“اتَذكُر القصص التي كنت ارويها لك عندما كنت طفلاً عن أمير فارس، أرسله أبوه ملك الشرق غرباً للبحث عن لؤلؤة، لكن عندما وصل الأمير سقاه الناس شراباً سلبه ذاكرته، فنسي أنه ابن الملك ونسي أمر اللؤلؤة، وغط في نوم عميق”.
بمجرد سماع أول الكلمات في الفيلم، يستطيع أن يسيطر عليك، أن يستحوذ على تفكيرك، وأن ينال اهتمامك، فالقصة البسيطة التي قرأتها للتو هي ببساطة قصة الفيلم، وببساطة قصة حياة مدمرة فقدت الرغبة بأي شيء.
فيلم Knight of Cups سريالي وخيالي يغوص في أعماقك للبحث عن معنى، وهو عبارة عن حلم داخل حلم حالة تشبه فيلم Inception لكن بأبعاد فلسفية أكبر، فالفيلم حقاً لا يملك أحداثاً، ولا يملك فكرة واضحة، بل يملك حالة غريبة شعر بها الكاتب وهو يعرف أن الكثيروم مثله شعروا بها عن انفصالهم عن الواقع وتخبطات نفسية خطيرة أخرى، أو كما وصفها في الفيلم “كل هذه الفترة أعيش حياة شخص لا أعرفه”.
ريك، وهو الشخصية الرئيسية للفيلم، تجسيد واضح لشخصية الكاتب تيرينس ماليك كاتب سيناريو لأفلام كوميدية (رغم خلو أفلام ماليك منها) يعيش حالة ضياع، فقدَ أحد أخوته الذي قام بشنق نفسه، يحاول إعادة التواصل مع طليقته، ويعثر على فتاة أحلامه.



الأحداث بسيطة والقصة ناقصة لأن الفيلم يحمل أبعاداً أكبر بكثير من مجرد زير نساء يحاول العثور على فتاة أحلامه، فالفيلم يعتمد على ناحيتين مميزتين جداً.. الحوار والإخراج.
يمكن فصل الفيلم إلى شقين رائعين، الشق الأول هو حديث الراوي (أو الرواة) فنسمع عدة ممثلين يلقون بعبارات مختلفة غير متصلة ببعضها عن المشاكل التي يواجهها الإنسان في حياته، وعن حياة ريك وما العقبات التي واجهته، وهي عبارات ساحرة تمسّ المشاهد وتؤثر به رغم عدم حملها فكرة واضحة.
الشق الثاني هو المَشاهد التي نراها، إخراج تيرينس ماليك مذهل، فنرى مشاهد غير متصلة أيضاً إلى حد كبير، يمكننا فهم قصة ريك فيها، ورؤية مراحل مهمة من حياته، مشهد الهزة الأرضية الذي افتتح الفيلم فيه يعبر عن الهزة التي مرت بها حياة ريك، وباقي المشاهد تحمل معاني أكثر مما يظهرها مثل هذا المشهد.
لكن المُشاهد يرى الشقين مجتمعين بشكل رائع ومعقد، ولا تكتمل القصة حتى النهاية وعندها تستطيع أن تفهم (بعض الشيء) فكرة الكاتب.



تيرينس ماليك مخرج وكاتب فيلم Knight of Cups يعتبر من أفضل أغرب المخرجين في العالم، دائماً يُقدّم أنماطاً غريبة من الأفلام، وهنا استخدم نفس النمط الذي استخدمه في تحفته السينمائية The Thin Red Line الذي تحدث فيها عن الحرب العالمية الثانية والحالة النفسية للجنود أثناء الحرب، وفي هذا الفيلم يتحدث عن معركة من نوع آخر، معركة الإنسان مع نفسه، ومعركة الإنسان مع الحياة.
الإخراج في الفيلم ممتاز عرض القصة والفكرة تم بأفضل شكل، المَشاهد كما ذكرت بديعة، فسواء تم تصوير صحراء أو نادي تعري، مسبح أو بحر، لن ترَ في هذا الفيلم سوى الجمال.
لا يحمل الفيلم حواراً، نسمع أحداث الفيلم عبر الرواة، والكتابة ممتازة لهذه الجمل، والغريب في الأمر أن أغلب جمل الفيلم مرتجلة، فماليك كان يعطي الفكرة الأساسية للمشهد للممثلين، والممثلون هم من قاموا بارتجال الحديث.
فارس الكؤوس هي ورقة من ورق الألعاب “التاروت”، ويعود تاريخها لمماليك مصر وتطورت باوروبا واسبانيا قديماً، وبدأ استعمالها فيما بعد في العرافة، ومن هنا تأتي الأبعاد التاريخية والفلسفية للفيلم، ورقة فارس الكؤوس تُعبّر عن شخص مغامر فنان رومانسي ملول بحاجة دائمة للتحفيز ولكن حالم يمكن إحباطه بسهولة، وهي بالضبط ما نراه بشخصية ريك.



وإذا قلبت الورقة يخلتف معناها فتُعبّر عن شخص لا يمكن الاعتماد عليه طائش محتال مليء بالوعود الخاوية والكذب، وشخص لا يعرف متى تنتهي الحقيقة وتبدأ الكذبة، وهي أيضاً تُعبّر عن الجانب المظلم من شخصية ريك، من وجهة نظر الأشخاص الذين آذاهم مثل زوجته السابقة.
كل فصل مسمى باسم ورقة من أوراق التاروت (ما عدا الفصل الأخير) وتُعبّر عن شخصية ثانوية في الفصل إلى جانب ريك، وظهر في الفيلم عدد كبير من الممثلين المهمين أحياناً بأدوار صغيرة وأحياناً بمجرد لقطة عابرة، مثلما رأينا في فيلمThe Thin Red Line.
كان أنتونيو بانديرس صاحب الوقت الأكبر من الأدوار الصغيرة ومشاركته كان لها فائدة، أما ممثلين مثل جو مانغنيلو ونيك أوفرمان وجاسون كلارك وجول كينمان فلا يوجد أي سبب لمشاركتهم في أدوار تكاد لا تكون موجودة، إلا أنهم أحبوا المشاركة في فيلم لماليك حتى لو بدور صغير، أو أنه تم حذف مشاهدهم في الفيلم عند تعديله.
ظهر كريستيان بيل تقريباً بكل المشاهد في الفيلم، وحقيقةً في دور يعتمد فقط على تعابير الوجه والارتجال لا يوجد خيار أفضل من بيل، الممثل الذي لم يختر في السنوات الأخيرة إلا أعمالاً ناجحة (ما عدا فيلم بعض العثرات)، قرر التعاون مع تيرنس ماليك في فيلم Knight Of Cups وعمل آخر لم يتم الإفصاح عن اسمه.



قد لا ينال بيل ترشيح أوسكار على دوره في الفيلم، لكن بالتأكيد تعاونه الناجح مع ماليك سيبقى محفوراً بقائمة أفضل أعماله، ظهرت كيت بلانشيت في أحد الفصول بدور طليقة ريك، دور أعطته بلانشيت حقه وفي المشاهد القليلة التي ظهرت بها أضافت ما لا يمكن لأي ممثلة أخرى إضافته في وقت قليل كهذا، نتالي بورتمان أخيراً في فيلم جيّد منذ فوزها بالأوسكار، وقررت المشاركة بالفيلم كي تستفيد من ماليك وأخذ النصائح منه من أجل انطلاق مسيرتها كمخرجة.
مصوّر الفيلم هو العبقري ايمانويل لوبزكي، الذي فاز آخر أوسكارين لأفضل مصور سينمائي وترشح هذا العام، ومن المتوقع ترشحه العام القادم أيضاً عن Knight Of Cups التعاون الرابع بينه وبين ماليك، والمشاهد الرائعة لم تكن لتكتمل مع مصور آخر، والمهمة كانت صعبة جداً لوجود لقطات لا منطقية وغير متوقعة في الفيلم.
يُعتبر الفيلم الجزء الثالث لثلاثية غير صريحة لتيرينس ماليك عن الأفلام التي تتحدث عنه شخصياً، الفيلمين السابقين هما The Tree Of Life و To The Wonder رغم أنك لست بحاجة لمشاهدتهم كي تستمتع بفيلم Knight Of Cups.
هذا العام سيكون هنالك فيلم آخر لتيرينس ماليك لم يتم تسميته بعد، وسيشارك فيه ثلاثي الفيلم كريستيان بيل وكيت بلانشيت ونتالي بورتمان، بالإضافة لفريق ممثلين رائع مؤلف من ريان غوسلينغ و مايكل فاسبندر و روني مارا و بينيشيو ديل تورو وهولي هنتر، وجميع من تم ذكرهم هم إما مرشحين أو فائزين بجوائز أوسكار، والمصور ايمانويل لوبزكي سيسجل تعاونه الخامس مع ماليك.
عُرِض فيلم Knight of Cups أول مرة في مهرجان برلين السينمائي عام 2015، وسيتم إصداره رسمياً في السينما في الرابع من مارس من هذا العام، وكنصيحة لا تذهب لمشاهدة الفيلم إذا كنت لا تحب نمط الأفلام الغريبة والمختلفة، فإذا كنت تبحث عن فيلم يحوي حبكة وقصة واضحة فهذا الفيلم غير مناسب لك، وهنالك جمهور سينما معين يحب هذا النمط من الأفلام وينتظره بفارغ الصبر، ولن يخرج من صالة السينما خائب الأمل.

تريلر فيلم KNIGHT OF CUPS



المصدر
www.arageek.com