عندما يُتابع المرء الحركة الفنية عند شعوب الأرض على إختلاف منابعهم ومفاهيمهم ومحيطهم يجد أنَّ هُناك إختلاف كبير في تقبل الإنسان لهذا الفن أو ذاك سواء كان من هذهِ الفئة أو تلك ، والسبب في ذلك إنما يعود إلى عدم وجود تعريف دقيق ومنطقي لمصطلح الفن عند الإنسان ، وذلك على الرغم من المحاولات العديدة والحثيثة للفنانين من جميع أنحاء الأرض لإعطاء وصف دقيق وحقيقي للفن.
ولنفهم حقيقة الفن بشكل خاص وبالتالي حقيقة الفنانين بشكل عام علينا أن نعود إلى أصول الفن من حيث اللغة والمنشأ باحثين هُناك عن الدواعي والأسباب ألتي أنشأت هذا الفن أو ذاك.
فمصطلح الفن في اللغة العربية إنما جاء من الفعل يتفنن والماضي تفنن أي تجاوز عن المألوف وتفرَّد بهِ ، فعندما يقوم الإنسان بعمل فني وبغض النظر عن طبيعة ذلك الفن ، فهو إنما يقوم بعمل ما ، يكون من الفرادة والتمييُّز بحيث يثير فظول الآخرين من حوله ، وهذهِ الإثارة قد تكون إعجاب أو نفور ، المهم هو أنّهُ هُناك إستحداث لحالة عن طريق فعل معين قد تكون خارج عن المألوف .
أمَّا عندما نبحث عن أصل الفن والفنون وعن مصدرها الرئيسي وذلك لكي نفهم سبب تفاعل البشر مع الفن بهذهِ الطريقة ولكي نستدل أيضا إلى مصدر الفنون عند البشر وبالتالي الإحاطة بالحدود والضوابط التي تتميَّز بهِا ، نجد أنفسنا إنما نبحث عن الظروف المحيطة بألإنسان الأول وبأصل البشرية والمتمثلة في محيط أول ذكر وأُنثى بشريين معروفين لدينا وهما كما نعلم آدم وحواء عليهما السلام .
ومن خلال دراسة ما نعرفهُ عن نفسية وشخصية آدم وحواء عليهما السلام نستطيع أن نفهم ذلك الموروث النفسي والروحي الذي أوجِداهُ في ذريتهم فتوارثتهُ من بعدهم الأجيال جيل من بعد جيل .
فأهمية هذا الموروث إنما تكمن في إيجابياته التي تُفسِّر توحِّد البشر في إندفاعهم نحو الفنون بشكل عام ، وهي كذلك تُفسِّر ذلك التفاعل الروحي الذي تولِدهُ هذهِ الفنون عند المُتلقي والمتمثلة في طريقة إستجابتهِ الروحية المتناقضة بين الضحك او البكاء ، السعادة أو الشقاء ، الإهتمام أو النفور ، التأييد أو الخوف ، أوغيرها من ردود الأفعال البشرية المتعارف عليها كالرقص أو الإنزواء وهكذا .
فردود الأفعال التي تولدها الفنون على إختلاف أنواعها أنما يسببها شعور واحد فقط وهو الحنين ، فحنين الإنسان إلى جمال الألوان يجعلهُ يهتم بفن الرسم ، وحنين الإنسان إلى سماع الألحان العذِبة يدفعهُ إلى فن الموسيقى ، وحنينهُ إلى الرقي والرفاهية يدفعهُ ألى فن العمارة والنحت ، وحنينهُ إلى المعاني الصادقة والكلام الجميل يدفعه إلى فن الأدب والشعر والنثر ، وكذلك حنينهُ إلى الجمال والسعادة يدفعهُ إلى فن الرقص والتمثيل وهكذا .
إذاً فجميع أنواع الفنون من تشكيلية كالرسم والعمارة والنحت وغيرها أو أدبية كالشعر والنثر والأدب وغيرها ، أو تصويرية كالرقص والتمثيل والموسيقى وغيرها ، إنما هي بمجملها ناتجة عن حنين الإنسان إلى الكمال النفسي والروحي ، وهذا الكمال هو حدود هذهِ الفنون القصوى ، وهو ما يُفسر الإستمرار في الإبداع الفني وفي تأييده ودعمهِ من البشر وبشتى الوسائل لعل الفن يصل بذلك الدعم إلى مرحلة الكمال المنشودة عند الإنسان .
وبالنسبة للكمال الفني المؤدي إلى الكمال الروحي والنفسي فهو ليس مستحيلاً أو ميؤوساً منهُ ، والإنسان في داخلهِ يعلم ذلك جيداً وهو ما يُفسر سعيهِ الدائم إلى متابعة الفنون .
فالكمال الروحي والنفسي بحد ذاتهِ قد عاشاه أبانا نوح وأمنا حواء عليهما السلام وتعاملا معهُ وإستمتعى بوجوده بشكل مُباشر ، وذلك من خلال وجودهما في الجنَّة والتي هي بالنسبة لهما تُمثل مرحلة الكمال النفسي والتكويني ، ففي الجنَّة تمَّ خلق الإنسان الأول وفيها كان كفايته وحاجته ، ولم ينقصهُ هُناك أي شيء على الإطلاق .
لذلك فالجنَّة بالنسبة للإنسان هي مرحلة الكمال الحقيقية ، وهذا ما يُفسِّر نجاح الأديان بشكل عام عندما تضمن للإنسان ذهابهُ إلى الجنَّة في حالة إلتزامه بالأحكام والشرائع التي تخُصَّها دوناً عن غيرها .
إذاً فوجود البشر في الجنَّة وهم في حالتهم النفسية والروحية الكاملة أي الفنية الكاملة ، ومن ثُمَّ تركها لسبب ما والعيش على الأرض بما فيها من نقص شديد لكل شيء مقارنة بالجنَّة ، إنما سبَّبَ لدى البشر الأوائل ذلك الحنين الهائل والرغبة الجامحة نحو العودة إلى الجنَّة وذلك من خلال كلامهم وتصرفاتهم وأفعالهم التي فسراها لأبنائهم وأحفادهم كنوع من أنواع الحنين والإشتياق إلى الجنَّة موطن الإنسان الأصلي ، ومن الطبيعي أن يتوارث الأبناء والأحفاد ذلك الحنين القوي وتلك الرغبة الجامحة جيل بعد جيل ، وإستمر ذلك إلى يومنا هذا وسوف يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إذاً فذلك الحنين القوي وتلك الرغبة الجامحة نحو الكمال هما التفسير المنطقي الوحيد لولع الإنسان بشكل عام بالفنون ، فتفنُن الإنسان ودعمهِ للفن إنما هو محاولة يائِسة مِنهُ لملأ ذلك الفراغ الروحي والنفسي الهائِل الذي أوجَدهُ الحنين والإشتياق للجنَّة .
إذاً من هُنا تستمد الفنون شرعيتها وحقيقتها في النفس البشرية ، وهذا يُفسر كذلك سبب إستمرار الفنون بل وجعلها وسيلة للرقي والعَظمة والخُلود عند المجتمعات البشرية .
مما تقدم شرحهُ تتضح لنا الصورة الكاملة لمعنى الفنون عند البشر ولحقيقتها كردود فعل طبيعية عند المجتمعات البشرية .
أما بخصوص أسباب الإختلاف الحاصل بين الفنون من مجتمع إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى ، وبالتالي إختلاف التفاعل معها والإختلاف في تقبلها من عند عموم الناس ، فهذهِ الأمور إنما تدخل ضمن ردود الأفعال الطبيعية من الناس بسبب الإختلافات البينية المتعلقة بالبيئة وبالمحيط والتي تتسبب بالتالي في تباين ردود الأفعال المختلفة في إستيعاب الفنون عند البشر أوفي تقبلهُم وتجاوبهم مع هذا العمل الفني أو ذاك ، فالمسببات والدواعي للفنون عند البشر واحدة كما أسلفنا ، أمَّا بخصوص الإختلاف فإنما يكون هُنا بالتطبيق لتلك الفنون فقط .
لذلك فإننا نجد بأنَّ جميع التفسيرات الحالية للفن وللأسبابه ودوافعه خاطئة وغير عقلانية ، فجميعها تربط الفن بالإبداع والجمال ، وهذان الوصفان إنما هما نسبيان ، فالإبداع والجمال عند مجتمع ما قد يكون فشل وإنحطاط وقبيح عند مجتمع آخر ، وهذا يبتعد بنا عن التفسير المعتاد الخاص بالفنون.
إذاً فعملية تقبل فنٍ ما عند هذا الإنسان أو ذاك إنما يرتبط بشكل رئيسي في مفهومة للجنَّة أو للسعادة الأبدية أو بمعنى أدق في مفهومهِ للكمال بشكل عام ، فإذا تمَّ توحيد الرؤى والمفاهيم لمعنى الكمال يتم حينها توحيد الإستجابة وردود الأفعال لهذا الفن أو ذاك .
إذاً فالفن ضروري وحيوي وأساسي في حياة الإنسان ، وكل إنسان يحتاج إلى الفن بغض النظر عن ثقافتهِ وطريقة فهمهِ للأمور ، فالفن في حياة الإنسان هو الطريقة الوحيدة لإطفاء نار الشوق والحنين إلى الكمال الروحي والنفسي .
ولا يخفى على أحد بأنَّ بمختلف صورهِ الفن فعَّال في علاج النفوس البشرية وكذلك في الترويح وإمتاع الناس وإبعادهم عن التفكير بمصاعب الحياة الأرضية وهمومها وأن كان ذلك بشكل مؤقت .
إذاً الفن هو الوصفة السحرية التي تنقل الإنسان أي إنسان من عالم مليء بالصعاب والهموم إلى عالم كامل متكامل من الجمال والروعة والسعادة والهناء.
دليلنا على ذلك يتمثل في نجاح وسائل الترفيه الحالية من مذياع وتلفاز بسلب المُتلقي من الناس جُل وقتهِ وإهتمامهِ لتصبح بذلك وكأنها حاجة أساسية في حياتهِ لا يمكن الإستغناء عنها بأي حال من الأحوال ، والسبب في ذلك يعود إلى وجود الشمولية في عرض الفنون والتي بدورها تنقل الإنسان إلى عالم آخر أي عالم الأحلام والخيال اللامحدود .
وهُنا تأتي أهمية فهم الفن على حقيقتهِ ، وذلك ليتم التعامل معهُ بصورة صحيحة وصحَّية متجنبين بذلك آثارهِ السلبية التي قد تكون مدمِّرة للذات البشرية في كثيرِ من الأحيان ، فكوننا نتعامل مع الفن من خلال إدراك ووعي لحقيقتهِ ودورهِ في الحياة كما أرادها الخالق سبحانهُ وتعالى لهُ وكما يجب أن نكون ، نكون قد حققنا الهدف الحقيقي والمنشود من الفنون جميعاً ، ولا ننسى قولهُ سبحانهُ وتعال في سورة النجم :
بسم الله الرحمن الرحيم : وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) صدق الله العظيم.
وفيها جاء التنويه بأنَّ نهاية كُل إنسان إنَّما هي إلى الله سواء شاء أم أبى ، لذلك فلا يجوز لنا أن نتلهَّا أو نبتعد عن عِبادتهِ سُبحانهُ وتعالى عندما نوجه الفنون البشرية إلى الطريق المُنحرف والبعيد عن حقيقتها ، فالخالق سُبحانهُ وتعالى أدرى بما يحتاجهُ العبد في حياتهِ الأرضية لذلك أوجد في الإنسان تلك المقدرة على ممارسة الفنون والتي من شأنها أن تُضحكهُ وتُبكيهِ فتواسيهِ وتُصبِره على مصاعب الحياة الأرضية ، لتكون نتيجة هذهِ الفنون هو إماتت الإنسان وهو لا زال حياً إذا أساء فهم الفنون أو أساء التعامل معها ، أو إحياءهِ ومنحهِ حياة طيبة هنيَّة إذا طبَّق تلك الفنون على حقيقتها وعلى الصورة التي إرتضاها الله للعبد.
وقد يختلف البعض في فهم وشرح التطبيق المثالي والحقيقي للفنون بشكل عام ، ولكن المهم هُنا هو في الفكرة النهائية التي يُحاول ذلك النوع من الفنون إعطائها للمتلقي ، وهُنا يكون الإبداع الحقيقي ، فإذا نجح هذا الفن في تقريب العبد إلى ربهِ والترفيهِ عنهُ وبالصورة التي تُحافظ على كيانهِ ووجوده في إطار العبودية لله ، كان ذلك الفن حقيقياً وفعَّالاً ومُجزياً ، والعكس بالعكس.
هدانا الله وإياكم إلى ما يحبهُ ويرضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.