أفضلية الأنسان
لا شكّ أنّ القرآن اهتم بالإنسان اهتماماً خاصاً وأولاه عناية تامّة بحيث سلط الأضواء على جميع أبعاد حياته، فما هي ياترى منزلة ومقام الإنسان وفقاً للنظرية القرآنية؟
لقد أذهل التطوّر التكنولوجي الغربي عقول الكثير من الناس الذين يتأثرون بالعوامل الظاهرية، إلى درجة أصبح الجيل المعاصر ينظر إلى السلف الصالح نظرة ازدراء وسخرية، أو على أقل تقدير نظرة عطف و ترحّم باعتبارهم خرجوا من هذه الدنيا ولم يتنعّموا بنعيم التطوّر التكنولوجي حيث إنّهم أصمّوا آذانهم وأغمضوا عيونهم وتوجّهوا بكلّ وجودهم إلى ماوراء المادة الذي لم يزدهم شيئاً!!!
إنّ عملية التطوّر الآلي خلقت تحوّلاً عظيماً في عمليتي «التوليد» و «الاستهلاك» وسهّلت عملية «اكتناز الذهب والفضّة» و «تكديس الثروات الطائلة»، و بالنتيجة حرّكت الميول والغرائز الداخلية للإنسان بحيث طغى حس وغريزة الطمع والحرص على جميع الغرائز الأُخرى بشكل واضح.
إنّ الالتفات والاهتمام بغريزة وميل خاص على حساب الغرائز والميول الأُخرى وجّه ضربة قاصمة إلى الكثير من الحدود الأخلاقية بحيث أخضع شرف الإنسان وكرامته وعزّته إلى هيمنة المادة والثروة وانّ كلّ شيء يقع تحت غطاء المادة وخيمتها، ولكن القرآن الكريم على العكس من ذلك يرى أنّ كرامة الإنسان وشرفه وعزّته تكمن في الأُمور التالية:
1. أفضلية الإنسان على جميع الموجودات
إنّ الاتجاه الفكري الذي يمكن أن يحفظ للإنسان أصالته وقيمته هو المذهب الذي يرى الإنسان موجوداً مركّباً من البدن والروح، والمادة والمعنى، والفناء والبقاء، بل يرى أنّ جميع العالم مركّب من عالمي «الملك» و «الملكوت»، وإنّ على الإنسان أن لا ينخدع بظواهر الأشياء، ويتيقّن انّ كلّ ما هو موجود في هذا العالم له صورة باطنية تختلف عن صورته الظاهرية.
إنّ هكذا مذهب واتّجاه فكري يستطيع القول وبصوت محكم عن الإنسان:
( وَلَقَدْكَرَّمْنا بَني آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثير مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضيلاً ) .( [1])
2. إنّ الإنسان خليفة اللّه في أرضه
( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَليفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) .( [2]) إنّ المراد من خلافة اللّه في الأرض هو أن يرسم الإنسان بوجوده وجود اللّه سبحانه، وبصفاته وكمالاته كمالات اللّه وصفاته سبحانه، وبفعله وعمله يرسم ويصور أفعال اللّه سبحانه، ويكون حينئذ مرآة للحقّ تعالى.
3. الإنسان مسجود الملائكة
إنّ من الكرامات والمنح الإلهية التي أولاها اللّه سبحانه للإنسان هو أنّه تقدّست أسماؤه قد أمر ملائكته بالسجود لآدم تكريماً وتعظيماً له حيث قال عزّ من قائل:
( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ ابْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الكافِرينَ ) .( [3])
إنّ هذا الأمر الإلهي والتعظيم والتكريم لم يكن أمراً اعتباطياً ومن دون أيّ ملاك، إذ لو لم يكن آدم هو زهرة الخلق وانّه المخلوق العزيز والمختار لما وقع مورداً لهذا التعظيم والتبجيل من قبل الملائكة، بل انّ الشيء الذي أوصل آدم إلى هذا المقام السامي بحيث جعله مسجوداً للملائكة هو علمه ومعرفته بأسرار ورموز عالم الخلق، الذي عجزت الملائكة عن تحمّله والقيام به، وبسبب هذه المعرفة وهذا العلم نصّبه اللّه سبحانه وتعالى خليفة له في الأرض بحيث استطاع من خلال علمه ومعرفته أن يكون مظهر صفاته وعلمه وقدرته سبحانه.
فأيّ درّة خالصة وجوهرة ثمينة كان يمثّلها آدم(عليه السلام) بحيث لم تتردد الملائكة لحظة واحدة في السجود له بأمر اللّه ووضع جباهها على الأرض تعظيماً وتكريماً لذلك المخلوق الذي هو خليفة اللّه في أرضه.
4. تسخير العالم له
لقد سخّر اللّه سبحانه وتعالى للإنسان جميع الموجودات السماوية والأرضية، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة:
( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّمواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً... ) .( [4])
وفي آية أُخرى:
( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّمواتِ وَما فِي الأَرْضِ جَميعاً مِنْهُ... ) .( [5])
ولقد أخبر سبحانه وفي آيات كثيرة انّه قد سخّر للإنسان الشمس والقمر، والليل والنهار، وعيون الماء والبحار و... كما أشار القرآن أيضاً إلى أنّ هذا التسخير إنّما هو لعظم وأهمية منزلة الإنسان من بين جميع المخلوقات بحيث سخّرت له أعظم المخلوقات وأكبرها بنحو يستطيع الاستفادة منها ويتمكّن من استغلالها في حياته، فقال سبحانه:
( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) .( [6])
ولكن هناك نكتة جديرة بالاهتمام لكي لا يقع الإنسان في الوهم، وهي أنّ المسخّر الحقيقي لهذه الأشياء هو اللّه سبحانه وليس الإنسان هو الذي يسخّر كلّ هذه الموجودات بقدرته وإرادته وإنّما هو يستطيع استغلال ذلك التسخير والاستفادة منه بالنحو الذي مكّنه اللّه تعالى وأقدره عليه.
هذه سلسلة من الملاكات والصفات التي تجعل من الإنسان أفضل المخلوقات، ونحن لم نستعرض جميع تلك الملاكات والامتيازات، بل هناك الكثير منها لم نذكرها روماً للاختصار.( [7])