بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
لا يخفى على كل ذي وجدان أنّ الإنسان، بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتيّة، يعشق الكمال التام المطلق، ويتّجه قلبه شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها. وبهذا الحب للكمال تتوفّر إرادة المُلك والملكوت، وتتحقق أسباب وصول عشّاق الجمال المطلق إلى معشوقهم.
غير أنّ كل امرئٍ يرى الكمال في شيءٍ ما، حسب حاله ومقامه فيتوجّه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجّهة إليها. وأهل الله يرون الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله سبحانه يقولون ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا﴾
ويقولون: "لي مع الله حال" وفيهم حب وصاله وعشق جماله. وأهل الدنيا عندما رأوا أن الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتّجهوا فطرياً نحوها.
ولكن على الرغم من كل ذلك، فإنه لمّا كان التوجه الفطري والعشق الذاتي قد تعلّقا بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلّقات عرَضياً ومن باب الخطأ في التطبيق. إنّ الإنسان مهما كثر مُلكه وملكوته، ومهما نال من الكمالات النفسية أو الكنوز الدنيوية أو ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلّق قلبه بمشتهياتٍ أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. كذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطرٍ من الأقطار، تتوجّه بنظرة طامعة إلى قطرٍ آخر، بل لو أنها سيطرت على الكرة الأرضية برمّتها، لرغبت في التحليق نحو الكرات الأخرى للاستيلاء عليها. إلّا أنّ هذه النفس المسكينة لا تدري بأنّ الفطرة إنما تتطلع إلى شيءٍ آخر. إنّ العشق الفطري الجبلّي يتّجه إلى المحبوب المطلق. إنّ جميع الحركات الجوهرية والطبيعية والإرادية، وجميع التوجهات القلبية والميول النفسية تتوجّه نحو جمال الجميل الأعلى على الإطلاق، ولكنّهم لا يعلمون، فينحرفون بهذا الحب والعشق والاشتياق - التي هي براق المعراج وأجنحة الوصول - إلى وجهةٍ هي خلاف وجهتها، فيحرّرونها ويقيدونها بلا فائدة.
لقد ابتعدنا عن المقصود، وهو أنه لمّا كان الإنسان متوجّهاً قلبياً إلى الكمال المطلق، فإنّه مهما جمع من زخارف الحياة فإنّ قلبه يزداد تعلّقاً بها. فإذا اعتقد أنّ الدنيا وزخارفها هي الكمال ازداد ولعه بها، واشتدّت حاجته إليها، وتجلّى أمام بصره فقره إليها. بعكس أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدنيا، فكلّما ازداد توجههم نحو الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا، وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر في قلوبهم الغنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها. كما أنّ أهل الله مستغنون عن كلا العالَمين (الدنيا والآخرة)، متحرّرون من كلتا النشأتين وكل حاجتهم نحو الغنيّ المطلق، متجلّياً الغِنى بالذات في قلوبهم، فهنيئاً لهم.
إذاً، يمكن أن يكون مضمون الحديث الشريف إشارة لما مرّ شرحه من قوله: "مَن أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه جعل الله الفقر بين عينيه، وشتت أمره، ولم ينل من الدنيا إلا ما قُسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه، جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره".