في معرفة الدنيا والآخرة فنقول : دنياك وآخرتك عبارتان عن حالتين من احوال قلبك ، والقريب الداني منها يسمى دنيا وهي كل ما قبل الموت ، والمتراخي المتأخّر يسمى آخرة وهي ما بعد الموت ، فكل مالك فيه حظ ونصيب وغرض وشهوة ولذة في عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك إلا أن جميع ما لك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم .
وذلك لأن ما يصحبك في الدنيا ويبقى معك ثمرته بعد الموت وهو العلم النافع والعمل الصالح فهو من الآخرة في الحقيقة وانما يسمى بالدنيا باعتبار دنوه ، فان العالم قد يأنس بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده ، فيهجر النوم والمنكح والمطعم في لذته ، لانه أشهى عنده من جميعها ، فقد صار حظا عاجلا في الدنيا ، ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا منها أصلا ، بل قلنا إنه من الآخرة .
وكذلك العابد قد يأنس بعبادته ويستلذها بحيث لو منع عنها لكان ذلك أعظم العقوبات عليه حتى قال بعضهم : ما أخاف من الموت إلا من حيث إنه يحول بيني وبين قيام الليل بل نقول : كإن من جملة العمل الصالح الذي هو من الآخرة التعرض للرزق .
قال النبي (ص) : «العبادة سبعون جزء أفضلها طلب الحلال» وقال (ص) : «ملعون من ألقى كلّه على الناس» .
وقال أمير المؤمنين (ع) : «أوحى الله تعالى إلى داود أنك نعم العبد لولا أنك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا ، قال : فبكى داود أربعين صباحا فأوحى الله عز وجل إلى الحديد أن لن لعبدي داود ، فألان الله له الحديد ، وكان يعمل كل يوم درعا فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمأة وستين درعا فباعها بثلاثمأة وستين ألفا واستغنى عن بيت المال» .
وعن السجاد (ع) : «الدنيا دنياءان دنيا بلاغ ودينا ملعونة» وقال الباقر (ع) : «من طلب الرزق في الدنيا استعفافا عن الناس وسعيا على أهله وتعطفا على جاره لقى الله عز وجل ووجهه مثل القمر في ليلة البدر» .
وقال الصادق (ع) : «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله» وقال : «في رجل قال لأقعدن في بيتي ولاصلّين ولأصومنّ ولأعبدن ربي ، فأما رزقي فسيأتيني قال : هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة» .
وقال (ع) : «إن الله ليحب الاغتراب في طلب الرزق» وقال له رجل : «والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتيها ، فقال (ع) تحب ان تصنع بها ماذا ؟ قال أعوذ بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدّق بها واحج وأعتمر ، فقال : هذا ليس طلب الدنيا هذا طلب الآخرة» .
وقال (ع) : «ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه» وقال (ع) : «لا تكسلوا لطلب معاشكم فان آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها» .
«وعن علي بن أبي حمزة قال : رأيت أبا الحسن (ع) يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه في العرق ، فقلت جعلت فداك أين الرجال فقال : يا علي قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي ، فقلت : ومن هو ؟ فقال : رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) وآبائي (عليهم السلام) كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم ، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين» .