خلّفت الحروب والنزاعات البشرية ملايين القتلى والمصابين عبر التاريخ … لكننا سنتحدث اليوم عن وباء فتّاك قتل من البشر أكثر من أكبر حربين شهدهما العالم وهما الحربين العالمية الأولى والثانية مجتمعتين.
الإنفلونزا الإسبانية
في عام 1918 تفشّى في العالم وباء قاتل سُمي وقتها بالإنفلونزا الإسبانية وسبّبه فيروس H1N1 شديد الفوعة ( أحد أنواع إنفلونزا الخنازير ) بدأ انتشار هذا المرض في كانون الثاني 1918 م واستمرّ حتى كانون الأول 1920 م واجتاح دول العالم كلها وأدى لملايين الوفيات وإلى أضرار اقتصادية واجتماعية هائلة.
مستشفى ميداني في الولايات المتحدة عام 1918 لعلاج المصابين بالفيروس
إحصائيات مرعبة
بحسب الإحصائيات التي أجريت وقتها وبحسب الدراسات التي تمّت حديثاً حول هذه الجائحة المدمرة يبدو أن هذا الوباء قد أصاب تقريباً 500 مليون إنسان حول العالم وأدى لوفاة ما بين 50 – 100 مليون إنسان أي ما يعادل 3 – 5 % من سكان العالم وقتها !!!
وتقريباً لم يسلم بلد أو مكان في الأرض منه ففي الولايات المتحدة الأمريكية مات أكثر من 500 ألف نتيجة الإصابة بهذا الفيروس وفي فرنسا حوالي 400 ألف وفي اليابان 390 ألف وفي البرازيل 300 ألف وفي بريطانيا 250 ألف وفي أندونيسيا مليون ونصف وفي الهند وحدها 17 مليون إنسان فقدوا أرواحهم بسببه !!!
لقد قتل هذا الفيروس أكثر من الطاعون الأسود Black Death الذي اجتاح أوروبا في العصور الوسطى !!!
وقتل في 24 أسبوع فقط أكثر مما قتل فيروس الإيدز في 24 سنة !!!
وقتل بمفرده أكثر مما قتلت الحربين العالميتين الأولى والثانية مجتمعتين !!!
إذاً ما هو هذا الفيروس ؟
تنتمي فيروسات الإنفلونزا إلى عائلة الفيروسات المخاطية Orthomyxoviridae وتشمل عدة أنواع من الفيروسات منها :
- الإنفلونزا الموسمية.
- إنفلونزا الخنازير ( تشمل عدة أنماط أهمها H1N1 ).
- إنفلونزا الطيور ( تشمل عدة أنماط أهمها H5N1 ).
وتعتمد الطريقة العلمية لتسمية هذه الفيروسات على أنواع المستضدات السطحية الموجودة على غلاف الفيروس وبالذات على :
Neuraminidase N
Hemagglutinin H
تسبب فيروسات الإنفلونزا أعراضاً تنفسية متنوعة تختلف شدتها من إنسان لآخر بحسب قوة الفيروس ومناعة الجسم … ومن هذه الأعراض :
الحمى – الصداع – السعال – سيلان الأنف – ألم البلعوم – التعب والوهن العام – آلام العضلات والمفاصل … وأحياناً أعراض هضمية كالإسهال والإقياء.
وتتميز فيروسات إنفلونزا الخنازير والطيور عن فيروسات الإنفلونزا التقليدية بأن الأعراض التي تسببها أشد وتستمر لفترة أطول وأحياناً تؤدي لتدهور مفاجئ في الحالة العامة وقصور تنفسي … وربما الموت !!!
إن فيروس H1N1 هو فيروس حيواني شديد العدوى والسراية ولكنه لا ينتقل عادة إلى البشر بل يبقى انتشاره محصوراً بين الحيوانات وأما عند حدوث طفرات وراثية فيه وتغيرات في DNA الفيروس وخصائصه فيمكن له أن يسبب جائحات مرضية سريعة الإنتشار بين البشر وتخلّف وراءها أعداداً كبيرة من الوفيات وهو بالضبط ما حصل عام 1918 … حيث كان فيروس H1N1 الذي سبب الوباء وقتها فيروساً طافراً شديد الفوعة والعدائية سريع الانتشار والانتقال بين البشر.
فيروس H1N1 مكبر بالمجهر الإلكتروني
تصنيف منظمة الصحة العالمية للأوبئة
وضعت منظمة الصحة العالمية
WHO تصنيفاً للأوبئة والامراض المعدية ويركّز هذا التصنيف بشكل خاص على قابلية المرض للانتقال من الحيوان للإنسان ومن إنسان لـ إنسان وعلى الرقعة الجغرافية التي انتشر فيها ويتألف التصنيف من ست درجات وفق ما يلي :
وباء من الدرجة الأولى : المرض مازال محصوراً بين الحيوانات فقط ولم يثبت إنتقاله من الحيوان للإنسان.
وباء من الدرجة الثانية : المرض منتشر بين الحيوانات مع انتقال حالات قليلة من الحيوان للإنسان.
وباء من الدرجة الثالثة : انتقال حالات عديدة من الحيوان للإنسان ضمن مجتمعات صغيرة كمدينة أو قرية.
وباء من الدرجة الرابعة : انتقال الفيروس من إنسان لإنسان والوباء مازال محصوراً في نفس الدولة.
وباء من الدرجة الخامسة : ظهور حالات في دول أخرى ولكن ضمن نفس الإقليم بحسب تصنيف منظمة الصحة العالمية للأقاليم.
وباء من الدرجة السادسة : ظهور حالات في أكثر من إقليم.
تقسيم العالم لأقاليم جغرافية بحسب منظمة الصحة العالمية لمراقبة تفشي الأوبئة
وكذلك وضع مركز مكافحة الأمراض السارية في الولايات المتحدة مؤشراً لشدة الجوائح المرضية يعتمد على نسبة الوفيات إلى عدد المصابين
Pandemic Severity Index
الفئة |
معدل الوفيات |
1 |
أقل من 0,1 % من المصابين |
2 |
0,1 – 0,5 % من المصابين |
3 |
0,5 – 1 % من المصابين |
4 |
1 – 2 % من المصابين |
5 |
أكثر من 2 % من المصابين |
وبالتأكيد فإن وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 م هو وباء من الدرجة السادسة لأنه انتشر في قارات العالم كلها وجائحة من الفئة الخامسة لأنها سببت وفاة أكثر من 10% من المصابين.
حقائق أخرى
لم تكن جائحة عام 1918 أول ولا آخر وباء يسببه فيروس الإنفلونزا ومن أشهر الجائحات المرضية التي سببتها فيروسات الإنفلونزا عبر التاريخ :
- إنفلونزا آسيا 1957 التي سببها فيروس H2N2 وأدت لـ 5 ملايين وفاة.
- إنفلونزا هونغ كونغ 1968 سببها فيروس H3N2 وأدى لأكثر من مليون وفاة.
- جائحة إنفلونزا الخنازير عام 2009 والتي سببها فيروس H1N1 وأدت لقرابة 150 ألف إصابة توفي منهم 31 شخص فقط.
- جائحة إنفلونزا الطيور عام 2006 والتي سببها فيروس H5N1 وأدى لـ 177 إصابة توفي منهم 98 ( نلاحظ أن نسبة الوفيات بإنفلونزا الطيور أكبر بكثير من إنفلونزا الخنازير ).
ومازال خطر حدوث جائحات عالمية بهذه الفيروسات أمراً وارداً حتى يومنا هذا…
الرئيس الأمريكي فورد وهو يتلقى لقاح إنفلونزا الخنازير ويشجع الشعب الأمريكي على أخذ اللقاح
وتذكر المصادر أن أغلب المتوفين بوباء عام 1918 كانوا من الشباب وصغار السن بينما امتلك كبار السن مناعة نسبية ضد هذا الفيروس وربما يكون التفسير العلمي لذلك بأن كبار السن كانوا قد تعرضوا سابقاً لفيروسات شبيهة بفيروس H1N1 وإنما أضعف منه مما شكل مناعة جزئية لديهم ضد هذا الفيروس ( نفس مبدأ اللقاح تقريباً ).
بنية فيروس إنفلونزا الخنازير
أما في الآونة الأخيرة فقد تم تطوير بعض اللقاحات التي أثبتت فعاليتها في الوقاية من هذه الأوبئة … كذلك الأمر فقد تم اكتشاف عقار تاميفلو ( وهو من مثبطات النورأمينداز : أوسلتاميفير ) يثبط تكاثر الفيروس وانتساخه والذي أعطى نتائج إيجابية في الوقاية والعلاج من هذه الفيروسات.
بقي أن نذكر أن فيروسات الإنفلونزا رغم قوتها الفتاكة داخل جسم الإنسان وتأثيرها الكبير عليه إلا أنها ضعيفة جداً خارج الجسم الحي ولاتستطيع مقاومة العوامل البيئية فهي تتلف بدرجة حرارة 70 أو عند التعرض لأبسط المطهرات والمعقمات.
لقاح الإنفلونزا
ماذا يمكن أن نفعل ؟
الآن وبعد مرور 100 عام على هذه الجائحة ماذا تعلمنا منها ؟ وماذا يمكننا أن نفعل لمنع تكرار هذا الهولوكوست البشري المرعب ؟
يمكنني القول أن أهم سلاح في يدنا لمواجهة هذه الأوبئة الفتاكة هو العلم !!! نعم إنه العلم …
معرفة سبب المرض وطبيعة وخصائص الأحياء الدقيقة المسببة له … وماهي طرق الوقاية وما هي أساليب العلاج.
إن هذه المعلومات التي قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة هي السبيل الأفضل لمكافحة الأوبئة والأمراض المعدية وإنقاذ البشرية من شرورها.
وإنه لمن المدهش حقاً ومن عجائب الحياة وغرائبها أن تُسبّب فيروسات صغيرة لا تكاد تُرى حتى بالمجهر الضوئي أمراضاً وأوبئة تفتك بملايين البشر وتشكّل تهديداً وجودياً للحضارة الإنسانية … وتجعل الإنسان يقف أمامها حائراً مكتوف اليدين !!!
المراجع
1918 Influenza: the mother of all pandemics
The American Influenza Epidemic of 1918 – 1919
Influenza Research Database
cdc.com