عبد الكناني
لعل الكثير ممن عاشوا وعاصروا الحقبة السبعينية يتذكرون ذلك النشاط الثقافي المتوهج الذي عكسته مجموعة من البرامج الاذاعية والتلفزيونية والفعاليات الثقافية والأدبية والعلمية والأنشطة المتواصلة للاتحادات والمنظمات والتجمعات الأدبية والفنية والمجتمعية والمنتديات والمجالس الرسمية والشعبية التي كانت افرازاً طبيعيا لأجواء تقاربية بين الاحزاب العراقية - وان كانت خدعة لاستدراج تلك الحركات والاحزاب لمنطقة القتل، ومع وجود تلك النيات الخبيثة المبيتة من قبل حزب البعث لحلفائه في الجبهة - غير ان المراقب وجد حراكا ثقافيا واسعاً تجسد في البرامج والفعاليات الثقافية، التي قدمت من خلال الاذاعة والتلفزيون والمنابر الاعلامية والثقافية الاخرى وفي نظرة على برامج تلك الحقبة نلمس رصانة واهمية تلك البرامج حيث وقفت وراء اعدادها وتقديمها نخبة من الاسماء الأدبية والثقافية والفنية والفكرية وكانت موقع اعتزاز ومتابعة من قبل الجمهور.
وكانت تلك البرامج نقاط استقطاب للجمهور بمختلف الوانه وعلامات عافية للجسد الثقافي العراقي.. ومنها برنامج (آفاق الفن) الذي كان يعده ويقدمه الفنان الرائد نوري الراوي حيث يتابع من خلاله أنشطة الحركة الفنية النشطة في العراق عبر المدارس والمذاهب والفنية والتجارب الطليعية لفناني ورسامي ونحاتي العراق الذين اصبحوا اسماء لامعة وبارزة في الحركة الفنية العربية وحتى العالمية.. وقد تعرف على انجازات الفنانين العراقيين واعمالهم النحتية وجدارياتهم والنصب والتماثيل التي صنعوها وزينت مواقع وساحات وشوارع مدينة بغداد وبعض مدن العراق ولوحاتهم المثيرة التي اعطت خلاصة طيبة لمجمل ابداعات الريشة والفرشاة العراقية منذ أيام الرائد عبد القادر الرسام وحافظ الدوري وحتى الاسماء اللاحقة الى جانب الازميل الذي لايجد افضل من نحاتي العراق تعاملا معه.
وقد حدثني الفنان نوري عن برنامجه هذا الذي انطلق في ستينيات القرن الماضي واستمر حتى منتصف السبعينيات، بأنه اصبح ذا جماهيرية واسعة وكبيرة واسهم في تفعيل الحركة الفنية من خلال متابعته للنشاط الفني في العراق وتغطيته للفعاليات والمعارض والاعمال الفنية اللافتة والمهمة التي كانت تقام في قاعات العرض الكبيرة مثل «قاعة كولبنكيان» المتحف الوطني للفن الحديث وقاعة «الرواق» لاحقا وقاعة «الرباط» وغيرها والتي اصبحت من مثابات الابداع العراقي المتميز والباهر في الفنون التشكيلية.
لقد حافظ ذلك البرنامج على هويته ومنهجه على مدى عقدين من الزمن وضيف فيه العشرات من الفنانين العراقيين وعكس الجانب الثقافي المتوهج في ذلك الوقت وكان مدرسة في الفن التشكيلي واعطى حيزا كبيرا للجانب النقدي عبر التقويمات للمعارض والابداعات والاتجاهات في الفن الحديث بتضييفه كبار الفنانين والنقاد. ونجح الراوي بتوثيق الصلات مع الفنانين بمختلف اتجاهاتهم.