في عالم تسوده الكراهية، العداء المتبادل والنفور… بِتنا في حاجة مُلحة لتذكير أنفسنا من وقت لآخر بكنز من كنوز البشرية وأدبيات إنسانية في طريقها للاندثار… إنها أخلاقيات العفو والتسامح!
كم ننظر لهذه الأسرار العظيمة بكثير من السلبية والضعف ونعامل بازدراء وانتقاص من يتخذها مبدءاً من مبادئه وركيزة في تعاملاته اليومية! أهو فهمنا الخاطئ لها؟ أم أن طغيان العالم المادي على جميع مجالات حياتنا أعمى بصائرنا ولم نعد نعطي أية أولوية للقيم المعنوية؟ أم أنها مزيج من هذا وذاك… حتى اختلطت علينا أمورنا وتبعثرت إنسانيتنا في عوالم موحشة وحالكة الظلمة تفتقر لأبسط أسس العدالة والتوازن.


تساؤلات شائكة في الموضوع
نتحدث عن سلام عالمي وكوكب يسوده التعاطف ومحبة كونية متبادلة، ونتمنى لو تخلو برامج السياسيين وحملاتهم من خطابات العنصرية والتحيز، نعيش على حلم أن نرى التسامح من أهم المعايير لسن القوانين والتشريعات وشرطاً أساسيًا في بنودها، نتعطش لمجتمعات تقل فيها مستويات الجريمة والعنف المنزلي، ولكن نحن من نتمنى ونفترض الفرضيات، هل نسامح أحبائنا بسهولة، هل نغفر زلات بعضنا، هل نُوجد في قلوبنا متسعاً لاختلاق ولو القليل من الأعذار لتبرير أخطاء من نظن أنهم أساؤوا لنا؟ هل نركز على الجانب الإيجابي مهما بدا هزيلاً في شخصيات المحيطين بنا أم نتصيد نقائصهم باستمرار ولا نكف عن إطلاق الأحكام القاسية؟
الأجوبة صعبة بالتأكيد، لأن هناك لائحة طويلة من التحججات والأعذار التي نقتنع بها وربما نُحاول إقناع آخرين بها أيضاً، من ظروف غير مواتية وتكرار الإساءة واللوم إلى تبني كامل لعقلية الضحية… تعددت هذه الحجج التي تمنعنا من التحرر من سم الحقد والرغبة الجامحة في الانتقام والانتصار للأنا التي بداخلنا.



شفاء جسدي ونفسي… تأثيرات مذهلة لممارسة التسامح!
غالباً ما يقع مفهوم الغفران والمسامحة تحت مظلة الفكر الديني بشكل عام ويغيب بشكل عملي كبير في علاقاتنا ومداخلاتنا اليومية، وهذا غريب لأن يكون لدى الإنسان قدرة على العفو هو فطرة فيه وجزء لا يتجزأ من إنسانيته بغض النظر عن انتماءه الديني أو المذهبي، بل هو حاجة ماسة ولا سبيل للاستغناء عنها لمن ينشدون تحقيق سلام نفسي، صحة جيدة، حياة أسعد وعمراً أطول!
وهو ما بدأ علماء وباحثو اجتماع يعترفون به من خلال دراساتهم واستبياناتهم، حيث أفضى أغلبها إلى نتائج مبهرة حول الصلة الوثيقة والمباشرة بين ممارسة المسامحة والشفاء العاطفي Emotional Healing الذي هو أساس لبناء مجتمعات مسالمة.
ولهذه الأخلاقيات الإنسانية أيضا تأثير شبه سحري على حياة الفرد ككل لما لها من فوائد علاجية جَمّة تصل إلى حد التقليل من خطورة الإصابة بأمراض القلب، وإطالة الحياة لمرضى السرطان، وخفض مستويات الجريمة لارتباطها غالبا بالرغبة في الانتقام، خاصة لمن تعرضوا لاضطرابات ما بعد الصدمة مثل ضحايا الحروب، الاغتصاب والتحرش، ويدخل في هذه الخانة أيضا ضحايا الإساءة العاطفية والعنف المنزلي، وكل من تعرض لتجارب وصعوبات جد قاسية في حياته تجعله سجين الخوف، الغضب والغل والضعف.



دراسات علمية اجتماعية تُوثق أسرار وعظمة التسامح !
الدكتور ايفرت رثينجتون ـ Dr. Everett Worthington وبروفيسور علم النفس من جامعة فرجينيا كومنولث من الأوائل إلى جانب مجموعة من زملائه الباحثين الذين قاموا بإجراء دراسة أكاديمية وكلينيكية معمقة حول المسامحة وبنيات أخرى مرتبطة بها كالعدل، التواضع، الرحمة والتعاطف، وتكلل مشروعهم بالنجاح بعد أن تلته عشرات الدراسات الأخرى التي تؤكد فعالية ومصداقية النتائج التي توصلوا لها، والتي أوضحت جيدا أن حمل الأحقاد والضغينة لمدة زمنية طويلة والاستياء المزمن من الظروف والأشخاص والأحداث يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم ورفع مستويات الكورتيزول وهرمون الادرينالين وهو ما يُسهم مباشرة في تعطيل قيام الجسم بعمله بشكل صحيح فتزداد الالتهابات في مناطق مختلفة منه وتنخفض مناعته ضد الأمراض !
بالنسبة لرثينجتون، من أهم التحديات والعراقيل التي تقف في وجه من يرغبون تبني فكرة المسامحة والمضي قدماً في حياتهم هي أن مسامحتهم أخطاء الآخرين هو غالبا شيء لا يخدم مصلحتهم أبدا ويعني التنازل ولن يمنحهم أي إحساس بتحقيق العدالة واسترجاع حقوقهم، فمهما اعترفنا بضرورة وجود التسامح في حياتنا وهللنا له وقمنا بتسديد النصيحة لآخرين لتطبيقه أو قرأنا عنه في شتى الصحف والمجلات أو جعلناه شعارا نتغنى به من الوقت للآخر وقد يحضر بعضنا كورسات خاصة عن منافعه أو يخضع لعلاج نفسي مكثف، فسيبقى تطبيقه المتكامل صعبا خاصة إذا كان الأمر يعني أطرافا نُعاني الأمرين لنجد طريقة للتعايش معهم وغالبا ما يكونون أفرادا داخل الأسرة الواحدة أو العلاقة الزوجية.
وفيما يخص هذا يقول الدكتور ايفرت أنه يجب معرفة أن التسامح لا يعني بالضرورة المصالحة مع المسيء وليس أيضا الطريقة الوحيدة للتعامل مع الظلم الذي قد نتعرض له، هناك طرق عدة بالتأكيد، هذا ما يجعل العفو عن أخطاء الآخرين مقدرة حقيقية واختيار قوي وأحسن هدية يمكن أن يقدمها الفرد لذاته. موقع الدكتور ايفرت رثينجتون على الإنترنت يحتوي المزيد من المعلومات المذهلة عن أبحاثه ودراساته.

مؤلفات عالمية وأقوال شهيرة في العفو
المسامحة، العفو والغفران هو موضوع واهتمام ذو طابع عالمي، بحث فيه العديد من الدارسين وكتب فيه الكثير من الكتاب والمؤلفين، فنجد أن له مكانة لا يستهان بها في الأدب العالمي وكذلك كتب الإلهام والمساعدة الذاتية، ممن كتبوا في الموضوع أذكر الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتيرـ Voltaire، الكاتبة الأمريكية لويز هي ـ Louise Hay، الكاتب الأمريكي الأفغاني الأصل؛ خالد حسيني في روايته الرائعة « TheKite Runner »، الكاتب، المفكر والمحاضر العالمي ديباك شوبرا ـ Deepak Chopra وعالم النفس والخبير في التسامح فريدريك وسكين ـ Frederic Luskin في كتاب «Forgive for Good» وكثيرين غيرهم.



ويُخبرنا رائد التنمية البشرية في العالم العربي الدكتور إبراهيم الفقي في كتابه» قوة الحب والتسامح «بأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده لذلك كان عليه أن يغفر ويسامح غيره ممن أساءوا إليه… انتبه لما ترسله لأنه سيعود إليك مرة أخرى وبقوة فإذا أرسلت حبًا سيعود إليك حبًا وإذا أرسلت غضبًا سيعود إليك غضبًا…
و يقول غاندي، ملك التسامح والعفو: «لا أحب كلمة التسامح ولكن لا أجد كلمة أفضل منها».
أما بالنسبة للدكتور وأستاذ الفلسفة وين داير ـ Wayne Dyer الملقب بالأب الروحي للخطاب التحفيزي، فالمسامحة هي أقوى ما يمكن للإنسان أن يقدمه لنفسه، فإذا لم نتعلم كيف نسامح فلننسى إذن أننا قادرين على تحقيق أي نجاح حقيقي في الحياة، تحدث وين دائما في محاضراته حول العالم قبل وفاته العام الماضي عن قصته مع والده الذي غادر المنزل تاركا زوجته لتتحمل مسؤولية أطفالهم الثلاث حيث اضطرت لإيداعهم منازل رعاية مختلفة على فترات زمنية متقاربة حيث عانى وين الصغير الكثير مع إخوانه جراء ذلك مما كان له تأثيرا سلبياً على مجرى حياته.
فقد عانى في سنوات عقده الثاني من مشاكل مع البدانة وإدمان الكحول، ولم يتمكن من مساعدة نفسه والبدء في رحلة نجاحاته كمؤلف ومحاضر عالمي إلا بعد أن وقف على قبر والده وقرر أن يسامحه من كل قلبه ويلتمس له الأعذار، فقد كانت تلك هي اللحظة الحاسمة في مسيرة حياته حين رفض أن يستمر في تقمص دور الضحية وتحمل مسؤولية نفسه.

المراحل الأساسية في رحلة التحقيق المتكامل للغفران



وجود المغفرة في العلاقات الإنسانية لا
يتعارض مع أو ينفي الظلم ولا الإساءة، وهي ليست اعترافا بالضعف أبدا، كما أن تحقيقها ليس أمرا سهلا أو قرارا يُتخذ بين ليلة وضحاها، هي بالتأكيد عملية سوف تتخذ حيزا من الزمن، قوة وشجاعة وثمارها تتمظهر تدريجيا على المدى الطويل، فأغلب من يظنون أنهم تمكنوا من مسامحة الآخر غالباً ما يكبحون غيضهم متناسين ذكرياتهم المؤلمة فيستمر ذلك في مطاردتهم على مستوى اللاوعي، وغالبا ما يتم إقحام طرف ثالت في الصراع.
فلا يمكن بدء هذه الرحلة مع ذواتنا دون الحاجة لأن نُدرك مصدر مشاعر الألم والحزن والغضب في صدورنا المصاحب أحيانا لإحساس عميق بالذنب، حيث ينصح الخبراء هنا بتفحص دقيق لأحاسيس الحنق الدائم تلك بشكل شخصي أو مساعدة معالج نفسي متخصص، ثم تحديد السلوك المؤذي، التعرف عليه وتقبل مشاعر الغضب التي سببها، حينها سيصبح البحث عن طريقة خلاقة للتنفيس عن هذه الأحاسيس السلبية من الضروريات التي ستسرع من عملية الوعي بأهمية العفو ودوره في تحرير الإنسان.
يقول الأخصائيون أن المحافظة على نسبة من الحدود المعنوية في التعامل مع الشخص المسيء ضرورية للوصول لشفاء عاطفي متكامل قبل البدء بمحاولة التماس الأعذار له والتعاطف معه ومسامحته بشكل كلي. وفي الأخير يجب أن نتذكر أن القدرة على العفو هي تجربة داخلية وليس سلوك فِعلي، يمثل الشجاعة والقوة على مواجهة أعمق المشاعر السلبية وامتصاصها بطريقة صحية.



بدءاً من التسامح الثقافي والديني، يبدو أن هذه الأخلاقيات ذات القيمة المعنوية الثمينة لابد منها في أبسط تفاصيل حياتنا، فكلما سعينا لسلام أكثر، راحة بال، امتنان واحترام الآخرين علينا تعلم دروس أخرى أيضا كأن نتجنب إطلاق الأحكام بطريقة مجحفة، أن نتحمل المسؤولية الكاملة لأخطائنا ونسامح ونغفر كي يُغفر لنا أيضا، معادلة كونية بسيطة جداً.

المصادر
1، 2، 3