هل هناك حاجة لإعادة تعريف ما نعنيه بالطبيعة البكر، خاصة بعد أن غير الإنسان هذا العالم لدرجة يصعب معها أن تجد مكاناً لم تصل إليه يده؟
عرف عن الصحفي الكبير جون موير، الذي عاش في القرن التاسع عشر، تحذيره الدائم من انتهاك البشر للطبيعة على نطاق واسع. وقد كتب يوما يقول "لقد باتت أفضل غابات العالم، وهي الأرض ذات الجمال الإلهي، مقفرة ومثيرة للاكتئاب كأنها وجه إنسان أنهكه المرض. المصير ذاته، سواء عاجلاً أم آجلاً، ينتظر جميع الغابات، إذا لم يستيقظ الرأي العام ويوقف ذلك".
مناداة موير دفعت الكونغرس الأمريكي لتمرير قانون الحدائق الوطنية عام 1890. ويفترض أن تبقى المساحات المحمية بموجب ذلك القانون خضراء للأبد، وتتيح للأجيال القادمة الاستمتاع بالطبيعة.
لكن العلماء لا يوافقون على أن غالبية الحدائق الوطنية حول العالم لا تزال بكرا لم تمتد إليها يد الإنسان. فالحراس والمتنزهون يجوبون هذه المناطق جيئة وذهاباً. ويتم العناية بظروفها البيئية والطبيعية كما يتم الحرص على الحيوانات البرية المنتشرة فيها.
في الواقع، السبب الرئيسي لوجود المحميات الوطنية الطبيعية هو أن تكون مصدر إلهام ومتعة للناس، كما جاء في أحد نصوص التشريع الأمريكي، وليس لتكون مساحات محصنة من وصول يد البشر إليها.
لذا، هل هناك حاجة لإعادة تعريف ما نعنيه عندما نتحدث عن الطبيعة البكر؟ عند الأخذ بعين الاعتبار عدد سكان العالم، والذي يزيد عن سبعة مليارات نسمة، من الصعب تخيل وجود أماكن لم تمسها يد البشر على الإطلاق.
فالتغير المناخي على سبيل المثال لا الحصر أصبح تأثيره قائما على مستوى الكرة الأرضية. "فنحن بالتأكيد نؤثر في الحياة على كافة مساحة كوكب الأرض"، كما يقول جستين آدمز، المدير الدولي لبرنامج الأرض في مؤسسة "ناتشرال كونسيرفانسي"، والذي يضيف: "لا يوجد مكان على سطح الأرض لم تلمسه يد الإنسان".
كما لا يوجد مكان لم يصل إليه التلوث. فالتلوث الجوي يغلف الأرض، بينما الحطام والنفايات تنتشر من قيعان البحار العميقة وحتى صحراء غوبي. ومن الصعب أن توجد بقعة خالية من الضجيج الصادر عن البشر لمدة ربع ساعة.
وقد أثبتت أجهزة معقدة، مثل جهاز يعرف باسم "ليدار"، وهو تقنية استشعار عن بعد تستخدم أشعة الليزر لفحص سطح الأرض، أن أعماق الغابات الاستوائية تحمل آثاراً بشرية تعود إلى آلاف السنين.
يقول ريتشارد هوبس، أحد علماء البيئة بجامعة (ويسترن أستراليا) "هناك اعتراف متزايد بأن هناك أماكن قليلة على سطح الأرض ما زالت بكراً بالفعل. كل الأماكن امتدت لها يد الإنسان، حتى لو بطريقة غير مباشرة".
وإذا استثنينا من تعريف كلمة "بكر" تأثيرنا غير المباشر وكذلك الآثار التاريخية، فإن المشهد يتحسن قليلاً. وكما يقول لارس ليستاديوس، الباحث في برنامج الغابات بمعهد (ورلد ريسورس) "عليك أن تكون براغماتياً مع هذه القضية لأنه إن لم تكن كذلك، فلن تصل إلى شيء، وستكتفي بالقول إن كل شيء أصابه الدمار". ويضيف: "هذا ليس أمرا بناءً".
وربما يقول باحث آخر صاحب نظرة أكثر تحرراً إن الغابات التي قطعت أشجارها ثم عادت للنمو تعتبر بكراً.
ويقول ليستاديوس "في رومانيا على سبيل المثال، نظرت إلى الغابات التي عادت للنمو بعد أن قطعت في السابق، والتي يقول عنها الناس إنها بكر، ورأيت جذوع الأشجار ملقاة فيها. لكن لا يبدو أن الناس قد أثروا على نمو الغابة على الإطلاق، لهذا أتردد في إزالة غابة كهذه لمجرد وجود بعض قطع الأشجار."
ويضيف إيرلي أيليس، أستاذ الجغرافيا ونظم البيئة في جامعة ميريلاند بمقاطعة بالتيمور: "في نهاية الأمر، إذا كان مكان ما بكراً أو لا، فهذا أمر يعتمد على من تطرح عليه السؤال".
وأخذاً بعين الاعتبار الغموض المحيط بهذا التعريف، يشعر معظم الباحثين بالارتياح من اعتبار أن تعريف الأرض البكر يشمل البيئات والمناطق الخالية من علامات ودلائل واضحة للنشاط الإنساني.
وهذه الأماكن ينبغي أيضاً أن تشتمل على نباتات وحيوانات برية يتوقع الخبراء وجودها هناك في غياب الصيد، وقطع الأشجار، والقحط، والكائنات الغازية، وأي تهديدات أخرى مصدرها الإنسان.
الوسيلة المثلى لمعرفة ما إذا كانت منطقة ما تنطبق عليها هذه المعايير زيارتها شخصيا والقيام بمسح ميداني مكثف، لكن هذا يتطلب وقتا وإمكانات هائلة.
لذلك فإن العادة جرت وخاصة بالنسبة للمناطق الكبيرة، على القيام بتحليل لواقع هذه المنطقة باستخدام مجسات عن بعد، وكذلك استخدام جهاز "جي بي إس" (نظام المعلومات الجغرافية).
وقد قامت ألكساندرا تيوكافينا، عالمة الجغرافية في جامعة ماريلاند وزملاؤها حديثاً بمثل هذه الدراسات. أولاً: استخدموا كل صور الأقمار الصناعية عالية الجودة المتوفرة في الفترة بين 2000 و 2014 لرسم خريطة لتمدد وانحسار الغابات على سطح الأرض.
ومن هنا تمكنوا من تضييق مجال البحث ليقتصر على الغابات الإستوائية في أمريكا الجنوبية، وأفريقيا، وجنوب شرق آسيا، والتي لم تتعرض للتغيير لمدة لا تقل عن 12 عاماً، ولم تشهد حالة عودة النمو، والتي توحي بتعرضها للعبث خلال السنوات الـ 20 إلى 30 الماضية.
(أما الغابات الشمالية المعرضة للحرائق، وكذلك غابات التندرا، فعليها الانتظار لدراسة مستقبلية تفرق بين الحرائق الطبيعية والحرائق التي يتسبب بها الإنسان). ويشمل البحث كذلك الغابات الاستوائية التي عادت للنمو منذ ما لا يقل عن 40 إلى 50 عاماً، ومساحتها 38 ميلا مربع على الأقل، وعلى بعد نصف ميل على الأقل من أي منطقة تعرضت للعبث أو عادت للنمو حديثاً.
وقد بينت النتائج أن الأطراف الشمالية الشرقية من أمريكا الجنوبية بما فيها غابات سورينام، وغويانا، وغويانا الفرنسية، تحتوي على أكبر مساحة من الغابات الإستوائية البكر في العالم.
"100 في المئة تقريباً من مناطق الغابات هناك ما تزال بكراً، وتعد معدلات الإنحسار فيها منخفضة جداً"، كما تقول تيوكافينا.
إضافة لذلك، فإن كلاً من بيرو، وفنزويلا، وكولومبيا وجمهورية الكونغو أيضاً تضم مساحات واسعة من الغابات النائية كما يسميها الباحثون. وعلى الرغم من أن جميع هذه المناطق ربما تعرضت للحد الأدنى من العبث البشري، مثل شجرة تقطع هنا أو هناك، واستخدام بعض المساحات للصيد، كل هذه الأمور بالنسبة لتيوكافينا تعد تمثيلا دقيقا لما تعنيه كلمة بكر هذه الأيام.
إضافة لما تقدم، أجرى ليستاديوس وزملاؤه تحليلاً خاصاً بهم مستخدمين معلومات من الأقمار الصناعية، وتمكنوا من تحديد أماكن في كندا، وألاسكا، وسيبيريا، وأفريقيا الوسطى، والأمازون، والتي تعتبر بكرا وفقا لما نشروه.
وهم يصنفون منطقة ما على أنها بكر إذا لم يظهر لصورتها الجوية أي مؤشر على وجود مؤشرات لعبث الإنسان فيها، وإذا كانت مساحتها لا تقل عن 123 ألف و500 هكتار.
بعض المناطق البكر مهددة بالزوال الوشيك، لكن حسب تحليل تيوكافينا، فإن ميانمار، ولاوس، وأنغولا، وغينيا الجديدة، وباراغواي تفقد حالياً الغابات البكر فيها بشكل متسارع.
أما أندونيسيا وجمهورية أفريقيا الوسطى والكاميرون فتفقد غاباتها البكر بشكل أسرع. في بلدان أخرى، اختفى تماماً ما تبقى من الغابات البكر فيها. ولا يزال هناك أقل من 500 هكتار من الغابات البكر في بنغلادش، وبنين، وبوركينا فاسو، وهيتي، والسلفادور، وغيرها.
بعض المناطق حافظت على طبيعتها البكر نظراً لأنها نائية أو ببساطة لأنها غير ملائمة للحياة البشرية، كما يقول هوبس. ومن المرجح أن يمتد ذلك إلى المناطق التي يكسوها الجليد، أي التندرا، والقطبين الجنوبي والشمالي، والجبال الشاهقة.
ويضيف آدمز أن أجزاءً من النمسا ربما تنطبق عليها صفة المناطق البكر، كما أن الصحاري الشاسعة مرشحة لذلك هي الأخرى.
فيما يتعلق بالمحيطات، فقد تأثرت بنفس التلوث الجوي والتغير المناخي الذي يغلف اليابسة، فضلاً عن وجود المشكلة المستفحلة المتمثلة في القمامة ومخلفات البلاستيك.
تقول ماريا داماناكي، المديرة العالمية للمحيطات في مؤسسة "نيتشر كونسيرفانسي": "البحار كل لا يتجزأ من الكرة الأرضية، فلا يمكنك عزلها عما يجري على سطح الكوكب بشكل عام".
وباستبعاد المؤثرات العالمية على الطبيعة البكر، فإن بعض المناطق التي يحظر فيها الصيد يرجح أن تكون أكثر المناطق البحرية المتبقية بكرا، خصوصاً تلك التي تقع بعيداً عن اليابسة. وتضم هذه القائمة مناطق في محمية جزر بيتكايرن البحرية، ومحمية جزيرة إيستر البحرية، ومحمية بالاو الوطنية، ومحمية كيرمادك.
تقول داماناكي: "لا يوجد مكان على الكرة الأرضية من المناطق البحرية لم يصل إليها الإنسان". والسبب أن المناطق المحظور فيها الصيد يسمح فيها بمرور السفن، كما أن الناس يقيمون في الجزر المجاورة لها.
لا يستطيع أحد أن يتوقع بشكل أكيد كم من المناطق البكر في العالم، أيما كان تعريف كلمة بكر، يمكن أن يوجد في المستقبل. لكن هوبس يشير إلى أن تفضيل المناطق البكر على بقية المناطق الطبيعية سيكون أمراً خاطئاً.
فالمناطق غير البكر مثل الحدائق، "يمكن الوصول إليها بشكل عام أكثر مما يسمى بالمناطق البكر، وهي المناطق التي ينتفع بها البشر ويتفاعلون معها ويقدرونها أكثر. وهي تغطي معظم مساحة الكرة الأرضية حالياً، وما زالت تضم تنوعاً واسعاً من أنماط وأشكال الحياة".
م : دنيا الوطن