المكان: مدينة بابل..
التاريخ: عام 323 قبل الميلاد..

في منتصف الليل من ذلك العام وفي شهر حزيران.. أحسّ الإسكندر المقدوني بألم شديد يسري في جميع أنحاء جسده غير مُدرك لسببه، أخذَ هذا الألم يزداد تدريجياً أكثر فأكثر، حتى سقط الإسكندر العظيم مُنهاراً، مُشكّلاً هذا الحدث الغامض نهاية الإمبراطور العظيم الذي توفي في عمر الـ 32 فقط!
تُعدّ هذه الحادثة لغزاً غامضاً حيّر الكثيرين من الباحثين والمنقّبين في التاريخ وأسراره، فمن هو أو ما الذي قتل الإسكندر المقدوني؟!
إلى الآن لم تتم الإجابة بشكل جازم على هذا السؤال، ولعلَ نظريّة البعوضة هي الأكثر رواجاً بين الناس، فهل حقاً البعوضة هي التي قتلته؟! وإن لم تكن هي فمن الذي قتله؟!
بحثٌ جديد صدرَ مؤخراً وجدَ – تقريباً – حلاً لهذا اللغز الذي استمر لمدة 2000 عام مضى.
الإسكندر.. النشأة والتربية



الإسكندر الثالث لمقدونيا أو كما يعرف بالإسكندر الكبير “الإسكندر العظيم”، وُلِدَ في مدينة بيلا Pella عام 356 قبل الميلاد، وقد تم إرشاده وتعليمه من قبل الفيلسوف اليوناني أرسطو، وذلك حتى عمر السادس عشر، بعد ذلك أصبح الإسكندر ملكاً لمقدونيا؛ والتي كانت عبارة عن ولاية في شمال بلاد الإغريق القديمة، ثمّ بعمر الـ 30 قام الإسكندر بإنشاء واحدة من أعظم الإمبراطوريات في العالم القديم والتي امتدت من البحر الأيوني – أحد فروع البحر المتوسط بين إيطاليا واليونان – ولغاية جبال الهيمالايا.


الفيلسوف اليوناني أرسطو معلّم الإسكندر الأكبر

يُعتبر الإسكندر المقدوني واحداً من أبرز القادة العسكرييّن في التاريخ وأكثرهم نجاحاً، إذ استطاع بسط نفوذه على كامل الإمبراطوريّة الفارسيّة، كما كان مُحارباً طموحاً سعى للوصول إلى أقاصي العالم والسيطرة عليه وإخضاعه لحكمه، فقد اجتاح الهند في عام 326 قبل الميلاد بالرغم من أنه خسرها فيما بعد. وقد نُسِبَ إليه – شخصيّاً – الفضل في السيطرة على ما يُقارب من 20 مدينة أطلق عليها اسمه تعظيّماً له، ومن ضمن هذه المدن الإسكندرية في مصر القديمة، بالإضافة إلى مدن أخرى كانت تتموضع في بلاد الإغريق الواسعة. وقد كان ينوي الإسكندر أن يجتاح البلاد العربيّة أيضاً، لكن مُخططاته لم تكتمل، إذ توفي الإسكندر بسبب شيء غامض حدث له بعد 12 يوم من المعاناة الشديدة.

بداية المُعاناة.. أعراض موته



الشيء المُتعارف عليه ضمن السجلّات التاريخيّة أن الإسكندر المقدوني كان ملتزماً بعهد قطعه على نفسه بعقد وليمة تذكارية تشريّفاً وتكريماً لوفاة أحد أصدقائه المقرّبين جداً، لكن بعد حوالي عدة ساعات من هذه الوليمة وعندما كان الوقت يُشير إلى منتصف الليل تقريباً، أحسّ الإسكندر بألم شديد في جسمه فسقط مُنهاراً.
تم أخذ الملك إلى حجرة النوم، حيثُ عانى من كمٍ كبير من العذاب والحرارة العالية والتشنّجات القوية، بالإضافة إلى الهذيان، ومن ثم مات.
إنّ الأعراض الأوليّة لمعاناة الإسكندر كانت عبارة عن هيجان ورجفان، بالإضافة إلى تصلّب في منطقة الرقبة وألم حاد في المعدة، بعدها انهار تماماً وعانى من عذاب شديد وارتفاع حاد في الحرارة وألم لا يُطاق عندما يتم لمسه من قبل أحد. ولقد خبرَ الإسكندر أثناء معاناته العطشَ المُفحم بالإضافة للحُمّى والهذيان، أما خلال الليل فقد عانى من التشنّجات والهلوسات التي يتبعها فترات متقطّعة من الراحة.
في المراحل المتقدمة من هذه المعاناة لم يعد يستطيع التحدث مطلقاً على الرغم من قدرته على تحريك ذراعيه ويديه.. أصبح تنفسه أكثر صعوبة ثم بعدها فارق الحياة..

نظريّات موته



النظريات الأربع الأكثر شهرة عن موته هي الملاريا (البعوضة).. التيفوئيد.. تسمم بالكحول، بالإضافة للتسمم من قبل شخص مُنافس “اغتيال”.
ثلاثة من هذه النظريات قد تكون خاطئة أو مشكوك في أمرها، فالملاريا تنتقل بواسطة البعوض الذي يعيش في الغابات والمناطق الاستوائية وليس في المناطق الصحراويّة القاحلة كالعراق التي عاش فيها الإسكندر ومات، لذلك تكون البعوضة بريئة من تهمة قتل الإسكندر الكبير قطعاً.
أما بالنسبة للتيفوئيد فإنه ينتقل بواسطة الطعام والمياه الملوثة بالبكتريا والذي يُسبب أوبئة وجائحات تقتل عدداً كبيراً من الناس وليس مُجرّد شخص واحد فقط! أو حالة فرديّة!
كما أنه لم يُذكر ضمن السجلات التاريخيّة أي إشارة لهذا المرض أو اجتياحه لتلك المناطق في فترة حكم الإسكندر المقدوني.
أما قضيّة تسممه بسبب الكحول فهي غير معقولة، فإن العَرض والعلامة الرئيسة والواضحة للتسمم بالكحول هو التقيّؤ المُستمر، وما يَنسف هذه النظريّة هو أن السجلات التاريخيّة لم تذكر أي إشارة لأي عَرض من هذا النوع – كالغثيان أو التقيؤ – قد حدث للإسكندر قبل وفاته!
إذاً تبقى لدينا النظريّة الرابعة التي ستشكل المِفتاح الأقرب للحقيقة لحل قضية وفاة الإسكندر المقدوني..

تسمم الإسكندر



طِبقاً للسجلات القديمة فإن جسم الملك لم يظهر عليه أي علامات تعفن لفترة 6 أيام بعد موته بالرغم من بقاء الجثّة في مكان حار ورطب نوعاً ما، التفسير المُقترح لهذه الحادثة هو أن الإسكندر تلقى جرعة من مادة سامة قتلته واستطاعت أن تحفظ الجثة من العفن بعد موته، إذ أبطأت من عمليات التفكك والتحلل لديه.. هذا التفسير يُعتبر الأكثر فهماً والأقرب للحقيقة، فالإسكندر تم تسميمه وبسبب هذا السم قد مات..
لكن من الذي سممه؟! ولماذا؟!

نبات الخُربق.. هو القاتل



وفقاً لبحث صدرَ مؤخّراً للدكتور ليو سشيب Leo Schep من مركز السموم الوطني في نيوزلندا، يقترح فيه أن الإسكندر المقدوني قد قُتلَ بسبب شربه لنبيذ مُسمم من قبل إحدى النبات ذات الشكل الحميد والتي عند تخميرها تصبح قاتلة بشكل غير طبيعي، وأضاف الدكتور سشيب قائلاً بأن النظريات الأخرى للتسمم – التسمم بالزرنيخ وغيره – غير معقولة أبداً، إذ أن موت الإسكندر كان سريعاً جداً وليس كما كان معروفاً سابقاً أنه بقيَ لمدة 12 يوم وهو يُعاني.
وقد قام أيضاً أحد الباحثين في جامعة أوتاغو يُدعى بات ويتلي Pat Weatley بالمُشاركة مع الدكتور سشيب في إعداده لبحثه الذي تم نشره في المجلة الطبيّة لعلم السموم السريري، وقد توصلا في نهاية الأمر إلى أن المُجرم في قضية مقتل الإسكندر الأكبر كان “الخربق Veratrum” والذي يُعرف أيضاً بالخربق الأبيض؛ وهو عبارة عن نبات أبيض مُزهر يمكن أن يتم تخميره ويُضاف إلى النبيذ مما يجعله سامّاً، وقد كان معروفاً جداً عند اليونان في تلك الحقبة كدواء عُشبيّ.
من هنا نجد أن الخربق الأبيض تم تخميره وإضافته للنبيذ الذي أُعطيَ للإسكندر المقدوني، وقد يكون هذا الخربق قد تمت إضافته عمداً من أجل قتل الملك أو عن غير عمد كونه كان شائع الاستخدام كدواء في تلك الفترة.
نستطيع من هذا معرفة أن البعوضة التي لطالما اتهمت بقتل الإسكندر الكبير كانت بريئة من هذه القضية، فظهور الخربق من جهة وكشف السجلات التاريخيّة لأعراض التسمم بعد موت الإسكندر، دلّت بشكل قاطع على أن الملك في تلك الليلة مات مسموماً بالخربق وليس بسبب بعوضة الملاريا البريئة تلك.

المصدر
www.ancient-origins.ne