محمد الأحمد
يطيب لي القول؛ اني بقيت مستمتعا أقبل بشغف على محتوى كتاب (التيه: عهد الشاعر) الصادر عن دار «ميزوبوتاميا» 2015 م، اذ غالبا ما تجعلك اللغة المتكاملة، متلقيا لتمام معانيها، بعد ان حافظ المؤلف باقتدار على جزالتها ومتانتها عبر خطابه المبدع..
منظومة من البوح الصوفي الخالص بمحبة الله، متواصلا عبر أسئلة الشعر الحقيقية.
أناشيدها هدرت وفق مدارج جديدة، عن الوجود تمنح أسرارها الخفية. أسئلة تصعب إجابتها جعلت النص لا يحيد عن معناه إلا بتأويل واحد يصل كالخط المستقيم الى غاياته النبيلة، المتكاملة التعبير، وبقي كاشفا عن معانيه العميقة..
فلكل «نص» وعي خارجي، يسحبنا لنعيش خلاله.. التجربة الحياتية للآخرين، ونتفاعل معه، بصور متعة قراءة ظروف المؤلف، وخصوصياته النفسية والاجتماعية والثقافية، فيجتذبنا الوضوح الى عمق النص (اختار السير في المتاهة ص8)، وحسب تأويل الألماني شلايرماخر: (أن يملك الفهم الشامل الدقيق لأنواع الألفاظ والصور اللغوية، والقدرة على النفاذ إلى الطبيعة البشرية أي الوعي الفني والنفسي بذهنية المؤلف الإبداعية والوصول لمقاصده من النص، وهذا الجانب يعتمد على ضرب من التنبؤ يقوم به المفسر، مع اطلاعه على ثقافة المؤلف، وثقافة عصره وظروفه الثقافية والاجتماعية).
مئة نص
تواصلت أسئلة الكتاب بـ (100) نص ممتد بين أسئلة كونية، شاملة لا تقتصر على مفهوم ديني قديم او حديث، أسئلة قائمة بحدّ ذاتها تحاول أن تحرك العقل لتكتمل فيه الصورة، وتتلون بعلوم معاصرة، أسئلة متوازية مع طروحات «منظار كوبرنيكوس» الكوني الذي رفضته الكنيسة، وحرضت عليه، حيث الـ (لغوي ماهر يعرف أسرار اللغة بإتقان، وهذا الأمر اكتسبه
بسبب عزلته، او بسبب نزوعه للعزلة.
فهو لم يخطر في ذهنه يوما ان كانت عزلته سببا او نتيجة، ولأنه ابتعد عن الحديث الشائع واللغة النفعية تحولت لغته الى أصوات مكتومة، وان نطق فليس لكلامه اتجاه، فحديثه دائما الى الخالق العظيم الذي تفرض محادثته على
الأعزل ان ينتقي مفرداته بدقة شديدة)..
أسئلة تفسير، فلا يعني إلا التفسير الداعي الى حل تلك الرموز وتوضيحها، ولا بد من إلغاء دور السؤال، كما يؤكد (رولان بارت) من البنيويين الفرنسيين في مقالته المعروفة (موت المؤلف) بأن النقد التقليدي والمنهج السائد في فهم النص لم يهتم بدور القارئ، وإنما وجه كل اهتمامه بالمؤلف ودوره في الأعمال الأدبية، ولكن لا بد من إلغاء دور المؤلف، وإعادة ولادة القارئ، ولا بد أن تكون
ولادة القارئ على حساب موت المؤلف.
بلاغة الرسالة
الكتاب اتخذ من النص/ السؤال/ الصياغة.. اتجاها كما قال الجاحظ: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها الأعجمي والعربي, والحضري والبدوي, والقروي والمدني وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء, وفي صحة الطبع وجودة السبك فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير»..
فلا تمنح نفسها أمام قارئ عابر لم يحتكم على لغة القراءة التي فيها نصّ يصل به الى غاياته الكبرى، فغالبا ما تعني كلمة ثقافة بالمعرفة المتكاملة في اللغة، فكل نص يحمل رسالة تكتب بلغة ما، لن تصل متكاملة ما لم يكن مرسلها العارف بموسيقاها وغايتها الدفينة لتصل بليغة متكاملة ببلاغتها وحسن سبكها.
مضامين الكتاب أسئلة عن النص المعجزة، الذي لا يسمح لنا أن نستبدل مفرداته، بمفردات أكثر دقة منها، لأن مؤلفه العارف المطلق بدقائق اللغة التي يكتب بها.
حيث النصّ المعجزة فقيهاً لا يقبل إلا بتأويل واحد، لا يقبل إلا المعنى إلا باتجاه واحد، ولا يحيد عن خطه المستقيم.
يتجلى المعنى واحدا، لا يختلف عليه اثنان.. بمعنى أن كل نص يختلف عليه اثنان لن يكون من معجزات الربّ.
فافتراض كل نصّ نبيل الغاية يجمع ولا يفرق، يقدم بلسان صادق أمين، فعله، واضح، ودقيق. فالإعجاز سماه «الجرجاني»، وذهب اليه - ان لا تبدل الكلمة بالكلمة، ويبقى المعنى واحد. بل سيكون نصّا بمعنى آخر غير الأول، للكلمة موضع لبنة البنيان المرصوص.
جمر الاسئلة
وجدت الكتاب جميلا، بديعا، ساحرا؛ «قال: هل اشركت بي، قلت: أجل. حينما سمعت أصوات الضحايا ارتفعت تستغيث بك ولم تجد من لدنك إصغاء - ص 96».. جمرات من أسئلة نحو (عالم مطلق بمفرداته، عالم بخلقهِ، عالم بهويته).. سبق أن سماه «نيتشه»، في سياق دعائه ان كلمة الرب واحدة لا تذهب إلا في طريق واحد.. لان البشر غير متساوين في اكتساب المعرفة، وليسوا في موقع واحد، كل بثقافته، وبيئته، وتكامل هويته.. «في الموسيقى الحقيقةُ المطلقة... وانا الحقيقة المطلقة – ص108». هنا؛ النص واحد لا يقبل الا واحد الملفوظ، لا يختلف عليه جميع القراء حتى وان طورت اللغة شكل كتابة حرفها، أو غير الرواة أشكال لحاهم، وفق آراء الحاكمين.. آثرت أن أقول بأن الكتاب كان ممتعاً وجريئا الى أبعد حدّ، يستحق ان نسجل لصالحه وقفة بكل احترام.