شاشةٌ سوداء، وموسيقى جاز تُعزَف في الخلفية، تظهر الاسماء بشكلٍ متتابع، ثم تنتهي إلى اسم واحد فقط يظهر في النهاية، وودي آلن..
في أحد مشاهد فيلم Hannah and Her Sisters المعروض عام 1986، يذهب وودي آلن إلى الطبيب بسبب شعوره أنه أصبح لا يسمع جيدًا عن طريق أذنه اليمنى. بدأ الدكتور في الفحص، وسأل وودي عن ما إذا كان يشعر بزنه خفيفة في أذنه، فقال وودي أنه يشعر بذلك فعلًا، فنصحه الطبيب بعمل اشعة مقطعية على المخ لمعرفة السبب.
ولأن وودي آلن هو “شعور بالقلق يمشي على الأرض”، فقد شعر بأنه أصيب بورم في المخ أدى إلى ضعف السمع في الأذن اليمنى. على أساس هذا التشخيص، توقع وودي آلن أنه سيموت قريبًا، فشعر بالخوف الشديد من أنه سيموت وهو غير مؤمن بأيٍّ من الأديان
الموجودة، وقال لنفسه ماذا لو كان هناك آلهٌ بالفعل؟
حاول وودي آلن البحث عن آله في جميع الأديان، رغم اختلافه معها في الكثير من العبادات والأوامر والنواهي، إلا أن خوفه وقلقه من الموت كانا أكبر من مجرد شعورٍ عابر سيأخذ وقته ويمر. قرر وودي آلن الذهاب إلى إحدى الكنائس ليتحول إلى الكاثوليكية، فسأل القس بأن يخبره عن أدلة على وجود الله، فهو لا يؤمن بوجوده في ظل كل هذا الخراب، ويسأل نفسه دائمًا، كيف يمكن لإله أن يكون حاضرًا في ظل وجود كل هذه الحروب والدماء في العالم؟
ظل وودي آلن يبحث ويبحث بين الأديان المختلفة لكن بلا جدوى، فشعر بخيبة أمل وقرر أن يذهب إلى عيادة الطبيب كي يجري له فحصًا بالاشعة على المخ. قبل أن يأتي الطبيب، تخيل وودي آلن أنه سيموت، وأن كل شيء قد انتهى، هو الأن وجهًا لوجه مع العدم، لكن الطبيب يدخل عليه في النهاية ويقول أنه بخير ولا داعي للقلق.
بعدها، يخرج وودي من عيادة الطبيب راكضًا كالطفل الذي علم أن والده قادم الآن بالهدايا التي يتمناها، يركض وودي آلن ويقفز لأعلى فَرِحًا بالخبر السعيد، لكنه يتوقف فجأة.. كمن تذكر أن هذا الفرح لن يدوم، وأنه – عاجلًا أم آجلًا – سيموت في نهاية المطاف.
يحكي وودي آلن، في فيلمه الوثائقي Woody Allen: A Documentary عام 2012 أنه بدأ رحلة القلق منذ أن كان في السادسة من عمره. قبل أن يصل إلى السادسة، كان وودي آلن طفلًا جميلًا شغوفًا بالحياة وبكل ما فيها، لكنه ما إن وصل إلى السادسة من عمره حتى علم حقيقة أننا جميعًا سنموت في نهاية المطاف، فتوقف عن الشغف بالحياة أصبح كئيبًا وصامتًا معظم الوقت.
عبّر عن هذه الحالة بشكلٍ دقيق، في أحد مشاهد فيلمه الأشهر Annie Hall المعروض عام 1977. وودي آلن طفلًا، جالسًا بجانب أمه، في عيادة الطبيب النفسي، تشرح والدة وودي الأزمة للطبيب وتقول أنه ابنها لا يريد مذاكرة دروسه والنجاح في المدرسة، فيرد الطفل بأنه ليس عليه أن يذاكر، سنموت جميعًا في النهاية، فلماذا نذاكر؟ ما فائدة المذاكرة والنجاح إذا كان الموت هو النتيجة؟
في مشهد آخر من مشاهد فيلم Hannah and Her Sisters، يحكي آلن قصته لأحد الفتيات. يقول آلن أنه في يومٍ من الأيام، اجتاحه الحزن الشديد، وقرر أنه، في كون بلا إله، لا يوجد هناك سببًا للحياة. أمسك آلن البندقية وصوبها نحو دماغه، عندها فكر آلن، ماذا لو كنت خاطئًا؟ ماذا لو كان هناك بالفعل إله؟ لكنه لم يكتفي بفكرة أنه “ربما” يوجد إله، إما التأكد من وجوده أو عدمه. انطلقت رصاصة من البندقية واخترقت المرايا الموضوعة على الحائط، لم يستطع آلن الانتحار لكنه كان متوترًا لدرجة أنه ضغط على الزناد دون أن يقصد.
اضطر وودي آلن إلى الخروج من المنزل ليفكّر في ما فعله، وما يريد أن يفعله، في هدوء. ذهب وودي إلى السينما، المكان المحبب للنفس بالنسبة له. أراد وودي أن يجلس في السينما ليعيد التوازن العقلي إلى عالمه مرّةً أخرى. شاهد وودي آلن فيلمًا قد شاهده مراتٍ عديدة من قبل، لكنه شعر فجأة أن الفيلم جذب كل انتباهه، عندها شعر آلن بأن فكرة الانتحار هي فكرة شديدة الغباء. فكر آلن في إمكانية عدم وجود إله، لكن ماذا لو كانت هذه الحياة هي الفرصة الوحيدة الموجودة أمامك فقط قبل الموت، ألا تريد أن تكون جزءً من التجربة؟
يقول آلن في نهاية المشهد، أنه ربما يوجد في نهاية الحياة شيء، إجابة مثلًا على الاسئلة الكبرى التي تدور في عقله أو شيء من هذا القبيل. يعلم آلن جيدًا أن كلمة “ربما” هي كلمة شديدة الرمادية ولا يمكن تعليق حياتك كلها عليها لكنها أفضل ما يمكننا الوصول إليه حتى الآن. لذلك قرر آلن أن يتوقف عن الاسئلة وان يبدأ في الاستمتاع بالحياة.
لم يتخلَّ آلن عن فكرة الحيرة والقلق حتى في أفلامه الجديدة التي صوّرها خارج مدينته “نيويورك”، ففي فيلم Vicky Christina Barcelona عام 2008، تتحدث فيكي، في أحد مونولوجات الفيلم مع ذاتها، عن خطيبها دوج، الطبيب العادي الممل الذي لا يشبه شخصية “خوان أنطونيو” الرسام الاسباني ذو الشخصية الساحرة والذي أقامت معه فيكي علاقة قبل إتمام زواجها بخطيبها، فتقول أنها تشعر بالحيرة من فكرة هل كان اختيارها صحيحًا؟ أم أن زواجها من دوج كان خطأ من البداية؟ هي تشعر بالاستقرار معه، وهذا أمرٌ جيد، لكنها تشعر بالملل ايضًا، وهذا الأمر يجعلها تشعر بالحيرة بشكلٍ دائم.
ايضًا هناك شخصية كريستينا، الفتاة الجريئة المحبة للحياة والمغامرة بكل ما فيها من طاقة لتجربة كل شيء جديد. لكن حياتها ليست مستقرّة كـ”فيكي”، فهي لا تعرف حتى الآن ماذا تريد من الحياة؟ بالرغم من شخصيتها الجذابة، إلا أنها ترى أنها لا تمتلك أي مواهب خاصة، حتى التصوير الذي بدأت تعتبره هوايتها الخاصة لم تكن متأكدة من أنها تريد احتراف التصوير كمهنة للحياة. حتى عندما بدأت حياتها في التحسن، نتيجة دخولها في علاقة مع خوان أنطونيو، دخلت زوجة أنطونيو السابقة على الخط وبدأت رحلة الصعود والهبوط بعد علاقة ثلاثية شديدة الغرابة، فقررت كريستينا الانفصال عنهما والعودة إلى أمريكا لاستكمال البحث عن مواهبها واكتشاف شغف حياتها والمعنى الحقيقي لها.
ربما كانت أفلام وودي آلن غير مشهورة بالقدر الكافي لعدم احتواءها على مشاهد أكشن قويّة ولا مشاهد حميمية واضحة، ولا الكثير من المؤثرات البصرية المبهرة، لكنها تحتوي على قدر كبير من الفلسفة، فلسفة الحياة والموت، فلسفة المشاعر بشكلٍ عام والحُب بشكلٍ خاص، فلسفة ما نعيشه وما نراه يوميًا حولنا..
هذا ما يشغل بال وودي آلن ويحاول دائمًا أن يقوله إلينا من خلال أفلامه، كما قال على لسان “بوريس” الشخصية الرئيسية في فيلم Whatever Work عام 2009:
“لا أستطيع أن أقول ما يكفي – عن الحياة -، أي قدر من الحُبّ يمكنك منحه أو الحصول عليه، أي قدر من السعادة يمكنك منحه أو سرقته، أي شيء مناسب لك يمكنك فعله افعله”.
المصدر
www.arageek.com