من التاريخ إلى فلسفة التاريخ: قبل عرض هيجل لنظربته الفلسفية حول التاريخ، يتوقف بدءا عند المناهج التاريخية المعمول بها في حقل الدراسات التاريخية فيصنفها إلى منهجين أساسين:
أولا- التاريخ الأصلي : يكون فيه المؤرخ معايشا لزمانه، فينقل الوقائع بروح عصره دون زيادة أو نقصان.
ثانيا- التاريخ النظري: يعيد فيه المؤرخ كتابة الأحداث التاريخية السابقة على عصره، مما بجعل من كتابته عملا يتجاوز روح العصر، فينحرف عن الحقيقة التاريخية.
والتاريخ النظري الذي يعمل فيه المؤرخ على استعادة الأحداث الماضية، ينقسم بدوره الى أربعة أنواع:
النوع الأول: يقترب من التاريخ الأصلي، إذ لا يعدو أن يكون مجرد سرد لأحداث الماضي، غير أنه و بخلاف التاريخ الأصلي، فإن المؤرخ يسقط روح عصره على العصور السابقة، وهذا ما يظهر في طبيعة المصطلحات و اللغة و الثقافة،مما يجعل المؤرخ يتأثر بأفكار عصره أكثر من خدمة الحقيقة التاريخية .
النوع الثاني : يسميه هيجل بالتاريخ العملي أو البراجماتي، حيث يهتم فيه المؤرخ باستخلاص العبر والعظة والمبادئ والقيم والدروس الأخلاقية. غير أن هذا النوع من الكتابة التاريخية لا يحقق هدفه، اذ لا يمكن حسب “هيجل” الاستفادة من التاريخ مادام هذا الأخيرلا يعيد نفسه. ويمثل”هيجل” لذلك بالشعوب والحكومات والدول التي لم تتعلم من التاريخ شيئا على الاطلاق.
النوع الثالث: التاريخ النقدي: هذا النوع من الكتابة التاريخية لا يعمل على عرض وقائع التاريخ نفسه، بقدر ما يعمل على عرض الروايات المختلفة قصد فحصها ودراستها ونقدها. فهو يقارن ويقارب بين ما يكتبه المؤرخ ( ما هو كائن فعلا)، وما ينبغي ان تكون عليه الرواية التاريخية.
النوع الرابع: التاريخ الجزئي العام: يكون هذا التاريخ جزئيا، لأنه لا يدرس تاريخ الإنسان عامة، وانما يدرس جزءا من انتاجه الثقافي ( روحه )، كدراسته للقانون مثلا أو الفن أو الدين ( إلخ ). غير أن عموميته تبرز في كونه لا يدرس ذلك الجزئي عند حضارة معينة، بل يدرسه انطلاقا من تاريخ الحضارات الإنسانية بأسره. وذلك عبر محاولة تفسير التطور الذي يلحق ذلك الجزء. وهكذا تكون الروح وفق هذا المنهج التاريخي واحدة تنمو وتتطور طوال العصور التاريخية المختلفة. مما يجعل من هذا النموذج التأريخي يقترب من التاريخ الفلسفي حسب ” هيجل “.
ثالثا: التاريخ الفلسفي: يشكل كل من التاريخ الأصلي و النظري حسب ” هيجل ” المادة الاولية لكتابة التاريخ الفلسفي . و يقصد بالتاريخ الفلسفي عنده ” دراسة التاريخ من خلال الفكر”. ومرد هذا التعريف الى كون أن الانسان من جهة أولى : لا يمكن أن يكون الا فكرا أو وعيا، أو بصفة أدق الانسان ” روح ” .ومن ثمة ” فالفكر مبثوت في كل ما هو بشري” (هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام،دار التنوير،ط 3، 2007،ص 24 ) . أما من ناحية ثانية فإن التاريخ الحقيقي للانسان لا يبدأ الا مع ظهور الوعي، إذ أن الفكر الأسطوري للمجتمعات، ينتمي الى ما قبل التاريخ الانساني .لذلك كان انفصال الانسان عن الطبيعة هو نقطة بدء التاريخ ” الدراسة الفلسفية للتاريخ تعني إذن، دراسة التاريخ من خلال الفكر، لأن التاريخ هو تاريخ الانسان و الفكر جوهري بالنسبة اليه، فهو الخاصية التي تميزه عن الحيوان ” ( هيجل،العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام،دار التنوير، ط 3 2007.ص 41).
هكذا فلن تغدو أعمال الانسان كلها مجرد أحداث ووقائع معزولة، بحيث سيتعذر على المؤرخ فهمها أو حتى التأكد من صحتها، ومن ثمة وجب النظر اليها ( الاعمال ) باعتبارها المظهر الخارجي للتفكير ” علينا أن نلاحظ أن التاريخ الاصلي الذي يكتب فيه المؤرخ شهادته و التاريخ النظري الذي فيه يكتب فيه المؤرخ تاريخ الماضي بأنواعه الأربعة، هذان اللونان من التاريخ يمدان المؤرخ الفلسفي و يزودانه بالمادة، فهو لا يفرز و يختار من بين الوقائع التاريخية التجريبية، وإنما يفسر التاريخ بوصفه تجليا لحركة الروح “(نقلا عن دراسة إمام عبد الفتاح إمام في مقدمة كتاب العقل في التاريخ ص42/ c.r.mure.the philosophy of hegel p.176 ) يمكن اذن اعتبار ان الدراسة الفلسفية للتاريخ، نابعة من الفكرة الهيجلية الأساسية عن العقل و التي تقول : ” إن العقل يسيطر على العالم، وأن تاريخ العالم يمثل امامنا بوصفه مسارا عقليا “.
غير أن العقل عند ” هيجل ” لا يقصد به العقل المتعالي عن الواقع، كما لا يقصد به العقل الجزئي للفرد ,وانما المقصود من ذلك هو العقل الكوني المحايث للعالم . اذ من شأن الحكمة الالهية أن تقتصر على أحداث فردية كإنقاد غريق أو نجدة بائس، أو غوث ملهوف . فهي بالتالي مجرد إشباع لرغبات معينة للفرد . أما في دراسة التاريخ فإن المؤرخ يتعامل مع شعوب و دول . وهذا ما يبرر التناقض الذي يقع فيه أصحاب العناية الالهية، الذين يتحدثون عن عظمة الله و حكمته كما تتجلى في مملكة الحيوان أو النبات. أما إذا تم مد مجال تلك الحكمة الى عالم البشر و أحداث التاريخ، فسيظهر الله ضعيفا الى الحد الذي لا يستطيع فيه ان يمارس حكمته على نطاق واسع . التاريخ الإنساني بما هو تاريخ الوعي المتقدم نحو الحرية : لكي تتحدد معالم المقولة الهيجلية الشهيرة ” العقل يحكم التاريخ ” فإن هيجل يرسم ثلاثة عناصر أساسية من شأنها تبيان جوهر هذه المقولة، وهذا ما يبرزه من خلال كتابه المركزي حول فلسفة التاريخ، و المسمى ” محاضرات في فلسفة التاريخ ” حيث يحاول في جزئه الاول المعنون ب ” العقل في التاريخ ” رصد هاته العناصر الثلاثة : 1- ماهية العقل . 2- الأساليب و الطرق التي يستخدمها العقل للتحقق. 3- الصورة التي يتحقق فيها العقل في النهاية.
أولا: ماهية العقل (الروح): إن ماهية العقل عند هيجل هي الحرية، فالحرية هي التعين أو التحديد أو الاستقلال الذاتي، بحيث تكون العوامل الخارجية الطبيعية مجرد وسيط لنمو الذات . فالروح حسب “هيجل” ذات موضوع، وهذا هو الوعي الذاتي، أي الوعي الذي يعي نفسه حين يدرك العالم الخارجي، فليس تاريخ العالم الا صراعا من جانب الروح لكي تصل الى هذه المرحلة. إن مسار الروح في التاريخ هو إذن تقدم الوعي بالحرية، وكل مرحلة من مراحله تمثل درجة معينة من درجات الحرية .من ثمة أمكن رصد تعين الروح و تجسدها في ثلاثة محطات أساسية: المرحلة الأولى: تمثلها الحضارات الشرقية القديمة، الحضارة الهندية، و الفارسية، و الصينية و الفرعونية . المرحلة الثانية : تجسدها الحضارة اليونانية و الرومانية . المرحلة الثالثة : تمثلها الأمم الجرمانية . إن طريق العقل وهو يخطو نحو تقدمه في التاريخ مر من ثلات مسارات : الوعي بالذات أو الفردية، و العقلانية أو تحقيق المعقولية، و أخيرا الحرية . تتبع هيجل في كتابه ” فينومينولوجيا الروح ” و “العقل في التاريخ” نشوء الروح ( العقل) منذ بدايتها المتسمة بالسذاجة الى نهايتها التي أضفى عليها سمة ” الإطلاقية “.
المرحلة الاولى : بداية الوعي : يمثل ” الشرق” المكان الأول الذي شهد انبثاق الروح و انبلاج فجرها . حيث انتقلت من ” وجود في ذاته ” الى ” وجود لذاته “، أي انتقال من وعي كان لا يدرك ذاته منغمسا في الطبيعة، الى وعي اصبح يدرك ذاته . غير ان الروح الشرقية ظلت منغمسة في الطبيعة ليكون البدء الحقيقي للروح مع ” الحضارة اليونانية ” و عالمها الاخلاقي . بيد ان الفرد عند اليونان او الذات كانت منغمرة في عالم الجماعة ” المدينة ” . كما أن مفهوم الشخص الحقوقي في الفترة ” الرومانية ” لم يعكس حقيقة الذات وإنما كان مجرد مفهوم صوري فارغ .
المرحلة الثانية: ظهور المسيحية: اعترفت للفرد من جهة المبدأ بحريته و ذاتيته، غير أن هذا الاعتراف كان ذو طبيعة مجردة تخالف روح عصر المجتمعات القديمة، مما سينجم عنه تشكل الوعي الشقي و حدوث ذلك الشرخ بين ” عالم الايمان ” و”مملكة الواقع”. هذا التناقض هو ما ستحاربه ” حركة الانوار ” التي الزمت الدين بمراجعة نفسه والوقوف عند حدود العقل كما يقول ” كانط”، و من ثمة تقديس العقل باعتباره ذاتية و حرية. و فكر الأنوار هو ما سيؤدي الى قيام ” الثورة الفرنسية” باعتبارها الطريق الذي اتجه بالروح صوب تحقيق الحرية المطلقة، وهو ماعكسته فكرة ” الارادة العامة ” كما جاء بها ” روسو “، أي ارادة جميع الأفراد في ” الذاتية الكونية الحقة “، باعتبار أن الفرد ذات عاقلة و حرة.غير أن البعد السلبي للثورة الفرنسية و المتجلي في ” عصر الإرهاب ” الذي عقب أحداث الثورة، ألزم الوعي بالعودة الى نفسه و من ثمة صار مشرعا لذاته، و هذه هي لحظة كانط و نزعته الاخلاقية التي تلت أحدات الثورة . وهي أيضا لحظة هيجل التي سيتم خلالها الاعتراف بالفرد من جهة كونه ذات حرة مستقلة بغض النظر عن انتمائه العرقي او الاجتماعي او الطائفي، وهذه هي اللحظة التي تمثل المرحلة الاخيرة من تطور الروح وأعلى الدرجات التي بلغتها الذات.”عملت النزعة السكولائية الى عزل العقل عن الواقع و عن التجربة،بحيث لم تكن تسعى الى ادراك الواقع المتحقق و استيعاب ضوابطه و الوقوف عند خصائصه بقدر ما تجاهلته و طرحته جانبا، بل انها احتقرته باعتبار أن العقل كان يجد تحققه في عالم مفارق للعالم الدنيوي، فنشبت بالتالي حملة على كل ضروب المعارف المتعلقة باعمال الفكر و اعتبار الواقع بالنظر العقلي ” H.G.W , Lecons sur la philosophie de l’histoire , traduit de l’allemand par J . Gibelin . Paris 1979 . P 1059 إذا كانت لحظة ديكارت قد شكلت منعرجا و منعطفا في تاريخ الفكر الانساني عامة و الفكر الغربي خاصة، جراء الثورة الجذرية التي قامت باسقاط ” الله ” من قمة الهرم الانطولوجي و أحلت الانسان مكانه، فحدث بذلك أن استقل العقل عن الفكر الكنسي القروسطي، فإن هذا العقل حسب ” هيجل ” سيدخل مرحلة اغتراب عندما سيصير ” عقلا ملاحظا ” يبحث في الطبيعة و يفسر قوانينها و يكشف عن العلل المتحكمة في ظواهرها . بيد أن هذا الاغتراب ليس سلبا في نظر هيجل بقدر ما هو ضرورة، إذ أن من طبيعة الروح ان تغترب لتعود الى ذاتها اكثر اكتمالا، فالاغتراب بهذا المعنى هو اغناء و ليس سلبا بل ” إن الروح تغتني و تصير أكثر امتلاءا، كلما عظم التعارض و التناقض الذي تعود من خلاله الى ذاتها . وهكذا تشكل مرحلة العقل الملاحظ اخر مراحل العقل الذي يكون رجوعه الى ذاته من خلالها شيئا ضروري التحقيق ” ( فينومينولوجيا الروح . ترجمة هيبوليت .ص 282 ).
هكذا سينتقل العقل من وضع الاغتراب عن الذات الذي مثلته ” العقلانية الطبيعية ” الى ملاقاة ذاته الذي سيتجسد في ” العقلانية الاجتماعية “، وهذا التحول في مسار العقل من البحث في الطبيعة الى البحث في ” عالم الناس ” و ” الواقع الاجتماعي ” هو انتقال من الرغبة في ” حقيقة الاشياء ” الى الرغبة في ” حقيقة العقل ذاته ” من حيث هو صنيعة نفسه، وهنا تصير الروح نحو تحقيق كمالها عندما يغدو العقل مشرعا للواقع الاجتماعي، أي حضور العقل و تحققه في الحياة الاجتماعية و السياسية ” هاهنا يتوجه الفكر نحو الروح، فيتأسس الحق و الاخلاق على الارادة الانسانية كواقع متعين، بعد أن كان من قبل ينظر اليهما كوصية إلاهية مدونة في العهدين القديم و الجديد ( الانجيل و التوراة ) … أو مرقونة في صحف ذوي الامتيازات من نخبة القوم، أو في رقوق فقه القانون الخاص … وهكذا صار الواقع العياني الذي يأخذ بالإعتبار سلامة المواطن، و كذا مبدأ المصلحة العامة و مصلحة الدولة، هي المصادر التي يستند عليها الحق المدني و العمومي المتحققان” ( G.W.F – Hegel , Leçons sur la philosophie de l’histoire , p : 366) إذا كان العقل كما يقول هيجل يحكم العالم، و أن التاريخ الانساني ماهو الا نمو لهذا العقل الكوني، فانه سيجد تجسده الواقعي في الدولة المدنية الحديثة كتنظيم عقلاني متولد عن القانون المدني المتأسس على مبدأي ” المعقولية ” و” الحرية “، و هكذا سيحل مفهوم ” الحق الوضعي ” محل مفهوم ” حق الملوك الالهي ” و ستستبدل أسماء ” داوود و سليمان ” كمشرعين لدولة الاستبداد الثيوقراطي بأسماء مفكرين من قبيل ” هوبز ” و ” مونتيسكيو ” و” روسو ” كمنظرين ” لدولة الحق ” المستندة على الارادة العامة، بمعنى آخر ستستبدل السلطة الدينية بالسلطة الزمنية، و الطاعة العمياء لولي الامر باعتباره ” ظل الله ” على الارض و خليفته، باحترام القانون الوضعي، فتتقيد بالتالي سلطة الحاكم المطلقة بموجب عقد اجتماعي . (انظر Hegel, Leçons sur l’histoire de la philosophie Tome:6,p: 1252-1253) إن تجسد العقل في الدولة الحديثة هو بمثابة التركيب الذي تم من خلاله المصالحة و الموائمة بين العالم الدنيوي و العالم الأخروي، بحيث سيتوقف ” عالم الغيب ” عن أن يكون قوة مخيفة و متحكمة، و بالمقابل سيعقلن العالم الدنيوي فيتطهر من الانفعالات و الهمجية، فيخضع من ثمة للعقل الكوني فيكون ” كل ما هو واقعي عقلي و كا ما هو عقلي واقعي”.
هكذا” بنى العالم استقلاله في الفكر و مبدأ الوجود العقلي و المعرفة العقلية، أي عقلانية الحق و القانون … فتخلى الغيب عن قوته و تعسفه … كما أن الواقع نبذ بربريته و مزاجه الظالم ” ( هيجل . أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام . المكتبة الهيجيلية، مكتبة مدبولي، 1996 ص 609 ) إن تقدم الوعي في التاريخ و تحقيق سيطرته على العالم ما هو الا تقدم نحو تجسد الروح ” كحرية “. و الحال أنه عند انبجاس الروح في الشرق القديم بدءا، لم يكن من وعي حر متجسد سوى ” الطاغية ” غير أن هذا الاخير لم يكن حرا بالمعنى الاتم و الاكمل، إذ أن الفرد الحر يقتضي أن ينال اعترافه كما تبين ” جدلية العبد و السيد ” من وعي حر يواجهه، لا أن ينال الإعتراف بالسيادة من أشخاص عبيد، لهذا كان الحاكم الشرقي المستبد طاغية لا فردا حرا.
ولهذا ما تزال قارات بأسرها مثل إفريقيا و الشرق تجهلان أن الانسان من حيث هو إنسان كائن حر، إذ لا تعرف إلا فردا واحدا حرا حرية الهوى و النزوة الطبيعية البربرية .ثم إن الوعي بالحرية لم يتحقق حتى عند اليونان و الرومان الذين ربطوا الحرية بالرجل اليوناني و الروماني المولود لأبوين يونانيين أحرار، أو جعلوا من الحرية قيمة نظرية و ليست تعينا واقعيا، فالرواقية مثلا تعتبر أن الحكيم حر و إن كان في الواقع عبدا مكبلا بالسلاسل و القيود. غير أنه داخل الحضارة الرومانية سيقع حدث أساسي ساهم في تحقيق الوعي بالحرية، و هذا الحدث هو ظهور” الديانة المسيحية ” حيث يعتبر” هيجل” أن فكرة الحرية هي البنت الشرعية للمسيحية التي علمت أتباعها أن الله خلق الانسان حرا، و أن تحويل الناس الى عبيد يخالف روح الحق و العدل و القانون . ( Encyclopédie des sciences philosophiques 3 –philosophie del’esprit , traduit de l’allemand par bernard bourgeois .Paris : Vrin , 1988 , p : 279). إذا كانت المسيحية قد شكلت درجات متقدمة من درجات الوعي بالحرية، فإنها أثبتت حرية الانسان على المستوى النظري أي في قلب الانسان و إيمانه . لذلك كان لزاما أن تتعين الحرية و تتحقق قي القانون و الاخلاق و العلم، وهذا ما سيتم مع الامم الجرمانية التي ستقر أن الانسان حر من حيث هو إنسان بغض النظر عن معتقده أو عرقه أو لغته و موطنه ” هذا ما كان من شأن الامم الجرمانية أن حققته، هي التي اجتازت عملية تثقيف الروح و تهذيب و تشذيب قاسية الطبيعة طويلة الأمد. والدليل على ذلك ما لاحظناه من أن الرق لم يختفي بعد ظهور المسيحية، و إنما حصل ذلك بعد زمن طويل . فالامم الجرمانية هي التي أدخلت إذن مبدأ الحرية في مختلف العلاقات السائدة وفي العالم الفعلي ” ( هيجل . العقل في التاريخ .ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ص : 82-83 ) . هكذا ستتجلى الحرية و تتجسد في الدولة المدنية الحديثة كتركيب عقلي يجمع بين النقيضين : الحرية الشخصية و حرية الجماعة، أي بين ما هو فردي و ما هو كوني . تلك إذن الحرية الذاتية أو الحرية الاخلاقية بالمعنى الاوروبي للكلمة، و التي تمكن الانسان من ” أن يملك تصورا عن الفارق بين الخير و الشر. كما أنه لا يلزم أن تكون التحديدات الأخلاقية و الدينية تستلزم طاعته من حيث هي قوانين و تعليمات لسلطة خارجية مفروضة قسرا فحسب، و إنما تستوجب أن تجد قبولا و استعدادا داخليا في قلبه و ضميره و عقله باعتبارها قناعة عقلية ” ( Hegel , Encyclopédie des sciences philosophiques ,3 – philosophie de l’esprit , op , cit , 293- 294) ثانيا : وسائل العقل : يمثل هيجل للروح ببذرة جوانية غير متطورة، فتستخدم جملة من الوسائل الخارجية تمثل أمامنا ظاهرة في التاريخ .وهذه الوسائل ترجع الى ما يسميه هيجل ب ” الإرادة ” . صحيح أن موضوع التاريخ الكلي لا الفرد، غير أن هذا الكلي كوجود بالقوة يحتاج إلى من يخرجه إلى حيز الوجود بالفعل . فالفكرة تتحقق عن طريق ضدها كما يقرر ذلك الجدل الهيجيلي .
فالروح شيء مجرد و عام وكلي، و الإرادة كفاعلية إنسانية، ذات طبيعة ملموسة و فردية و جزئية، ولكي تخرج الفكرة ( الروح ) من حيز الإمكان الى حيز التحقيق كان لزاما من توافر الإرادة كنقيض يؤدي الى تركيب ( تحقيق الروح على أرض الواقع ) ” وليس من شك أن حاجات الأفراد و مصالحهم هي الدافعة الى كل سلوك تاريخي و أن تحقيق الفرد الذي ينبغي أن يحدث في التاريخ ” (هربرت ماركيوز،العقل و الثورة (هيجل و نشأة النظرية الإجتماعية)، ترجمة فؤاد زكريا، الدار المصرية العامة للنشر و التوزيع،1970، ص 229) .
هكذا فمحرك التاريخ هو: إشباع الرغبات الأنانية، فيكون بالتالي كل ما تحقق طوال التاريخ من مبادئ و أفكار عامة، قد احتاج الى إلى نقيضه المتمثل في المنفعة الشخصية . ” إننا نؤكد أنه لم يتم إنجاز شيء دون اهتمام خاص من جانب الفاعل، و إذا كان الإهتمام يسمى إنفعالا … فإننا نستطيع أن نؤكد على نحو مطلق أنه لم ينجز شيء عظيم في العالم بدون عاطفة و انفعال …” ( هيجل،العقل في التاريخ، مرجع سابق،ص :93) . يقدم هيجل بعض الأمثلة التي تبين العلاقة بين الفكرة و نقيضها، فتبرز من ثمة أن الجزئي يؤدي الى ضده، أي الكلي، فبناء منزلا مثلا، هو غاية و تصميم ذاتي ( فكرة )،غير أن الفكرة تحتاج الى نقيضها ( مواد البناء ) . وعند إتمام بناء المنزل يتحول الى نقيضه، فهو يصير بمثابة حماية ضد العوامل الخارجية التي صنع من خلالها .كما يقدم هيجل مثالا لشخص أراد أن ينتقم من جاره الذي تخاصم و إياه، فقام بحرق منزله، غير أن النيران امتدت لتلتهم المنازل المجاورة لبيت جاره إلى أن وصلت الى بيت الحارق نفسه. غير أن المثال الأبرز يتجلى في مثال عظماء التاريخ الذين عندما يحاولون إشباع مجدهم الذاتي، يحققون غاية الروح ( نابليون بونابرت نمودجا، و القيصر مع مجلس شيوخ روما). حيث يرى هيجل أن ما نجم عن فعليهما هو تحول وانعطاف تاريخي في مسار العالم . من هنا يكون مصدر عظمة العظماء هو أن لهم بصيرة بمتطلبات العصر . هكذا، فإن التاريخ و إن كان يصنع بإرادة الناس و انفعالاتهم، أي ما هو جزئي، فإن الذي يتحقق فيه يتعالى على الإرادة الجزئية، بحيث تؤدي تلك الإرادة إلى تحقيق و تطور الروح (الكلي) . وهذا ما يسميه هيجل بمكر العقل في التاريخ ” هيغل لا يثبت شيئا آخر غير كون التاريخ صيرورة للعقل المطلق، للحرية الحقيقية للروح. و لكن هذا العقل ليس هو العقل المجرد للفرد، فهو لا يطابق الأراء الفردية و لا صيغ التروي لأنماط الفردية للوعي بالذات . ذلك أن هذه الأنماط ما هي إلا لحظات التاريخ، ودون أن تشاء ذلك دائما، هي في خدمة ما يتجاوزها . فليست هي التي تقرر في معنى التاريخ أو قدره و لو أنها تحقق هذا المعنى .هذا المعنى هو الفكرة المطلقة، و هذه الفكرة موضوعية بقدر ما هي ذاتية .إنما جوهر التاريخ الكلي، و مع ذلك فهي لا توجد إلا من خلال أنماط الوعي الفردية التي تصبح إذن أدوات في متناول الفكرة.