لا نجاة من غائلة المال إلا بالمحافظة على امور :
الأول أن يعرف مقصود المال وأنه لماذا خلق وأنه لم يحتاج إليه حتى يكتسب ولا يحفظ إلا بقدر حاجته .
والثاني أن يراعي جهة دخل المال فيجتنب الحرام المحض وما الغالب عليه الحرام ويجتنب الجهات المكروهة القادحة في المروة .
والثالث أن يراعي جهة الخرج ويقتصد في الانفاق غير مبذر ولا مقتر قال الله تعالى : «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما» وفي الحديث النبوي« ما عال من إقتصد ».
والرابع أن يضع ما اكتسبه من حلّه في حقه ولا يضعه في غير حقه فان الاثم في الأخذ من غير حقّه والوضع في غير حقه سواء .
والخامس أن يصلح نيته في الأخذ والترك والانفاق والامساك ، فيأخذ ما يأخذ ليستعين به على العبادة ويترك ما يترك زهدا فيه واستحقارا له ، وإذا فعل ذلك لم يضرّه وجود المال .
قال أمير المؤمنين (ع) : «لو أن رجلا أخذ جميع ما في الأرض وأراد به وجه الله فهو زاهد ، ولو أنه ترك الجميع ولم يرد وجه الله فليس بزاهد» .
إن قيل : أيهما أفضل الغنى بنية الاستعانة على العبـادة أم الفقـر بنية التّفـرغ لهـا ؟ .
قلنا : الأفضل منهما ما لا يشغل العبد عن الله ، فان كان الفقر يشغله عن الله فالغنى أولى به ، وإن كان الغنى يشغله عن الله فالفقر أولى به ، وذلك لأن فضل الفقر والغنى بحسب عدم تعلق القلب بالمال وفقده ، فان تساويا فيه تساوت درجتهما إلا أن هذا مزلة الاقدام وموضع الغرور ، فان الغنى ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون حبّه دفينا في باطنه وهو لا يشعر به ، وإنما يشعر به إذا فقده فليجرب نفسه ، وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء ، وإذا كان ذلك محالا وبعيدا فلنطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل ، لأن علاقة الفقير وانسه بالدنيا أضعف غالبا وبقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب تسبيحاته وعبادته ، فان حركات اللسان والأبدان ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الانس بالمذكور ولا يكون تأثيره في آثار الانس في قلب فارغ من غير المذكور كتأثيره في قلب مشغول ، ولهذا ورد في فضل الفقراء على الاغنياء على الاطلاق ما ورد ، ثم ليس معنى الفقر أن لا يملك شيئا البتة .
قال الصادق (ع) : في كلام له مع الصوفية : «ثم علم الله نبيّه كيف ينفق وذلك أنه كانت عنده (ص) أوقية من الذهب فكره أن يبيت عنده فتصدّق بها فأصبح وليس عنده شيء ، وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل واغتم هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيما رفيقا (ص) فأدّب الله نبيّه بأمره فقال : «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا»يقول : إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك فاذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال قال : ثم من علمتم بعده في فضله وزهده سلمان الفارسي وأبي ذر رضي الله عنهما .
فأمّا سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنة حتى يحضر عطاءه من قابل ، فقيل له : يا أبا عبد الله أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلك تموت اليوم أو غدا فكان جوابه أن قال : مالكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليّ الفناء ، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتات «تلتاث خ» على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه ، فاذا هي احرزت معيشتها اطمأنت .
وأمّا ابو ذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم أو نزل به ضيف أو رأى بأهل الماء الذين معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشاة على قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم فيقسمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضّل عليهم ، ومن أزهد من هؤلاء ؟ وقد قال فيهم رسول الله (ص) ما قال ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئا التبة كما تأمرون الناس بالقاء امتعتهم وشيئهم «شيئتهم خ» ويؤثرون به على أنفسهم وعيالاتهم .
واعلموا أيها النفر اني سمعت أبي يروي عن آبائه أن رسول الله (ص) قال يوما : ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن «انه خ» إن قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له ، وإن ملك ما بين مشارق الارض ومغاربها كان خيرا له ، وكل ما يصنع الله به فهو خير له» .