المرحلة الأولى في موضوع الهيلينية و المسيحية
يُعتبر القديس يوستين الشهيد (انظُر كتابنا ”القديس يوستين والآباء المُدافِعون“ ضمن الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ ) (استُشهِد عام 165 م) أهم مُدافعي القرن الثاني، ويُعتبر أيضًا مُؤسِس الفلسفة المسيحية، وقد حاول أن يمِد جسرًا بين الفلسفة اليونانية والفِكْر المسيحي، شارحًا أنَّ المسيح، اللوغوس الأزلي، كان يعمل في التاريخ البشري، مُعلِّمًا الحُكماء الصَّالحين في كلّ مكان، يونانيين ويهود على السواء. (1)
وهكذا كتب يوستين قائلًا أنَّ الكتابات الأفلاطونية والإنجيل قد عبَّرا كلاهما أساسًا عن نفس العقيدة المُختصَّة بالله والعالم، أي أنَّ الله مُنزه، ليس له اسم، غير جسدي، غير مُتغيِّر، غير مائِت، بل ويمتدح تعليم أفلاطون عن علاقة النَّفْس بالله، وإرادتها الحُرَّة، وعن الأصول الإلهية للعالم المادي، ومع ذلك يُؤكِد يوستين أيضًا أنَّ الكتاب المُقدس هو الاستعلان الإلهي الكامل، ولا يتردَّد في أن يرفُض الأفكار الفلسفية اليونانية التي تتعارض مع تعاليم الكتاب المُقدس، وبصفة عامة، يكِنْ يوستين احترامًا كبيرًا لأغلب الفلاسفة، إذ يرى أنهم بحسب حياتهم الفِكرية يُعتبرون مسيحيين حتّى ولو كان يُنظر إليهم كمُلحدين. (2)
وفي هذا الإتجاه الذي يُؤمن بالعلاقة بين الفلسفة والمسيحية، نجد أيضًا القديس كلِمنضُس السكندري (160 – 215 م) وتلميذه العلاَّمة أوريجانوس (185-254 م.) اللذين استمرا في نفس خط يوستين الفِكْري. وقد كتب كلِمنضُس قائلًا أنَّ أفلاطون كان مُقلِدًا غيورًا لموسى (3)، وقال العلاَّمة أوريجانوس أنَّ الفلاسفة يُمكن أن يسهموا في فهم الكتاب المُقدس، وانطلاقًا من هذا الأساس، قدَّم هذان الاثنان خدمة جليلة للمسيحية وذلك بتقنينِهِما للفلسفة كوسيلة للدفاع عن الإيمان، وبالرغم من أنَّ المسيحيين الأقل معرفة وتعلُّمًا كانوا يرتابون من الفلسفة وكانوا ضدها، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. إلاَّ أنَّ كلِمنضُس – المُعلِّم العظيم في الكنيسة – استخدم الأدب الكلاسيكي اليوناني لأغراض تربوية، بينما استخدم أوريجانوس، العالم الشهير والمُفكِر الأصيل، الأدب اليوناني ليصل لفهم وتعبير أفضل عن العقيدة المسيحية، فقد أرادا أن يُظهِرا أنَّ الإيمان والمعرفة ليسا مُتناقضين، وهكذا كان كلِمنضُس وأوريجانوس من أوائِل الآباء الذين حاولوا التوفيق والربط بين الإيمان المسيحي والفلسفة اليونانية.
وقد اتَّبع العديد من آباء الكنيسة اللاحقين زمنيًا هذا المِنهاج الفكري مثل يوحنا الدمشقي (القرن 7 – 8) ونيقولا كاباسيلاس (القرن 14).
وعند مُقارنة المسيحية بالفلسفة اليونانية، يُمكننا أن نقول أنَّ المسيحية نافعة للجميع على السواء، لأنَّ حلولها لمشاكل المُجتمع والأفراد مبنية على أساس الطبيعة الأخلاقية للإنسان، وعلى الإيمان، وهو بدوره مُتاح للناس جميعهم، بينما كانت الفلسفة اليونانية مُتاحة فقط للمُتعلمين والمُثقفين، وقدَّمت حلولها لعدد ضئيل من المُفكرين (4).
كذلك كان التعليم الكلاسيكي يهدِف لإعداد الإنسان للحياة الحاضرة فقط، بينما رأت المسيحية الإنسان كابن لله ووريث لملكوت السموات، لذلك كان مفهومها عن التربية أوسع من المفهوم الوثني لأنها تضمنت بُعدًا جديدًا ألا وهو البُعد الروحي.