ن التفكير الديمقراطي يعني التمرس والتمرين على التفكير الذاتي والحرّ، والمبادرة إلى نقد الذات أولاً، ومن ثم نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية وتجديد الفكر الديني. يتطلّب ذلك التخلّص من الرقيب الداخلي وقيود التفكير الداخلية والقيود الخارجية السلطوية. وتتجلى القيود الداخلية في معيقات التفكير الذاتية التي تمنع التفكير الحرّ، والتي تقبع في اللاوعي نتيجة قرون طويلة من تراكم موروثات تراثية قامعة لأيّ محاولة للاقتراب من بعض المواضيع الحارقة، ومن العوامل الذاتية الكابحة للتفكير الحرّ؛ الأيديولوجيات الحديثة التي تشكل أنساقاً مغلقة وتامّة
إنّ من أولى مهامّ التفكير الجديد -التفكير الديمقراطي- رفض قبول الأفكار الجاهزة والمعلبة، دون محيص حجيتها ومنطقيتها، ومدى ملاءمتها لشروط الواقع، مهما كان مصدر قائلها أو ناقلها. ومن أولويات التدرّب على التفكير الحرّ، الشك في أي معلومة، وعدم قبولها قبل أن تمرّ في صندوقة الرأس – حسب تعبير للمفكر جورج طرابيشي- أي في الدماغ مركز التفكير ومركز الجسم الإنساني في العصر الحديث، بعدما كان القلب هو مركز التفكير والعاطفة في العصور الوسطى. ونتيجة اكتشافات الأطباء في عصر النهضة، أصبح القلب مركزاً للدوران الدموي، ومجرد عضلة دافعة للدم إلى محيط الجسم، ونُزعت منه قوّة التفكير وقوة العاطفة أيضاً؛ أصبحت علوم العقل وعلوم القلب في الرأس، فديكارت وباسكال يقبعان في نفس المكان، وإن اختصّ الأول بالعقل والتفكير المنهجي والشك في كل معلومة قبل أن يثبت صحتها بالتجربة أو بالاستدلال، أما الثاني، فقد تمرّد على منهج ديكارت العقليّ الجافّ والبارد، لكي يعلي من شؤون “القلب” وشجونه.
لقد تحدث علماء الكلام والفلاسفة في العصور الوسطى كثيراً عن العقل، لكن أي عقل؟ إنه عقل المطلق كما يقول المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه “مفهوم العقل”، لذلك لم يستطيعوا أن يخرجوا من دوامة البحث في الميتافيزيقا والإلهيات، نحو العلم التجريبي، أي نحو الطبيعة واكتشاف قوانينها.
إن العقل عند الفلاسفة المسلمين في العصور الوسطى-وكذلك عند الفلاسفة الأوروبيين في الحقبة اللاتينية المسيحية- مفهوم نفسانيّ، أي متعلق بالنفس؛ والنفس متعلقة بما هو فوق النفس، أي الروح، و”العقل هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة” كما يقول أبو حامد الغزالي، إنه عقل منفعل (أو عقل بالقوة /أو عقل هيولاني، أي بالملكة وليس بالاكتساب)، أي عقل لا يتحرك إلا بقوة فاعلة تأتي من فوق، أي بواسطة “العقل الفعّال”، الذي يستمدّ نورانياته من قوة سماوية أعلى منه، وهكذا حتى الوصول إلى المحرك الأول بمصطلحات أرسطو، أو الله بحسب الديانات التوحيدية.
إنّ التدرب على التفكير الحرّ يعني القدرة على الشك، والتحرّر من سحر اللغة والخطابة التي يجيد استخدامها “سدنة الهيكل”، والعقول التي ما زالت تدور في فلك “أبستيمية” العصور الوسطى. إن التفكير الحرّ ضدّ التكفير، الذي هو قمع للتفكير وإرهاب للمفكر الحرّ. لذلك، لا بدّ من رفع أية وصاية على عقول الناس وضمائرهم، وإطلاق حرية التفكير وحرية الاعتقاد، فـ”لا إكراه في الدين” (سورة البقرة : 256 ) و”من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (سورة الكهف: 29 ).
إن الحريات السياسية على أهميتها، لا تكفي لتثبيت الديمقراطية كثقافة مجتمعية؛ إنما على العكس، إن الاقتصار على العملية السياسية، يمكن أن ينتج مخاطر جمّة على النظام الديمقراطي الوليد، ويؤدي بنا إلى العودة إلى الاستبداد باسم الديمقراطية وخيار الشعب، وبأشكال أخرى، غير الشكل العائلي العسكري والأمني، وبالتالي، تضيع كل نضالات الشباب وتضحياتهم الكثيرة هباءً.
إن التفكير الحرّ المتخلص من كل مذهبة وأفكار مُسبقة، واستراتيجية الشك في ما وصلنا من أفكار ومعلومات، يذكرنا بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650 )، الذي يُعدّ بحقّ مفتتح الفلسفة الحديثة، أو العصر الحديث كما يقول فيلسوف الوجود والعدم مارتن هايدغر، قام ديكارت بدور أساسي في تاريخ الميتافيزيقا الغربية، بحسب هايدغر، هذا الدور يتمثل في نظرة جديدة للإنسان تختلف عن نظرة القرون الوسطى، التي كانت تعتبر الإنسان مخلوقاً يتلقى اليقين من قوة سماوية عليا، لقد أصبح الإنسان بعد ديكارت “ذاتاً” حرّة فاعلة وخلاقة لأفعالها، أصبح الإنسان ذاتاً تهب الحقيقة لكل شيء؛ لقد أصبح هو مركز الكون، ومسمّي الأشياء ومعلّلها، إنّه مقرّ اليقين والحقيقة، لقد قرّر الإنسان تعلّم الأسماء كلها، أي قرّر فهم العالم والسيطرة عليه بواسطة التسمية، والذي هو أكثر خطراً ودلالة من أي “ثورة كوبرنيكية” في المنهج، هو قرار ساري المفعول في شبكة التواصل الاجتماعي من خلال الانترنيت وظاهرة العولمة المترتبة عنها، والتي تعتبر الفصل الأخير من تاريخ الحقيقة الذي اخترعه الإنسان-الصانع (فتحي المسكيني “الفيلسوف والإمبراطورية في تنوير الإنسان الأخير”، المركز الثقافي العربي، ط1 :2005 ، ص:191 ).
إن الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة يعني الانتقال من (الإنسان-المخلوق) إلى (الإنسان-الذات)؛ إن الإنسان قد جعل من نفسه علة دلالية متعالية لمعنى العالم حين جعل من العالم موضوعاً للمعرفة والسيطرة، هكذا دخل الغرب عصر التقنية، أو “الهائل”le gigantesque ) ) بلغة المسكيني، أما نحن فما زلنا نتخبط في عالم “الجليل”، مع قشرة تقنية حديثة، لا تصل إلى امتلاك ماهية الحداثة، نحن نستعمل “الهائل” دون أن نعيش من داخله.
لقد انتشرت مقالة هايدغر عن ديكارت مفتتح العصر الحديث، ولم ننتبه إلى ما قاله هيغل عن ديكارت في “محاضرات في تاريخ الفلسفة” – يقول هيغل عن فلسفة ديكارت: “الآن وقد وصلنا لأول مرة إلى فلسفة العالم الجديد والتي تبدأ بديكارت، فمعه ندلف إلى فلسفة تقف على قدميها، فلسفة تدرك أنها تأتي من العقل، وهذا الإدراك أو الوعي بالذات ما هو إلا لحظة جوهرية للحقّ أو الحقيقي، فهناك نستطيع أن نقول بحق إننا مع أنفسنا، ونستطيع أن نقول بحق إننا مع أنفسنا، ونستطيع أخيراً أن نصبح، مثلما يفعل البحّار، بعد رحلة طويلة في بحر هائج.. الأرض.. الأرض.. والمبدأ الأساسي في هذه الفترة الجديدة هو الفكر، هو التفكير الذي ينبثق من ذاته” (نقلاً عن كتاب “الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين”، تأليف محمود رجب، دون ناشر، ص: 90 ).
يشرح ديكارت في كتابه الشهير “مقال في المنهج”، القيادة السليمة للعقل والطرق المؤدية إلى الحقيقة في العلوم، وأولى قواعد هذا المنهج هو مذهب الشك “عليّ أن ألا أقبل أبداً أيّ شيء على أنه صادق إلا إذا كنت أعلم يقيناً أنه كذلك”.
لقد استعمل ديكارت طريق الشك المنهجي، حتى توصل إلى فكرة لا يمكن الشك في وجودها، وهي التفكير، وهي التي أوصلته إلى مبدأ الكوجيتو “أنا أفكر إذن أنا موجود”؛ إن الكوجيتو، بحسب علي حرب، قراءة للعلاقة بين الأنا والفكر والوجود، يصبح فيها الوجود ذاتا مفكرة، ويصبح التجديد اشتغالا دائما على الذات، ومن الفكر-العقل، بدأ ديكارت يستعيد إيمانه بذاته، وبدأ يبني مذهبه الإيجابي في العلوم، بعد مسيرة طويلة في الشك في كل شيء.
ويجب أن نميز بين الشك المنهجي الديكارتي والشك الراديكالي لفلاسفة ما بعد الحداثة الذين يبشرون بالنزعة النسبية، ونشر خطابات مبهمة وتحليلات ذات طابع صوفي، لا يمكن البرهنة عليها، إن الشك المنهجي مهم، لأنه يعيد النظر في التجارب والأفكار، وذلك للوصول إلى نتائج أكثر تماسكاً، بينما الشك الذي يبثه فلاسفة ما بعد الحداثة، يهدف إلى تدمير أسس المعرفة العلمية.
إذا دخلنا المرحلة الديمقراطية ونحن نتلمس مبادئ ديكارت، نكون قد خطونا خطوة عظيمة في تجاوز حقبة طويلة من الاتكالية في التفكير، ناهيك عن منع التفكير الحرّ وتجريمه من قبل سلطات الأمر الواقع السياسية، والسلطات الدينية التي تفرض تفسيرها الأحادي للنص الديني، صحيح أن فلسفة ديكارت تعرضت للنقد وتم تجاوزها من قبل فلاسفة الغرب، لكن هناك ما يبقى من مبادئ ديكارت في الخلاصة، أي بعد النفي؛ نفي ما ترسب فيها من تصورات غير مكتملة، نتيجة نقص العلوم وصعوبة التخلص من آثار الأيديولوجيات في اللاوعي.
إن ما هو مفيد لنا في هذه المرحلة من حياتنا، من فلسفة ديكارت، هو قيام “الذات” المستقلة، بعد أن أعلن ديكارت عن ميلاد الذات الإنسانية في التاريخ، والانتقال من “عالم-الآية” إلى “العالم-الموضوع” بلغة المسكيني، عالم ديكارت ونيوتن وغاليليو وكوبرنيكوس، وسوف يقول هايدغر، أنه عالم منع الوجود من أن يكون هو نفسه، من أن يعبر عن نفسه، أن يكون علامة نفسه، لكن هذا وضع يتجاوز واقعنا الذي ما زال يرسف في التقليد ومخلفات العصور الوسطى. كما أنّ مذهب الشك، يحصننا من قبول الأفكار المسبقة والحقائق السوسيولوجية، مهما كانت السلطة التي تبثها أو تحاول تثبيتها كحقائق علمية.
يقول ديكارت في “التأملات الأولى” : “كنت قد اكتشفت منذ زمن طويل أني قد تلقيت مجموعة كبيرة من الأفكار الخاطئة في سنوات عمري الأولى، لقد تلقيتها على أساس أنها صحيحة تماماً ولا يرقى إليها الشك، ولكنني اكتشفت أن كل ما أسسته على هذه المبادئ المهتزة لا يمكن إلا أن يكون مُشتبهاً به ولا يقين به.. ومن ثم قررت بشكل جدي أن أنفصل عن تلك الأفكار وأتخلص منها، وأن أبتدئ التأسيس من جديد، وبدا لي أنه لا مندوحة من هذا العمل إذا ما أردت أن أبني شيئاً راسخاً في مجال العلوم..”. ولكي ينخرط ديكارت في مشروعه الجديد لبناء فلسفة جديدة، قرر “أن يدمر كل أفكاره السابقة..”(نقلاً عن هاشم صالح “الانسداد التاريخي”، ط1 2007 ، دار الساقي).
صحيح أن الغرب دخل عصر ما بعد الحداثة، حيث النقد الجذري للعقل كما دشنه الرومانسيون وأصّله نيتشه وهايدغر، لكن هذه وضعية تاريخية غربية، لا يجب إسقاطها على واقع العقل والفلسفة في العالم العربي والإسلامي، ومن دون أي نزعة للانكفاء عن فلسفة مابعد الحداثة، أو اعتبارها مؤامرة لإبقائنا بعيداً عن مكتسبات الحداثة كما ينظر البعض من المثقفين، ما يلزمنا في هذه المرحلة تثبيت “اللوغوس” (العقل) على حساب اللاعقل الذي أكل كل شيء في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية.
إن حاجتنا لفلسفة ديكارت، تبرز مع تنامي خطابات ما بعد الحداثة والتي تحاول حذف الابستمولوجيا لصالح الهيرمينوطيقا (التأويلية)، إن حذف الابستمولوجيا بالنسبة لوضعنا التاريخي، يعني إهمال العلوم الطبيعية، في وقت نحن في أمس الحاجة إليها. لذلك، فإن فلسفة ديكارت المتوازنة تبقينا في حالة توازن بين التفسير العلمي ، والتأويل اللغوي والأنطولوجي، بحيث لا يطغى طرف على طرف آخر، لأن الانغماس بالعلوم الطبيعية يوهمنا باليقين العلمي، الذي قد ينعكس على مستوى الدين والتاريخ، مما يؤول إلى التعصب والتزمت والأحادية، فالتأويلية تقينا من التفسيرات الأحادية التي تريد القبض على الحقيقة والنص. إن الكوجيتو الديكارتي يستحيل أن يجد موقعه ومسكنه وسط الكتابات المتناثرة والمتشظية لفكر ما بعد الحداثة، فكر الاختلاف (هايدغر، فوكو، دريدان دولوز، ليوتارد). وكما يقول الفيلسوف الفرنسي فرانسوا لارويل، فإن الكوجيتو يصبح في عالم خطابات فلاسفة الاختلاف، عبارة عن فوضى وتبعثر في التفكير، أي “Ch(a)o-gito ” (محمد شوقي الزين “تأويلات وتفكيكات”،المركز الثقافي العربي، 2006 ، ص:204 ). ويؤكد سعيد ناشد أهمية الفلسفة الديكارتية بالنسبة للديمقراطية، فهو يؤكد أنه “لا وجود ديمقراطية “لا ديكارتية”، والديمقراطية التي تبشر بها فلسفات اللاوعي “سوف تكون ديمقراطية دون ذوات فاعلة، هي مجرد صناديق اقتراع.. يقوم فيها ناخبون غير فاعلين بانتخاب حكام غير فاعلين بدورهم”، هكذا تتحول الديمقراطية إلى سوق (راجع مقالة سعيد ناشيد أزمة أسس الديمقراطية، موقع الأوان، 6ك1 2009 )، فإذا كانت الديمقراطية اللاديكارتية في الغرب، تنخفض إلى “سوق”، فإنها في العالم العربي والإسلامي، سوف تتحول إلى سوق عكاظ للإسلاميين وخطاباتهم التكفيرية.
الديمقراطية لا تتناسب مع العقل الدوغمائي، العقل الذي لا يناقش ولا يحاور ولا يتساءل، وبالتالي لا يعتبر الرأي الآخر. إن جوهر الديمقراطية وروحها النقد، أي العقل النقدي الذي هو نقيض العقل الدوغمائي؛ فالديمقراطية، مثلها مثل العلمانية والمجتمع المدني، ابنة عصر الأنوار، ومنذ كانط اعتبرت الأنوار أنّ العقل النقدي يشتغل بالمساءلة والمراجعة والمحاسبة. كل نقد هو تفكيك لأبنية الواقع وروابطه من أجل إعادة تركيبها على نحو جديد، كما يقول علي حرب، وهو يقوم على الفكر الإشكالي الذي يتجدد بكسر القواقع الفكرية الخانقة، كما يقوم على النظرة النسبية للنتاجات الفكرية والعلمية، وكذلك على التعددية في التأويل للخطابات الدينية والدنيوية، بعكس العقل الدوغمائي، الذي هو عقل أحادي، يقتل حيوية الفكر ويحول دون تجدد الأفكار.
الديمقراطية الإجرائية على أهميتها، لا تؤدي إلى مضمون الديمقراطية، وهو بناء الذات المستقلة التفكير، الذات الواعية والقادرة على الخلق والإبداع، وعلى قول “لا”، لقد كتب فيلسوف الايبستمولوجيا الفرنسية غاستون باشلار كتاباً أسماه “فلسفة لا”، تعبيراً عن غضبه على وضع العلوم والمنهجيات في بداية القرن العشرين.
إن المواطن الواعي والمستقل في تفكيره، هو الذي يحدس بأية مخاطر على النظام الديمقراطي، قد تؤدي إلى الانزلاق إلى شكل آخر من الاستبداد عن طريق صناديق الاقتراع، كما حدث في ألمانيا في الثلاثينات، وكما اختطفت الثورة الإيرانية على يد رجال الدين، الذين يقمعون الإيرانيين باسم الوصاية على المقدس وتفسيره.
إن الديمقراطية تحتاج مواطنين وليس رعايا؛ تحتاج إبداعاً وليس تقليداً، تحتاج الحرية قبل العدالة، العدالة نتلمسها عن طريق الحرية. والديمقراطية أخيراً، تحتاج نقد التراث وتجديده، بشكل يتلاءم مع متغيرات العصر.