزاوج بين الموت وبين الحياة: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ يعنى خلق التزاوج بينهما، لا يوجد حياة إلا وبإزائه موت ولا يوجد موت إلا وبإزائه حياة، كيف؟ هذه النطفة حياة، تخلع صورة النطفة وتلبس صورة العلقة، الصورة التي خُلِعت موت والصور التي لُبِست حياة، كلما خلعت صورة حصل موت وكلما لبست صورة حصل حياة، فدائماً الموت والحياة متقارناً، ماتصير مرحلة فيها حياة إلا وبها موت، مايمر آن على الإنسان فيه حياة وإلا فيه موت، في كل ثانية تموت ملايين الخلايا في جسم الإنسان وتحيا ملايين الخلايا، الموت والحياة متقارنان لا ينفكان﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾أي زاوجهما وجعلهما متعاصرين ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾.
المحور الثاني:
الآية المباركة حددت الهدف من الحياة والموت ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. هذا ميدان التسابق وهذا ميدان التنافس، الحياة فرصة التسابق والتنافس حول العمل الاحسن، ماهو الميزان في العمل الصالح؟ يعني متى نعتبر العمل صالح ومتى نعتبره سيء؟ هنا أيضا نظريتان:
1/النظرية المادية.
2/النظرية الدينية.
النظرية المادية: العمل الصالح بمنتجه وبإنجازه، كل مايكون إنتاجه أكبر فهو عمل صالح، مثلاً: إنسان يتبرع بدولار، هذا عملٌ صالح، إما عندما يتبرع بمركز للمعاقين، هذا عملٌ أكثر صلاحاً، كلما كبُر الإنتاج وكلما عظُم الإنجاز كان العمل أصلح، إذن، الميزان المادي لصلاح العمل هو بإنتاجه وإنجازه.
النظرية الدينية: تقول أن العمل الصالح له حُسنان، حُسنٌ فعلي وحُسنٌ فاعلي، ماهو الفرق بين الحُسن الفعلي والحُسن الفاعلي؟ الحُسن الفعلي هو الإنتاج، الإنسان بنى مستشفى، المستشفى يعالج المرضى، علاج المرضى حُسنٌ فعلي أما الحسن الفاعلي هو النية والهدف وراء هذا العمل، ماهو الهدف وراء هذا العمل؟ عندما بنى المستشفى هل كان هدفه خدمة الإنسانية أو كان هدفه الربح والتجارة؟
إذا كان هدفه خدمة الإنسانية، فهذا العمل جمع الحُسنين، حُسن فعلي وحُسن فاعلي، حُسن فعلي لأنه مستشفى يعالج المرضى، حُسن فاعلي لأن الهدف من ورائه خدمة الإنسانية وخدمة الوجود الإنساني، أما إذا كان الهدف من بناء المستشفى هو الربح فيكون الحُسن الفعلي موجود فقط أما الحُسن الفاعلي مفقود، العمل الصالح هو الذي يجمع الحُسنين، الحُسن الفعلي والحُسن الفاعلي وإلا لا يكون عملاً صالحاً محظاً، ولكن النظرية المادية تقول نحن ليس لنا علاقة بالنوايا والاهداف، المهم الإنتاج، الهدف بناء الحضارة، فكُلُ مايُسهم في بناء الحضارة فهو عملٌ حسن، لا يخصنا ماذا نواياه وماذا أهدافه، إذا بنى المستشفى وشيّد الجسور وبنى مرافق الحياة من صحة وتعليم فقد ساهم في بناء الحضارة.
أما النظرية الدينية تقول ليس الهدف بناء الحضارة وإنما الهدف بناء حضارة أخوية، هدف السماء هو بناء حضارة قائمة على مبدأ الأخوة وليس بناء حضارة فقط، نحن ليس آلات تعمل بدون إخوة وليس أدوات ميكانيكية تعمل بدون روابط إنسانية، الهدف بناء حضارة أخوية وليس الهدف بناء حضارة ميكانيكية وبناء حضارة أدوية وبناء حضارة ألية، هدف السماء يختلف عن هدف المدرسة المادية، هدف السماء بناء حضارة أخوية أي حضارة مبنية على علاقات إنسانية ودية وليس علاقة مبنية على الربح والخسارة وعلى العطاء المادي طولاً وقِصراً، بما أن الهدف بناء حضارة أخوية، إذن، لابد من إصالح النوايا والأهداف، مالم تصلح النوايا والأهداف لم تقوم حضارةٌ أخوية.
مثلاً: هذا الشخص الذي اخترع لنا مركبة فضائية، ما الذي يضمن لنا ألا يخترع قنبلة مدمرة؟ الذي يضمن إصلاح النوايا والأهداف، الشخص الذي توصل الى دواء يقضي على مرض الإيدز، هذا عملٌ حسن، ما الذي يضمن لنا أنه لا يتوصل الى فيروس ينشر مرضاً أشد وأشنع؟ الذي يضمن إصلاح النوايا والأهداف، إذاً لا يمكن أن نُهمش النوايا والأهداف، لو همشنا مسألة النوايا والأهداف وقصرنا النظر على الإنتاج والإنجاز المادي، فإن هذه الحياة كما تحمل خيراً تحمل شراً لأنها تحمل نوايا شريرة كما تحمل نوايا خيّرة، ولا يمكن بناء حضارةٍ أخوية تعتمد على مبادئ الإنسانية إلا بإصلاح النوايا والأهداف وإلا أن يكون العمل جامعاً بين الحُسن الفعلي والحُسن الفاعلي.
شيبة بن عبد الدار والعباس بن عبد المطلب جلسا يتفاخران، فقال شيبة بن عبد الدر من مثلنا وبأيدينا مفاتيح الكعبة، نحن نفتح ونغلق وهذا أغلى وأقدس مكان بأيدينا، وقال عباس بن عبد المطلب ومن مثلنا نحن بني هاشم بايدينا سقايةُ الحجيج، فمرَ الإمام أمير المؤمنين واستمعا إليهم، فقال: والله ما أدري ماذا تقولان، أنا اقول: أنا أول من صلى مع رسول الله وبات على فراشه وحارب بين يديه، فنزل قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ المسألة ليس مسألة مادية وإنما المسألة حُسن فاعلي، ليس مقياس العمل الصالح بالعمل المادي وإنما مقياس العمل الصالح بالحٌسن الفاعلي يعني بإصلاح النوايا والأهداف. لذلك لأن الإسلام يُعنى ويهتم بالحُسن الفاعلي، تركز النصوص الشريفة على آثرين:
الأثر الأول:
صدقت السر، ليس المهم كم نال بل المهم إصلاح النوايا والأهداف، صدقة السر تدريب روحي على إصلاح النوايا والأهداف، كما ورد عن الإمام زين العابدين ”صدقة السر تُطفي عضب الرب“ يقول ابن شهاب الزُهري رأيت سيدي زين العابدين في ليلة في ظلام الليل وهو يحمل ثقل على ظهره، سلمت عليه قلت: الى أين سيدي فقال: الى سفرٍ أعددتُ له زاداً، فقال: أساعدك، فقال: لا أنا في سفر، يقول: في اليوم الثاني رايته في المدينة، فقلت: سيدي رأيتك البارحة وسألتك فقلت الى سفرٍ أعددت له زاداً، فقال: ليس السفرُ ماظننت، إنه سفرُ الآخرة وزاده بذل الندى في الخير والورع عن محارم الله". إذاً مسألة صدقة السر تمرين وتدريب روحي لإصلاح النوايا والأهداف ولتربية المؤمن على الحُسن الفاعلي، حيث لا يركز على الإنجاز المادي بقدر ما يركزعلى إصلاح روحه وإصلاح أهدافه.
الأثر الثاني:
العمل السُنني، مامعنى العمل السُنني؟ الإسلام يحث على العمل السُنني، هو ماعبر عنه النبي محمد ”من سنّ سنةً حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة ومن سنّ سنةً سيئة كان له وِزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة“ هذا العمل السُنني تربيةً للمجتمع، يعني الإنسان يقدم مشروعين في العمل السُنني، مثلاً: إذا الإنسان يدخل العراق، يقول ماذا يحتاج العراق؟ هل يحتاج الى حسينيات أو مساجد؟ لا يحتاج الى ذلك بل هذا العراق يحتاج الى مراكز للمعاقين وجمعيات خيرية وملاجى للأيتام، هذا العمل عندما يقوم بإنشاء مركز للمعاقين لكي يربي المجتمع على هذه الخيرات وهذه المشاريع، هذا العمل يُسمى بالعمل السُنني فهو يقدم عملين في آنٍ واحد، العمل الأول أنه أنشى مركز للمعاقين والعمل الثاني على أنه ربّ المجتمع على أن يقتدي به في مثل هذا الإنجاز، لاجل أنه يقدم مشروعين في آنٍ واحد كان له أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة.
أيضاً مثل الذي يوؤسس عمل سئ، افترض يأتي الى مجتمع محافظ ومتماسك وينشئ بار في هذا المجتمع، فهو يرتكب ذنبين، الذنب الأول أنه أنشى بار، والذنب الثاني أنه سنّ سنةٌ سيئة كي يُقتدى به، لأجل أنه يقدم ذنبين لذلك عليه وزره ووزر من عمل به الى يوم القيامة، إذاً العمل السُنني والخيري من حسنات وآثار الحُسن الفاعلي، إذاً الحُسن الفاعلي يركز عليه الدين الحنيف، ربّ عملٍ صالحٍ صغير بنظرنا لكنه عظيم عند الله لعظمه أهدافه، لِعِظم النوايا التي خلفه. ضربة علياً يوم الخندق تعدل أعمال الثقلين الى يوم القيامة، لماذا؟ هي ضربة فقط، الإمام علي ضرب شخص فقتله، إذا قِست هذه الضربة بملايين الضربات، ماهي قيمتها المادية؟ المسالة مسألة قيمة روحية، الإمام علي عندما ضربه عمرو بن ود، ضربه بأي هدف؟ بهدف إقامة بناء الإسلام ودعائمه، الهدف الذي كان وراء هذه الضربة كان عظيماً يعدل أعمال الثقلين الى يوم القيامة، برز الإسلامُ كُلُه الى الشرك كُلِه، وكانت ضربة فاصلة وحاسمة في ذلك اليوم وفي ذلك الظرف الراهن، وهكذا كثير من الأعمال قد تكون صغيرة لكنها تكبر.
عندما نقارن ثورة الحسين بثورات متعددة، الحسين بذل مائة دم ربما بعض الثورات بذلت مليون دم أو مئات آلاف الدماء. إذن، الحسين بحسب المقاييس المادية ليس هي أعظم ثورة لكن الأهداف التي وراء هذه الدماء الزاكية كانت أهدافاً عملاقة، كانت أهدافاً عظيمة وكبيرة، ماخرجت أشراُ ولا بطرً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أُريد أن آمر بالمعروف وانهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد على هذا فالله يحكم بيني وبين القوم بالحق إنه خير الحاكمين.