اعلم أن مثل المال مثل حيّة فيها سم وترياق ، ففوائدها ترياقها وغوائلها سمومها فمن عرف غوائلها وفوائدها أمكنه أن يتحرز من شرّها ويستدّر منها خيرها .
واما الفوائد فهي تنقسم إلى دنيوية ودينيّة ، أما الدنيوية فلا حاجة إلى ذكرها فان معرفتها مشتركة بين أصناف الخلق ، ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها ، وأما الدينية فهي ثلاثة أنواع :
الاول أن ينفقه على نفسه إما في عبادة او في استعانة على عبادة والثاني ما يصرف إلى الناس وهي أربعة أقسام : الصدقة ، والمروة ، ووقاية العرض ، واجرة الاستخدام أما الصدقة فلا يخفى ثوابها وانها لتطفي غضب الرب واما المروة فنعني بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية واعانة وما يجري مجراه ممّا يكتسب به العبد الاخوان والاصدقاء ويكتسب به صفة السخاء ، فانه لا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف ويسلك سبيل الفتوة والمروّة ، وهذا أيضا مما يعظم الثواب فيه فقد وردت أخبار كثيرة في الهداية والضيافات وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها .
وأما وقاية العرض فنعني بها بذل المال لدفع هجو الشعراء وثلب السفهاء وقطع ألسنتهم ودفع شرهم وهذا أيضا مع تنجز فائدته في العاجلة من الحظوظ الدينية قال رسول الله (ص) : «ما وقى المرء به عرضه فهو له صدقة»(1) .
وأما الاستخدام فهو ان الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئه أسبابه كثيرة ولو تولاه نفسه لضاعت أوقاته وتعدر عليه سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذين هما أعلى مقامات السالكين .
النوع الثالث ما لا يصرفه الانسان إلى إنسان معين ولكن يحصل به خير عام ، كبناء المساجد والقناطير والرباطات ودار المرضى ونصب الجباب في الطرق وغير ذلك من الأوقات المرصدة للخيرات المؤبدة الدارة بعد الموت المستجلبة بركة ادعية الصالحين إلى أوقات متمادية .
فهذه جملة فوائد المال في الدين سوى ما يتعلّق بالحظوظ العاجلة من الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر والوصول إلى العز والمجد بين الخلق وكثرة الاخوان والأعوان والأصدقاء والوقار والكرامة في القلوب .
وأما الآفات فدينيّة ودنيويّة أما الدينية فثلاثة أنواع :
الاول انه تجر إلى المعاصي ، فان الشهوات متقاضية والعجز قد يحول بين المرء وبين المعصية ومن العصمة أن لا تقدر ، ومهما كان الانسان آيسا عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته إليها فاذا استشعر القدرة عليه انبعثت الداعية ، والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور فان اقتحم ما اشتهاه هلك ، وإن صبر وقع في شدة ، إذ الصبر مع القدرة أشد وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء .
الثاني أن يجر إلى التنعم في المباحات وهذا أقل الدرجات فمتى يقدر صاحب المال على أن يتناول خبز الشعير ويلبس الثوب الخشن ويترك لذائذ الأطعمة كما كان يقدر عليه سليمان في ملكه ، فأحسن أحواله أن يتنعّم بالدنيا ويمرن عليه نفسه فيصير التنعم مألوفا عنده ومحبوبا لا يصبر عنه ويجرّه البعض منه إلى البعض ، وإذا اشتد انسه به وربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال فيقتحم الشبهات ويخوض في المرايات والمداهنة والكذب والنفاق وساير الأخلاق الردية لينتظم له أمر دنياه وتيسّر له تنعمه ، فان من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس ، ومن احتاج إلى الناس فلا بد أن ينافقهم ويعصي الله في طلب رضاهم فان سلم من الآفة الاولى وهي مباشرة المحظورات فلم يسلم عن هذه اصلا ، ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة ويبتني عليه الحسد والحقد والرياء والكبر والكذب والغيبة والنميمة وساير المعاصي التي تختص بالقلب واللسان ، ولا يخلو عن التعدي أيضا إلى ساير الجوارح ، وكل ذلك يلزمه من شؤم المال والحاجة إلى حفظه وإصلاحه .
الثالث وهو الذي لا ينفك عنه أحد وهو أنه يلهيه اصلاح ماله عن ذكر الله تعالى وكل ما يشغل عن الله فهو خسران .
ولذلك قال عيسى (ع) : «في المال ثلاث خصال : أن يأخذه من غير حله فقيل إن أخذه من حله ، قال : يضعه في غير حقه فقيل : إن وضعه في حقّه ، فقال : يشغله اصلاحه عن ذكر الله» .
وهذا هو الداء العضال ، فان أصل العبادات ومخها وسرّها ذكر الله تعالى والفكر في جلاله ، وذلك يستدعي قلبا فارغا ، وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكرا في خصومة الفلاح ومحاسبته وخيانته ، وخصومة الشركاء ومنازعتهم في الماء والحدود ، وخصومة أعوان السلطان في الخراج ، وخصومة الاجراء في التقصير في العمارة ، وصاحب التجارة يكون متفكرا في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل وتضييعه المال ، وكذلك صاحب المواشي وهكذا ساير أصناف الأموال .
وأبعدها عن كثرة الشغل النقد المكنوز تحت الأرض ، ولا يزال بالفكر متردّدا فيما يصرف إليه ، وفي كيفية حفظه وفي الخوف ممن يعثر عليه ، وفي دفع اطماع الناس عنه ، وأودية أفكار أهل الدنيا لا نهاية لها ، والذي معه قوت يومه أو سنته في سلامة عن جميع ذلك .
فهذه جملة الآفات الدينية سوى ما يقاسيه أرباب الأموال من الخوف والحزن والغم والهم والتعب في دفع الحساد وحفظ الأموال وكسبها ، فاذن ترياق المال أخذ القوت وصرف الباقي في «إلى خ» الخيرات ، وما عداها سموم