احتجت قبل مدة إلى بعض الدورات التعليمية المستقلّة، أي تلك التي ﻻ تتبع نظماً تعليمية حكومية تشرف عليها وعلى تنظيمها. ووجدت نفسي مضطراً إلى أن أكون الطالب وواضع الإمتحان ومصححه، وواضع الخطة التعليمية، بل ووزير التعليم على نفسي أحياناً!
استغرقت زمنا كبيراً قبل البدء فعلياً في دراستي أبحث عن أفضل السبل التي يمكنني بها تحقيق اﻹستفادة المثالية من وقتي ومما أدرس، وكنت قد سمعت قبل عام تقريباً أو نحو ذلك عن شاب اسمه سكوت يونج، أنهى دراسة مقرر معهد MIT لعلوم الحاسوب في عام واحد! في حين أن المعهد نفسه يدرس نفس المقرر تقريباً في أربعة أعوام.
فعدت إلى قناة ذلك الشاب على اليوتيوب التي كان يترك عليها ملاحظاته المرئية كل أسبوع أو بضعة أسابيع أثناء ذلك التحدي، لعلي أطلع على أسباب نجاحه، وأستخرج الطرق التي أثبتت نجاحها معه، وأتجنب تلك التي فشلت في مساعدته على الإنجاز بكفاءة.
وقد رأيت بعد إنهاء مشاهدة تسجيلات ذلك العام كله أن أضع ملخصها بين أيدي القراء كي ينتفعوا كما انتفعت، فإن تلك الطرق أثبتت تفوقها على الطرق التقليدية في الإستذكار في أغلب المجالات. أقول “أغلب” ﻷن بعض مجالات الإستذكار مثل مفردات اللغة الجديدة مثلاً ﻻ يمكن تطبيق قانون بعينه عليها، فإن الحروف تختلف في كل كلمة. حسناً دعنا نبدأ الآن في استعراض ملخص تلك التجربة:
الجدول اليومي
بداية كان يُذاكر اثنتي عشرة ساعة كل يوم، قللها إلى عشر ساعات فقط بعد ذلك، وكان يذاكر عدة مواد في وقت واحد “كحال أغلب الطلاب، الفرق أنه مضطر إلى إنهائهم بسرعة معينة، مع الحفاظ على نسبة تحصيل ﻻ تقل عن 60% مثلاً”. كما أنه كان يخصص يوماً في الأسبوع لعمله الذي يكسب منه رزقه.
لكن ﻻ تدع ذلك يرهبك من الأمر، فإنه حالة خاصة، تشبه تلك التجربة التي يجريها الباحث في معمله على الآلة في أقصى الظروف الممكنة، لكي يطمئن أنها ستعمل بكفاءة في الظروف العادية.
وبالنسبة لحياته الإجتماعية، فإنه كان يخرج مرة أو مرتين كل أسبوع. كما أن الليل في كل يوم خالٍ من الأعمال والمذاكرة.
#ملاحظة: بعد مرور شهرين من بدء تجربته، اقتطع من وقته إجازة لمدة أسبوعين، كي لا تظنّ أنه آلة ﻻ ترتاح، ولكي لا تستغرق في جلد ذاتك إذا دعتك نفسك إلى إجازة بعد عمل طويل.
كيف تدرس بذكاء – الإستراتيجيات التي اتبعها
أولاً: كُنّ على علم بما تجهله بالتحديد
تحديد الأجزاء التي تجهلها من المادة أو التي ﻻ تلمُّ بها بشكل كاف يسهّل عليك وضع الأولويات في المذاكرة، وبمجرد أن تحدد تلك الأجزاء المفقودة باستخدام الأسئلة مثلاً، فإجابتك عنها ستُبيّن لك مدى معرفتك بالجزء الذي تذاكره، ويمكنك أن تنطلق في مراجعتها بشكل جيّد عبر الوسائل التالية:
تقنية فاينمان
أحضر ورقة وقلماً، حاول صياغة الجزء الذي قرأته أو الصفحة التي ذاكرتها أو القانون الذي تدرسه، بعد محاولة استيعابك وفهمك له، بأسلوبك الخاص، في تلك الورقة، ملخصاً أهم ما به، وبطريقة سهلة، ودون النظر إلى شيء من المادة طبعاً.
ابنِ منطقاً واستعارات لما تذاكره
لكي تربط بين المعطيات التي تذاكرها بطريقة أفضل من التكرار الممل إلى أن تحفظها، فإنك تحتاج إلى إيجاد وسيلة ما يمكن لتلك المعطيات أن ترتبط ببعضها عن طريقها، وهذا سهل غالباً ﻷن أجزاء المادة الواحدة تفضي إلى بعضها بطريقة أو بأخرى.
فمثلاً تستطيع ربط نظرية وعكسها بتطبيقها في الحياة العملية، وهذا تحصل عليه بقليل من البحث على هاتفك أو على حاسوبك. وذلك “أي ربط النظرية بتطبيقها” من أفضل الأسباب المعينة على الفهم وثبات العلوم في صدرك، فسوف تذكر تلك النظرية كلما رأيت تطبيقها أمامك في المنزل أو في الشارع.
في تجربة كان يجريها مارتي لوبديل، أستاذ متقاعد لعلم النفس كان يعمل بجامعة بيرس، فإن الطلاب استطاعوا تذكر حروف أكثر من المُعدّل الطبيعي للدماغ البشرية، لمجرد أن تلك الحروف قُدِّمت إليهم في شكل كلمة يعرفونها، بمعنى آخر، حين قُدّمت إليهم في شكل تطبيق عملي يستخدمونه كل يوم مثلاً.
ثانياً: ابنِ إطارات
حين تدرس في مؤسسة نظامية، فإنك تتقبل المنهج الدراسي ﻻ شعورياً، وتفتش عن النقص في نفسك إن لم تفهم مادة ما، ﻷنك تعتقد في الغالب أن من وضع المنهج قد صممه كي يستطيع استيعابه أبناء مرحلتك العمرية.
وإذا واجهت مشكلة في فهم بعض المقررات عن زملائك في الصف، فإنك تقول لنفسك ربما هناك شيء فاتني، ربما ينقصني بعض الأساسيات، ويكون كذلك بالفعل.
أما إذا كنت تدرس بمفردك، وأنت واضع المنهج أحياناً! فقد تتعرض ﻷوقات تقول لنفسك فيها أنك غير مؤهل لتلك الدورة أو تلك المادة، أو أن ذكائك أقل من المطلوب لها! لكنك ﻻ تفكّر باﻷسلوب الذي تفكّر به إن كنت في الحالة الأولى، أي في مؤسسة نظامية.
وللتغلب على تلك المشكلة، تحتاج إلى استخدام بعض التقنيات المعينة على المذاكرة، مثل كتابة نقاط مختصرة، ثم شرحها باستفاضة بأسلوبك الخاص وكأنك تشرحها لشخص آخر.
أو صياغة ذلك التلخيص أو الشرح الذي كتبته أنت لما تذاكره على هيئة أسئلة وإجابات، فذلك جيّد جداً في المراجعة فيما بعد. أو تكون الأسئلة حلقة ربط بين القانون أو النظرية أو أيّاً ما تذاكره، وبين تطبيقه في الحياة العملية.
وهذه الطرق هي الإطارات التي تبنيها لنفسك من أجل فهم المواد التي تذاكرها، وهي أفضل من الترديد المجرد حتى الحفظ، فهي تُعمِّق فهمك للمادة عبر بناء إطارات فهم عميقة ومترابطة.
ثالثاً: استثمر وقتك “أي ادفع منه!”
وتلك الطريقة السابقة وأشباهها تستهلك وقتاً، وأقول لك ذلك لئلا تبخل عليها من وقتك، فنتائجها أفضل من الطريقة العادية التي نتبعها.
واعلم أن الأعمال الجيّدة تستغرق وقتاً، لذا ﻻ تتوقع أن تخلق عادة جديدة وتدخلها في نظامك بدلاً من أخرى قديمة دون استغراق وقت في الإلتزام بها حتى تصبح جزءاً من شخصيتك.
رابعاً: التحليل العميق
استبدل طريقتك العادية في الإستذكار وترديد ما ﻻ تفهمه حتى تحفظه، أو حتى ترديد بعض التعريفات التي تظن أﻻ طريق آخر لتذكرها سوى بحفظها كقالب أصم بطريقة أخرى تتلخص فيما يلي:
إنشاء سياق للمادة أو الجزء الذي تذاكره
وهذا أحد معاني التحليل العميق، لتقريب المسألة قليلاً، أجب دوماً عن سؤال: لماذا أحتاج إلى هذا (التعريف – القانون – المنهج – العلم – ..إلخ)
المحاور الثلاث للتحليل العميق
قبل عدة أعوام، كتب الدكتور مسألتين على اللوح في نهاية الفصل الدراسي ثم رحل، وبالطبع فإننا نقلنا تلك المسائل مثل الببغاوات، ونحن ﻻ نفهم ما علاقة الفيزياء والكهرباء بالتفاضل!؟
فلما سألنا زملاءنا الأقدم منا عن تلك المسألتين، أخبرونا أنهما تذكرتين للنجاح في المادة، فمن يجيب عنهما في الإمتحان يحصل الإمتياز وإن ترك بقية الإختبار فارغاً! – بالمناسبة فإن الأستاذ وضع المسألتين بحلولهما-.
وظللت أنا وزميل لي في ليلة الإمتحان نقلب الورقة راسأً على عقب – حرفياً – كي نعثر على مفتاح لهذا اللغز ليكون بدلاً عن الحفظ الأصم للمسألة دون الفهم.
ثم اكتشفنا أنهما تطبيق على محاضرة قد ألغيت! ولما لم يكن لدينا وقت لذلك الإندهاش الذي ارتسم على وجهك الآن، فإننا سريعاً ما نظرنا للمحاضرة لندرسها ونربط خيوطها بتلك المسألة.
إنني أسوّق تلك القصة لكي أبين لك الفرق بين الطالب الذي يضطر إلى ترديد نصوص ﻻ يفهمها بالضرورة كي يصبها في ورقة الإجابة ثم يخرج من قاعة الإمتحان وكأنما محي دماغه! وبين ذلك الطالب الذي يبحث عن فهم سرّ عمل القوانين التي يدرسها، وكيف يربطها ببعضها، وتطبيقاتها في الحياة العملية من حوله، فكل ذلك يجعل من تذكرها في الإمتحان مجرد تحصيل حاصل ونتيجة حتمية للفهم.
وذلك يدور حول تلك المحاور الثلاث التي قصدتها في هذه الفقرة: فهم فكرة عمل اﻷشياء، والبحث في إيجاد إجابات لتفاصيلها وربطها بمعلومات أو تطبيقات في الحياة العملية. ولكي ﻻ أغشّك، فلا تتوقع أن تحصل على ثمرات تلك الطرق بمجرد قراءة المقال، فإن الأمر يحتاج إلى ترويض صارم للنفس، ومجاهدة لها، وعمر ينقضي بعضه في تربيتها، وصحبة تعين على ذلك إن لزم الأمر.
خامساً: التعلُّم العنيف
هذه النقطة مفيدة في حالة من لا يملك الكثير من الوقت، أو ﻻ يهتم لتحصيل درجات، فانتبه!
بمجرد أن تفهم 75% من الفكرة العامة للمادة أو الموضوع، تجاوزه إلى غيره، ثم عد ﻻحقاً إليه حين تقابل مسألة تتعلق به أو مرتبطة به في الفصول اللاحقة للمادة، فتكمل استيعابك للفكرة عبر ربط المعلومات ببعضها أو حل المزيد من المسائل.
#ملاحظة: هذه الطريقة غير مفيدة بمفردها، فلابد أن تربطها بالنقطة الثامنة التي سأذكرها بعد قليل.
سادساً: كيف تقرأ الكتب الدراسية؟
لعلك تستخدم الطريقة العادية على الأغلب في قراءة الكتب الدراسية وتستخدم فيها قلماً في تحديد الأجزاء المهمة أثناء قراءتك، والتي تخدعك بوهم فهم المادة التي تذاكرها.
لكنك في الواقع تنسى أغلب ما تحدده بذلك القلم فيما بعد، ويُفضّل يونج إحضار كراسة كبيرة أو ورقاً لتسجيل ملاحظاتك عما تقرأه، الأسئلة التي قد ترد على ذهنك، إلخ، أي شيء تقريباً يخطر على بالك. وعد بعدها إلى المادة لتتأكد من صحة ما كتبت، وما إذا كان هناك شيء مهم لم تسجله.
ثمّ تلخص ذلك مرتباً في نقاط تكتبها بأسلوبك كما فهمتها، وليس نقلاً عن الكتاب، وزوّد تلك الملاحظات بأمثلة إن لزم الأمر أو إذا احتجت لذلك.
واحرص على استيعاب الفكرة العامة للموضوع الذي تدرسه أو الجزء الذي تذاكره، هل تدرك ما الذي يتحدث عنه ذلك الجزء؟ هل تستطيع شرحه لشخص من خارج المجال الذي تدرسه؟ هل تستطيع شرحه مكتوباً ومختصراً؟
سابعاً: تطوير قدرتك على التركيز
يشرح يونج في تلك النقطة نوعين من المهام، واحدة نشطة وأخرى غير نشطة أو غائبة. ويعطي أمثلة على النوع النشط من عينة المهمات البرمجية أو تركيب مجسمات أو أي نشاط تقريباً يجعلك تستخدم يديك أو قدميك أو مجموعة حواس متعددة في وقت واحد.
أما المهام غير النشطة فهي مثل القراءة، الإستماع، المشاهدة، إلخ، وهي النشاطات التي ﻻ تفعل فيها شيئاً سوى الجلوس ساكناً بلا حراك. الأمر الذي يجعلك عرضة للتشتت مع أقل مؤثر خارجي.
وبما أن تلك النشاطات الأخيرة هي الغالبة في المذاكرة، فهو يقترح تحويلها إلى مهام نشطة عبر إدخال بعض التعديلات عليها، فمثلاً تزيد قدرة استيعابك وتركيزك إذا كنت تسجل ملاحظات أثناء قراءة كتاب أو مشاهدة محاضرة.
ثامناً: التَعلّم العكسي
هذا المبدأ ورد ذكره في المقال مفصلاً، ودارت حوله معاني النقاط السابقة، وهو يلخص جزءً كبيراً من المقال في عدة نقاط:
تاسعاً: قوائم المهام
بدلاً من ورقة كبيرة تعلّقها أمامك فيها كل ما تريد مذاكرته خلال الفصل الدراسي، أو الأهداف السنوية أو الشهرية، إلخ. والتي تشعرك بالذنب كلما نظرت إليها وتدفعك للعمل المستمر حتى يصيبك الإرهاق وتبدأ في كره تلك الأهداف.
فإن يونج يقترح عليك أسلوباً آخر وجد فائدته أعظم، وهو كتابة أهداف أسبوعية في ورقة، وانتقاء خمسة إلى سبعة أهداف كل يوم وكتابتها في ورقة صغيرة لتحقيقها.
من ناحية فأنت تعرف ما عليك فعله اليوم بالتحديد، فإذا أنهيته صار يومك ملكك تستطيع فعل ما تشاء به! ومن ناحية أخرى ﻻ تشعر بالتقصير اتجاه أهدافك ﻷنك تعرف بالتحديد ما عليك فعله خلال الأسبوع، وأنت تمضي فيه بثبات، فلا داعي للقلق والعجلة!
الخُلاصة
آمل أن تفيدك هذه التجربة كما استفدت منها، فقد جرّبت بعض تلك الوسائل حتى قبل تعرفي على تجربة يونج ووجدت أثرها عظيماً في الإنجاز، أقول ذلك لئلا تظن أني انبهرت بالشاب وبتجربته وأثر ذلك على حكمي عليه.
وﻻ أنسَ أن أخبرك أن تعود إلى هذا المقال كل حين لتقرأه مرة أخرى وكأنها أول مرة، لتختار نقطة جديدة تطبقها في نظامك، فذلك أفضل من محاولة تطبيق المقال كله دفعة واحدة.
وقد تعمّدتُ أن أترك بعض النقاط تتكرر بصورة أو بأخرى في المقال منفردة أو متعقلة بغيرها للتأكيد عليها من ناحية، وﻷمانة النقل من ناحية أخرى، فإن هذا أقرب شيء إلى محتوى الفيديوهات على قناة سكوتّ يونج.
المصدر
www.arageek.com