الكاتـبة احـلام مسـتغماني
يسألني العراقيون ، لماذا ليس للعراق من مكان في هذه الصفحة وربما يعنون مكاناً في قلبي . أعذرهم لعلّهم لا يدرون ، كم على مدى عقدين من الزمن حملت همّ العراق، حتى كاد قهره أن يجهز عليّ . .
لقد بلغت مع العراق حزناً ظننت لا حزن بعده قد يوصلني لملازمة الفراش ، وكتبت أيام الحرب على العراق مقالات يفوق عددها ما كتبته عن وطني ، فما نزفت بلاد عربية إلاّ وغدت الأولى في قلبي . ثمّ البقية تعرفونها . . .
هنا مقتطف من مقالٍ كتبته قبل عقد من الزمن ، يوم استبيح العراق وتراثه :
___________
على مرأى من ضمير العالـم ( 26 مارس 2003 )
لم أبكِ أمام جثمان أبي (نحن نبكي دائمًا في ما بعد)، لكنّني بكيتُ وأنا أُشاهد ذلك الرهط الغريب من الرعاع واللصوص وهم يهجمون على متحف بغداد، فيستبيحون ذاكرة الإنسانيّة، ويعيثون فيها خرابًا، ويدمِّرون كلّ ما لم تستطع أيديهم نهبه، ويتركونه وقد غدا مغارة مرَّت بها الوحوش البشريّة.
هكذا، تحت وضح الضمير العالمي، طال النهب والتدمير 170 ألف قطعة آثار ونفائس تاريخيّة، لا مثيل لها في أيّ مكان في العالم.
حدث هذا على مرأى من جيوش جاءت تُبشِّرنا بالحضارة، مُفاخرةً بمعدّاتها المتطوِّرة في الاستطلاع، والتقاط «الصور الحراريّة»، والرؤية الليليّة، لكنّها لم ترَ شيئًا، وأكبر مخازن التاريخ تُنهب كنوزه في عزّ النهار.
فهي لم تأتِ أصلًا لحماية التاريخ، ولا لصيانة الذاكرة، بل لإعادة صياغتها، بحيث نتساوى جميعًا في انعدامها، مُراعاةً ومجاملةً لتاريخها.
عُذرها أنّ العالم بدأ قياسًا بتقويمها، منذ خمسة قرون فقط، يوم نبتت أميركا على قارّة كانت، حتى ذلك الحين، مِلكًا للهنود الحمر. ولذا هي لم تتوقّع أن يكون للعراق الصغير الذي استضعفته، وجاءت تلتهمه كهامبرغر، وهي تتجرَّع الكوكاكولا على دبّابة الحرِّيّة، تاريخٌ يفوق تاريخها بخمسة آلاف سنة. بل إنّها لم تتوقّع أن تجد فيه مؤسّسات وجامعات ومتاحف ومكتبات وبيوتًا جميلة، وحدائق عامّة وطرقات حديثة، وفنادق فخمة، وأُناسًا مثقّفين، جميلين ومُكابرين، ليسوا جميعهم قطّاع طرق ومجرمين، ولا متسوِّلين يستجدون من جنودها الماء والرغيف.
بوش نفسه لم يكن يعرف هذا، حتى إنّ كاريكاتورًا فرنسيًّا أظهره وهو يُوبّخ مستشاره قائلًا: «لماذا لم تقل لي إنَّ في العراق مدنًا لا صحارى فقط؟».
فهل نعجب ألّا يعرف جنوده عن العراق سوى كونه بلدًا يملك ثاني احتياطيّ بترول في العالم، فسارعوا حال سقوط تمثال صدّام، إلى تطويق وزارة النفط، والتمركُز حولها، حرصًا على حماية وثائقها وعقودها من التلف، بينما سلّموا بلدًا بأكمله للسرّاق واللصوص، ليُدمِّروا، بمباركة منهم، السفارات الغربيّة التي وقفت ضدّ غزو العراق، وينهبوا، بكلِّ طمأنينة، بقيّة الوزارات والمؤسّسات والجامعات، فيحرقوا السجلّات والأبحاث والشهادات ووثائق المكتبة والأوراق الثبوتيّة.. بل طال نهبهم ودمارهم حتى المستشفيات، وغرف العمليّات وسيّارات الإسعاف، في بلد يفترش جرحاه الأرض بعد كلِّ قصف أميركيّ. وتقول القوّات الغازية إنّها شنَّت عليه الحرب لا لغاية اقتصاديّة، بل «لضرورة أخلاقيّة» ! ( ...... )