بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته



لا يوجد مقام أعظم من مقام "عند الله" بالنسبة للإنسان الكامل، حيث يرتقي الإنسان إلى أن يصل إلى حضور الله. وهذا أعلى مراتب السير التكاملي للإنسان وهو مفتوح للجميع أيضاً. فما هو الطريق الذي يوصله إلى المقام العظيم؟ وماذا نفعل لكي ننال هذا المقام؟
أهم مراحل هذا الطريق، هو أن نرى الله حاضراً في جميع شؤون حياتنا، حتى نتمكن بهذا الشهود من السفر إليه فلا يصل العبد إلى حضور المولى إلا عندما يرى مولاه حاضراً وناظراً في جميع الأحوال إلى أعماله. فإذا حصل له ذلك فإنه لن يهم بأي عمل إلاّ وفق إرادته، وهذا ما يوصله إليه. لهذا، إذا أراد الإنسان أن يحصل على مقعد عند الله، ينبغي في البداية أن يرى الله حاضراً وناظراً في جميع شؤونه ثم بعد ذلك يؤدي على أساس هذا الشهود جميع الأعمال خالصة لوجه الله. فإذا قام بذلك فإنه يصل إلى حضور الله.
إحدى الآيات التي يعد الالتفات إليها مؤثراً في طي هذا الطريق، الآية المباركة من سورة الحشر والتي أشرنا إليها سابقاً:
﴿يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله﴾.
فهذه الآية تدعونا إلى أصلين أخلاقيين، الأول المراقبة والثاني المحاسبة. فكل إنسان مكلف بمراقبة نفسه ومحاسبتها، فيراقبها في أفعالها وتصرفاتها وأقوالها ويحاسبها، فإذا عمل خيراً شكر الله وإذا عمل سوءاً استغفر الله وتاب إليه.
الآية الأخرى التي تلعب دوراً مؤثراً في طي هذا الطريق أيضاً، الآية الكريمة:
﴿وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلاّ كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه﴾ (يونس: 61) فهي تخاطب خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تنتقل إلى خطاب الناس مؤكدة على حضور الله وشهوده لكل أفعال البشر.
فليس الله شاهداً على أعمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغه فحسب، وليس الله شاهداً على أفعال المؤمنين في الدنيا فحسب، بل إنه شاهد على كل إنسان صالح أو غير صالح، فعل حقاً أم باطلاً، في أي زمان أو مكان، في الشرق أو الغرب في الأرض أو السماء.
فإذا أدرك الإنسان إنه في حضور الله تقدست ذاته، يسعى لأن يجعل كل أعماله موافقة لإرادة الله وخالصة لوجهه سبحانه. فالله يقول:
﴿وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً﴾ فليس الله هو الشاهد وحده، وإنما ملائكته وأولياءه. فالأئمة المعصومون عليهم السلام شاهدون على أفعالنا. وهم حاضرون إلى جانب أعمالنا بنور السماوات والأرض، وسوف يأتي ذلك اليوم الذي سوف نشاهد فيه أعمالنا حاضرة لدينا. وهناك لن ينكر أحد ما فعله.
والقرآن الكريم يقول أن الملائكة شاهدون على أعمالنا وهم يسجلون كل ما يصدر منّا وكذلك الأئمة المعصومين عليهم السلام، وسوف يشهدون علينا يوم القيامة. والله شاهد فوق الجميع. وقوله تعالى:
﴿إذ تفيضون فيه﴾ يعني إنه شاهد على ما نهمّ به من عمل. فإذا فهم الإنسان مثل هذه المعاني وأدرك معنى حضور الله ورسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإمام الزمان عليه السلام، فإنه سوف يبذل قصارى جهده لكي لا يؤدي أي عمل إلا لوجه الله تعالى هذا بالإضافة إلى اجتناب المعاصي والذنوب.
فالإنسان الذي يرتكب أعمال الحرام، لن يرى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإمام العصر عليه السلام في مقام الشهادة، لأنه غائب وأعمى.
وفي سورة التوبة المباركة آية تدل على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام يرون، والله يرى. بقوله تعالى:
﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ (التوبة: 105).
يروى أن الإمام الرضا عليه السلام قد قال عندما طرح عليه هذا الموضوع: "نحن نشاهد كل عمل تعملونه". وقد استصعب الحاضرون هذا الأمر. فكيف يشاهد إمام زماننا وهو في بيته ما نقوم به في منازلنا فتلى عليهم الآية المذكورة لكي يزيل دهشتهم. ثم قال عليه السلام: "نحن المؤمنون الذين نرى أعمالكم" (تفسير نور الثقلين).
وفي أحد الأيام دخل رجل إلى بيت الإمام الباقر عليه السلام، وكان قد تعرض للرجل الذي جاء ليفتح له الباب بطريقة سيئة. ثم سأله هل مولاك في المنزل أم لا؟ فأجابه الإمام عليه السلام من داخل الغرفة قائلاً: "أدخل لا أم لك" فارتعد الرجل وقال: يا بن رسول الله! لقد فعلت ذلك لأنظر إن كنت ترى أم لا. فأجابه الإمام عليه السلام: "لئن ظننت أن هذه الجدران تحجب أبصارنا كما تحجب أبصاركم إذاً لا فرق بيننا وبينكم" (البحار:46) فلا يوجد شيء يحجب أبصار أولياء الله.
وهكذا، فإنه أعمال الإنسان تكون مشهودة عند الله وملائكته الذين يكتبون كل شيء، وكذلك الأئمة المعصومين عليهم السلام وعندما يدرك الإنسان هذه الحقائق فسوف يسعى لاجتناب المعاصي وفعل الصالحات خالصة لوجه الله. وهناك سوف يحيط بالعالم ويصبح مسلطاً عليه. وهذا أعلى منازل المخلصين. وهو متيسر للإنسان. وما أخسر الذين يبيعون أنفسهم للدنيا وهم مدعوون للوصول إلى هذا المقام.
وكدليل على الكلام السابق يبين القرآن الكريم:
﴿وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء﴾ (يونس: 61) وهذا الأصل الكلي يشير إلى أن جميع ذرات عالم الوجود لا تغيب عن علم الله، فهي حاضرة ومشهودة لديه.
"فالعزوب" هو الغروب والغيبة، "والعازب" هو الغائب.
﴿ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين﴾.
والإنسان عندما يدرك هذه المعاني، لن يطلب شيئاً غير إرادة الله وهناك سوف يصل إلى مقام الولاية الشامخ، ويصبح ولياً من أولياء الله.
فكما أن الله وليه، يكون ولياً لله تعالى.
ثم تأتي التالية لتقول:

﴿ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ "عند الله". ففي مقام "عند الله" لا خوف ولا غم. وعندما يصل الإنسان إلى مثل هذا المقام فقد نال منزلة النعمة المحضة واللذة المحضة. حيث حرم الله الآمن.
فالإنسان إذا فقد محبوباً يحزن له ويغتم، وإذا كان معرضاً للزوال يخاف عليه. فالخوف والحزن موجودان حيث توجد الأشياء التي يتعلق قلب الإنسان بها وهي زائلة. فإذا زالت حزن، وإذا كانت معرضة لذلك خاف.
فالخوف يرتبط بالآتي والحزن يرتبط الماضي. فماذا يفعل الإنسان حتى يتخلّص من أساوة هذين الخطرين؟ وكيف ينجو من خوف ويفلت من حزن؟
إن هذه الآية تبين سبيله وتدعوا الإنسان ليجعل قلبه متعلقاً بالذي لا يزول ولا يفنى
﴿وهو الحي الذي لا يموت﴾.
والذي يشعر بهذا المعنى جيداً هو ذلك الإنسان العاشق للشهادة في متراس الحرب، وثغور الجهاد. لأن قلبه لم يتعلق بشيء إلا بلقاء الله الذي لا يفنى. وقلبه لا يعشق ما يزول. وعندها سوف يصبح ولياً لله. والولي هو الذي يكون تلو المولى عليه أو المولى.
وكلمة "وليه" تعني: صار قربه. فإذا جعلنا الألف إلى جانب الباء نقول "الباء ولي الألف". وهذا هو معنى الولاية. فالعبد إذا صار بالنسبة لمولاه بهذا الشكل، ولم يجعل الله أعماله بيد غيره تظلله عناية الله ولطفه ولا تتركه أبداً والله يدير أعماله. عندها يكون الله وليه
: ﴿الله ولي الذين آمنوا﴾ ﴿يخرجهم من الظلمات إلى النور﴾.
فالذي لا يريد غير الله. ولا يتعلق بشيء سوى لقائه يصبح ولي الله. ولأنه في محضر الله، فلن يرى حجاباً بينه وبين الله، وسوف يشاهد نفسه ضعيفاً ومحض الفقر والمحدودية، والله القوي المحض والحقيقة المطلقة. وهناك حيث الحقيقة المطلقة التي لا يخلو منها مكان، يشاهد ذلك الإنسان نفسه في محيط محضرها المطلق، ويكون ولياً لله.
ولأنه لم يجعل محبوباً إلا الله والله هو
﴿الحي الذي لا يموت﴾ فمحبوبه لا يزول. ولأن "الله على كل شيء شهيد" فلا يعزب عنه أي شيء وهو ﴿على كل شيء قدير﴾ فلا يعجزه شيء وبما أنه "بكل شيء محيط﴾ فلا يتعدى عن إحاطته شيء ﴿ولله ملك السموات والأرض﴾ فلا شيء لغيره ولهذا فإن مثل هذا الإنسان لن يعيش أي حزن أو خوف. لأن محبوبه لا يزول ولا يفنى.
ثم تشرح الآيات التالية طبيعة عملهم:
﴿الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾ أي إنهم قد آمنوا الآن، وقد كانوا من قبل أتقياء فهم أصحاب الإيمان الكامل. وكانوا من قبل أصحاب الإيمان الضعيف والمتوسط، وقد كان هذا الإيمان المتوسط باعثاً على استمرار التقوى (التي ذكرت مع الفعل الماضي الناقص: كانوا) وهذه الصيغة تدل على الاستمرار في الماضي، في مثل هذه الموارد. ﴿وكانوا يتقون﴾ تعني إنهم دائماً كانوا أتقياء، فذلك الإيمان السابق وهذا الاستمرار في النزاهة أوصلا إلى الإيمان الكامل. هذا الإيمان الذي يتلازم مع الولاية فسيرتهم أنهم كانوا طوال عمرهم من المتقين. ولا يقال للذين كانوا يتقون أحياناً ويعصون أحياناً: كانوا يتقون.
لأن كلمة "كان" فعل ماض، فإذا اتصلت بالمضارع تعني الاستمرارية. فالمداومة على التقوى توصل الإنسان إلى مقام الولاية الشامخ، حيث يصبح في أمن الله:
﴿والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ ألا يريد الإنسان أن يصل إلى حيث لا يريد عذاب ولا خوف ولا حزن؟
القرآن الكريم يقول أن الإنسان يمكن أن يصل إلى المقام الذي لا ألم فيه أبداً
﴿لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ (يونس: 64).
لو كان للإنسان محبوب لا يفارقه أبداً هل سيشعر بالحزن أو الخوف؟ ولأن ولي الله يرى كل العالم ملك الله، فإن ماله ونفسه لله. وسوف يسلّم لكل ما هو من الله راضياً. وهكذا لن يصيبه أي سوء.
أما إذا لم يدرك الإنسان هذا المعنى، ولم يسعى للوصول إلى المقام، فهو إنسان منقطع، كمن أوكله الله إلى نفسه، وفي مثل هذه الحالة وسوف يرى كل اتجاه يذهب نحوه عذاباً، فولي الله في راحة ونشاط في جميع أحواله، أما هذا الإنسان الذي هو عدو الله معذب دائماً. لأن كل ما يتعلق به قلبه زائل. وكل ما يتمسك به منقطع.
ولهذا نجد أن الله سبحانه يصف حالة المعرضين عن ذكر الله:
﴿ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ (طه: 124) أما أولياء الله فلهم البشرى، وفي نهاية الآية المذكورة يقول الله تعالى: ﴿لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم﴾ (يونس: 64).
فهذه أصول ومبادئ إلهية وحقائق قرآنية وسنن ربانية لا تتغير ولا تتبدل. وفي مكان آخر يقول :
﴿لا مبدل﴾ (الأنعام: 34). فما هي القدرة التي تبدل كلمات الله؟ أهو الله الحق الذي لا يصدر منه إلا الحق؟ وهذا غير حاصل ﴿لأن الخير المحض لا يصدر منه إلا الخير". وغير الله لا يقدر التصرف في السنن الإلهية. ﴿لا تبديل لكلمات الله، ذلك هو الفوز العظيم﴾. فهذا الفوز العظيم هو وصول الإنسان المؤمن إلى الولاية. ولا يوجد أعلى من هذا المقام أبداً ﴿طوبى لهم وحسن مآب﴾.
والحمد لله رب العالمين