بنفس درجة اهتمام معظم الرواد بتفاصيل وعناصر القصيدة ومكوناتها، وأكثر، اهتم الشعراء الجدد بالقصيدة بشكل كلي موحد، أي بهذا الكائن النهائي، ومدى ودرجة انتمائه إلى عالم الشعرية، وليس الى كل عنصر من عناصره على حدة، كما كان يفعل الرواد ومقلدوهم.
ربما، لأن معظم الرواد فوجئوا في تجربتهم الجديدة بعناصر جديدة متعددة متنوعة لم تكن موجودة، أو لم يتم الالتفات إليها والاهتمام بها بمستوى يليق بدورها في الابداع، لدى سابقيهم أو في التراث العربي كله على الرغم من تاريخه الطويل، وما حفل به من انجاز كمي لا يستهان به.
وكان من أهم هذه العناصر، الصورة والايقاع، لما لهما من أهمية كبيرة في تجسيد شكل التجربة الشعرية ولما لهما من أهمية في التمييز بين الشعر والنثر ولما لتطورهما وتطويرهما من آثار واضحة على تحديث القصيدة العربية وتجددها، ولما قاما به من مهمات ساهمت في نقل الشعر العربي من مرحلة الى مرحلة، ولما للايقاع من دور في تغيير مسار القصيدة العربية وايجاد مفارق جديدة في خط سيرها الذي سارت عليه أكثر من خمسة عشر قرناً.
ولا يعني هذا أن الشعراء الجدد قد أهملوا أياً من هذه العناصر، أو ان انتاجهم لا يحتويها، ويوظفها بشكل أكثر حداثة وجدة وتطورا، أو أنهم لا يعون ما تنطوي عليه قصائدهم الجديدة من طاقات وامكانات نتجت عن اتحاد هذه العناصر؛ وان كان اهتمامهم ينصب تفكيرا وتنظيرا وتطبيقا على العناصر الداخلية الأهم التي تشارك في تكوين الشعرية وتمنحها ماهيتها، كالصورة، لا على العناصر الخارجية التي كانت تستعار للزينة ولتلوين الزي الخارجي كالايقاع، الخارجي، والداخلي أيضا، ومهما تداخلت الصورة مع الموسيقى توصيفا وتنظيرا الى درجة الحديث عما تم تسميتها بموسيقى الصورة أو الصورة الموسيقية؛ ومهما تم تحميل الايقاع مالا يطيق من أدوار ليست له، ولا يستطيع القيام بها في العملية والتجربة الابداعية الشعرية المكتفية بذاتها، كالتأثير وتحريض الاستجابات واثارة موجات الانفعال وتنبيه الأعصاب والمشاعر والايحاء، لأن الموسيقى والايقاع ليسا سوى أشياء ذات طابع حسي خارجي، وذات مرجعية خيالية حسية ترتبط بالاثارة والاستجابة الحسيتين للسمع والأعصاب، كما في التجارب التي تجرى على حيوانات التجارب لدى علماء النفس، على الرغم من أن وجودهما قد لا يؤثر على شعرية النص ولا ينقصها مثلما لا يزيدها أو يمنحها شيئا موجودا في طبيعتها وماهيتها أصلا، بل ربما كان وجودهما أي الموسيقى والايقاع يجعل من الشاعر والقارىء مستلبين لجاهزيتهما الاجرائية والقرائية والتوقعية ومحذرين بفعل ما ينتج عن تراتبيتهما من تداعيات تقود الى الاستسلام اللاواعي لعمليتي الترنم والتكرار، مثلما قد يريحان الشاعر والقارىء ويحققان لهما بعض النشوة المصاحبة للإنشاد والاستراحات أثناء ممارسة النص قراءة وكتابة ولكنهما أي الموسيقى والايقاع لا يمكن أن يرفعا مستوى النص شعريا، وربما كان وجودهما بوجود الذائقة والوعي الشعري الجديدين مما يجلب التهمة الى الشاعر والى قدرته على ابداع نص شعري يكتفي بذاته، أي بما يحقق له الشعرية من داخله لا من خارجه.
منذ بداية الشعر العربي الحديث في العقود الأولى من القرن العشرين، وحتى جاء الشعراء الجدد في التسعينيات، حدثت تطورات وتبدلات في كثير من الأفكار والمفهومات حول الشعرية وعناصرها بعامة، وحول الايقاع والصورة بخاصة، وإن كان قد تم حسم أمر الايقاع في مراحل مبكرة من الوعي، إلا أن الصورة ما تزال تشكل حيزا لا يستهان به في جدلية هذه التطورات ونتائجها النظرية والتطبيقية، نظرا لما جدّ ويجدّ على الشعر من جدليات ساهمت وتساهم في تغيير النظر الى ماهيته ووظيفته ومفهومه وطرائقه باستمرار، ولما صاحب ذلك من تطور كبير في النقد وتطور مناسب في الذائقة.
هذه العناصر ليست على درجة واحدة من الأهمية ولا من القدرة على مقاومة التغييرات أو التطور أو الخروج من ذاكرة المتلقي وذائقته التراثيتين أو الحديثتين معا، ولا من القابلية لإقناع المتلقي بالمرحلة التي يمر بها في ومن صيرورة وتحولات الشعر العربي وسياقاته، وبخاصة، ان المتلقي يحتاج الى مدد زمنية متفاوتة، للاقتناع فكرا وقناعة وذاكرة وذائقة بشيء وبعدم جدوى شيء آخر وليتعود على شيء جديد أو يتذوقه أو يتآلف معه، وبحسب هذا الشيء وعلاقته به وارتباطه حسيا ومعنويا.
ولكن أثناء مرور الشعر العربي الحديث بمراحله التي تطور فيها، من بدايات الرواد حتى شعر التسعينيات، وفي كل مرحلة من هذه المراحل، وبالتدريج، كان عنصر أو أكثر يفقد مكانته وأهميته تفكيرا وقناعة وتنظيرا وتطبيقا وتركيزا عليه منفصلا عن وحدة القصيدة في محاولات مستمرة لتجريد القصيدة العربية مما علق بها من أزياء وزوائد، وللنظر اليها كوحدة واحدة تقوم على ماهية وجوهر تتحد فيهما العناصر المختلفة هما الشعرية، وفي محاولات مستمرة تبذل وتفشل، وتبذل وتنجح لاحقا ليكون الذوق العربي قد استعد لتقبل هذا التغيير والتطوير، وحتى تمكنت القصيدة العربية أخيرا من الوصول الى أولى درجات استقلالها، واكتسابها الشخصية المستقلة المكتفية بذاتها، مجسدة نموذجا فنيا جماليا لما تطمح اليه، وما ينبغي أن تكون شخصية الانسان الجديد، وبحيث أصبحت تُقرأ وتُدرس كوحدة وليس كأجزاء وعناصر يتم تفكيكها، وبعد أن نجحت التجارب المتلاحقة التي أجرتها الأجيال الجديدة من الشعراء العرب، وبعد أن أصبح الشعر العربي الحديث مستعدا لتقبل هذه التطويرات الجذرية والمهمة في القصيدة وفي النظر اليها.
ولأنه، وكما اكتسبت القصيدة العربية القديمة الخليلية الموزونة المقفاة الرسوخ في الوجدان الفني العربي، فقد اكتسبت القصيدة العربية الحديثة قصائد جيل الرواد ومن تلاهم رسوخها النسبي، الجديد والمناسب، في هذا الوجدان.
وذلك استدعى مرور مراحل وأجيال حتى يتم طرح القصيدة الجديدة قصيدة شعراء التسعينيات ومن تلاهم، من شعراء قصيدة النثر الحديثة وقصيدة التفعيلة الحديثة التي يختفي فيها الايقاع لجمهور المتلقين العرب.
ولأن النظرة العربية للشعر تتمتع بحساسية خاصة، وتناقش قضاياه باهتمام يفوق أحيانا الاهتمام الذي تناقش فيه قضايا الفكر والسياسة والمجتمع وشتى شؤون الحياة.
وعلى الرغم مما صاحب تجربة الرواد ومن تلاهم من محاولات، إلا أن النجاح لم يُحالف سوى بعض الشعراء الجدد في محاولاتهم لتعديل الفلسفة الجمالية التي تستند اليها الشعرية العربية ومحاولاتهم ابداع فلسفة جمالية شعرية جديدة أكثر تمثلا لمفهوم الشعرية الكامل الوحدوي والحديث.
هكذا وصل الشعر العربي الحديث الى مرحلة من أهم وأخطر مراحل تطوره والى انجاز من أعظم انجازاته، وبخاصة، في مفهوم الشعرية والنظر اليها والى مكوناتها؛ بحيث لا تخضع لأحد عناصرها فقط الى درجة أن يصبح هذا العنصر فقط هو أهم من القصيدة أو أهم ما فيها، بل تم استبعاد كل العناصر المهمة، بما فيها اللغة، والى خلفية المشهد والى خلفيته اللامرئية أيضا وبحيث يشارك في اضاءة اللوحة الشعرية النهائية دون أن يراه أحد وهويحتلها أويحتل الحيز الرئيسي فيها.
وهكذا جعل الشعر العربي الحديث والجديد من نفسه مثلا وقدوة ونموذجا للانسان بعامة، وللانسان العربي بخاصة، ومدرسة فنية جمالية انسانية يتعلم فيها ومنها الانسان كيف يتطور ويتغير ويتجدد ويصبح حديثا وحرا ومستقلا ومتحدا مع اخوانه، وضرب له أمثلة متعددة وفي كل مرحلة من مراحل نضاله العظيم وتضحياته المتواصلة وصموده في وجه الموت والتحنيط، واضعا يده في يده، يشير له ويدله كيف يحققان معا استقلالهما التام وحريتهما الكاملة.
من كتابي : روح أمريكية , هل أنا لا أحد ؟ . طبعة 2009 . بيروت .
منقول