من المشرفين القدامى
تاريخ التسجيل: January-2016
الدولة: بيتنا❤
الجنس: أنثى
المشاركات: 13,205 المواضيع: 2,672
صوتيات:
26
سوالف عراقية:
100
مزاجي: عسل
المهنة: طالبة ة
أكلتي المفضلة: بيتزا
موبايلي: htc
الأيديولوجيا وتثبيت الأوهام بدلاً من تحرير الأفهام..... د. علي مبروك
ذا كان يؤرخ لابتداء تبلور المشاريع الفكرية العربية بأواخر ستينات القرن المنصرم التي شهدت الهزيمة العربية القاسية، فإن وطأة اللحظة ومرارتها قد فرضت على تلك المشاريع أن تمحور اشتغالها حول النقد بالأساس. وبالرغم من منطقية أن تلقي الإيديولوجيا بظلها الثقيل على ذلك الاشتغال النقدي، وعلى النحو الذي استحال معه هذا النقد إلى «نقد إيديولوجي» في معظمه، فإنه يُلاحظ أن الباب قد راح ينفتح تدريجياً، أمام نوع من النقد المغاير، هو النقد المعرفي الذي راح يهيمن على الساحة الفكرية العربية منذ مطلع الثمانينات تقريباً. ورغم ما أحدثه هذا الضرب الأخير من النقد من تغيير عميق في طبيعة النظرة إلى الأزمة العربية، فإن ما طال معظم تجلياته من اختراقات الإيديولوجيا قد انتهى إلى إرباكها وتشُّوشها شبه الكامل، وعلى النحو الذي راحت معه تناطح نفسها، فيما بدا وكأنها إعادة إنتاج- لا أكثر- لما عرفه الخطاب العربي، قبلاً، من تناحر الإيديولوجيات على سطحه.
ه.
ولعل مثالاً بارزاً على هذا التناطح يأتي مما عُرف بمعركة «نقد العقل العربي» التي خاضها- ولا يزال- أحد كبار النقاد العرب (جورج طرابيشي) ضد مشروع «نقد العقل العربي» لصاحبه (الجابري)، وهما اللذان يمثلان لحظة الذروة في صوغ المشاريع الفكرية العربية المعاصرة. والحق أن نموذجيتهما في التعبير عن طبيعة تلك المشاريع تؤول إلى إمكان الاستغناء بتحليلهما عن غيرهما. فرغم ما يبدو من اندراج نصوص الرجلين ضمن إطار «النقد المعرفي» الصريح، وذلك من حيث يقوم كلاهما بتوظيف جملة المفاهيم التي يعرفها هذا النوع من النقد في عمله، فإن قراءة لما يقوم تحت سطح نصوصهما تكشف عن أن ما يستعر من الصراع بينهما، هو صراع «الإيديولوجيا» بامتياز، وأعني بها إيديولوجيا «الأصالة والمركزية». فإذ راح الجابري يسعى، في نقده للعقل العربي، إلى إثبات أصالة ومركزية «المغرب» في مواجهة ما لاقاه من تهميش «المشرق» وتبخيسه له على مدى قرون طويلة، فإن طرابيشي قد راح- بعد غفوة قصيرة وقع أثناءها تحت سطوة تحليل الجابري وسحره الطاغي- يستعيد المبادرة «لمشرقه»، منافحاً عن أصالته ومركزيته، ليس بالنسبة للمغرب فحسب، بل- وهو الأهم- بالنسبة لأولئك الذين راح الجابري يؤسس على بنيانهم أصالة «مغربه» ومركزيته؛ والذين لم يكونوا إلا قدامى الإغريق (وذلك بالطبع مع ورثتهم من الأوروبيين المحدثين).
فإذ راح الجابري يؤسس لأصالة «مغربه» عبر توظيفه لمفهوم القطيعة المعرفية- الذي استعاره من النقد المعرفي المعاصر- للتمييز بين مشرق، يفكر بعقل بياني صوفي، ومغرب، يتميز- في المقابل- بعقل برهاني منطقي، فإنه قد تعامل مع هذا العقل الأخير بوصفه محض امتداد- في الجوهر- لعقلانية الإغريق ومنطقهم. وابتداءً من أن تلك العقلانية الإغريقية كانت السلف المباشر للعقلانية الأوروبية الحديثة، وبما يعنيه ذلك من اشتراك عقل المغرب البرهاني مع عقلانية أوروبا الحديثة في الانتماء إلى سلف واحد، فإن ذلك لابد أن يجعل مهماز قيادة الحداثة العربية بيد المغرب، وليس المشرق الذي آل إمساكه بهذا المهماز، لعقود عدة، إلى ما يعانيه العالم العربي من كل عوارض الإفلاس والخيبة. وفي مواجهة تلك الدعوى، فإن طرابيشي قد راح يؤسس لأصالة ومركزية «مشرقه» من خلال النظر إلى مراكزه الحضارية القديمة (ومن بينها المركز الفينيقي بالذات الذي لعب دوراً حاسماً في بناء العقل اليوناني) باعتبارها الأصل في تبلور العقلانية الإغريقية ذاتها، وعلى نحو يمكن معه افتراض كونها أصلاً لعقلانية أوروبا الحديثة بالتالي.
وهكذا يكون النقد المعرفي قد ارتد بالعرب، وللمفارقة، إلى ماضيهم السحيق حيث اعتادت القبائل أن تتفاخر، بل وتتقاتل، حول أصولها الأولى السامية؛ وأعني من حيث أنه قد انحل إلى تناحر حول «الأصالة» بين (قبائل) المشرق والمغرب، وبما يستتبع ذلك من جدارة الأكثر أصالة ومركزية منهما في الإمساك بمقاليد السلطة والهيمنة. وهكذا يكون الأمر قد انتهى بالنقد المعرفي إلى نفس مصائر النقد الإيديولوجي، والتي لم تكن أبداً إلا الانشغال بإشكالية السلطة والهيمنة. وضمن هذا السياق، فإن وظيفة النقد لم تعد تحرير الأفهام، بقدر ما باتت تثبيت الأوهام، وأعني بها أوهام الأصالة وجدارة الصدارة والهيمنة. وبالطبع فإنه لم يكن ممكناً، ضمن سياق تثبيت الأوهام، إلا أن تتضاءل قدرة هذا النقد على إنتاج معرفة بالواقع حقة، وأعني من حيث لم يتجاوز الأمر حدود استبدال أصالة بأصالة أخرى، وعلى نحو يكشف عن هيمنة منطق الإبدال والإحلال الذي هيمن على مجمل ما ساد فضاء الخطاب العربي من الاختزال الإيديولوجي للواقع.
والحق أن الإيديولوجيا لم تحضر من خلال عمليات «الإبدال والإحلال» فقط، بل ومن خلال تشغيل آليات «التمييز والعزل والاجتزاء»، والتي يقطع حضورها الفاعل بالانحياز لسطوة الأيديولوجي على حساب المعرفي. فقد بدا أن قطيعة تقوم على أن فلسفة المغرب «علمية الإبيستيمي «المعرفي»، علمانية الاتجاه» في مقابل فلسفة للمشرق «لاهوتية الإبيستيمي والاتجاه»، وعلى نحو لا يحيل فقط إلى مجرد مفارقة العلمي والعلماني لما هو لاهوتي وميتافيزيقي، بل وإلى دونية اللاهوتي بالمقارنة مع العلمي بالطبع، فإن هذه القطيعة، بما تفترضه من نقاء الواحدة منهما وتمايزها الكامل عن الأخرى، لم يكن ممكناً أن تتبلور إلا بحسب آليات التمييز والعزل والاجتزاء وغيرها مما ينتمي إلى سياق الإيديولوجيا، بما هي ساحة للمفاصلة والاختزال. وإذ يبدو- والحال كذلك- أن الآليات التي اشتغل بها مفهوم القطيعة، ذو الطابع المعرفي، هي آليات الإيديولوجيا، فإنه يبدو أن الأمر يتجاوز مجرد اختراق الإيديولوجيا للمفهوم إلى أن تكون هي التي فرضته في الحقيقة.
ولعل ما مضى إليه الجابري من «أننا إذا أردنا أن نجد تاريخاً حقيقياً للفلسفة العربية الإسلامية، فيه شيء من التقدم، وشيء من الانتقال إلى ما هو أبعد، فهذا التاريخ لا يمكن أن نجده إلا إذا بنيناه على أساس أن النظرة الأندلسية المغربية قد تجاوزت منهجياً النظرة المشرقية»، يقدم الدليل الصريح على ذلك، وأعني من حيث يقطع- أو يكاد- بالحضور الطاغي للإيديولوجيا منذ البدء، وإلى حد ما يبدو من أن قناع الإبستمولوجيا السميك لم يفلح في التغطية عليها.