الشيعة الإمامية الإثنا عشرية /الفصل الأول
أمّا بعد :
فهذا مقال موجز عن الشيعة الإمامية يبيّـن نشأتهم وعقائدهم ومنهجهم الفقهي والتراث العلمي الذي تركوه، إلى غير ذلك ممّا يمتّ لهم بصلة.
إنّ المذهب الشيعي الإمامي يقوم على دعامتين:
1ـ الا ُصول التي يتبنّاها في مجال العقيدة.
2ـ الشريعة التي يقرّرها دستوراً لجوانب الحياة كافة. وليس المذهب الشيعي مذهباً فقهياً بحتاً كالمذاهب الأربعة، وإنّما هو منهج متكامل يغذِّي الإنسانَ فكراً وعملاً، وعلى ضوء ذلك فلا محيص عن دراسة المذهب من جانبين: أحدهما يتعلّق بالا ُصول، والآخر بالفروع.
وإليك الكلام في الجانب الأوّل.
تمهيد:
الشيعة لغةً واصطلاحـاً وتاريخـاً
الشيعة لغة هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايعَ القومُ: إذا تعاونوا، وربّما يُطلق على مطلق التابع، قال تعالى: ( وإنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْراهيمَ * إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم ) ( [1]).
وأمّا اصطلاحاً فتطلق على من يشايع علياً والأئمة من بعده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، نصبهم لهذا المقام بأمر من اللّه سبحانه.
فالتشيّع عبارة عن استمرار قيادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته، بمن نصَبه للناس إماماً وقائداً للا ُمّة.
وأمّا تاريخاً فالشيعة هم ثلّة من المسلمين الأوائل الذين عاصروا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وآزروه وعاضدوه في مواقف عصيبة، فلمّـا مضى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى انطووا تحت قيادة عليّ (عليه السلام) وأولاده باعتباره الممثل الشرعي للخلافة والمنصوص عليه من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) . فليس التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام، ولا أَنّ الشيعة وليدة الأحداث التي رافقت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وليس للتشيع تاريخ وراء تاريخ الإسلام، ولا للشيعة أُصول سوى أنّهم رهط من المسلمين الأوائل في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن جاء بعدهم عبر القرون، كل ذلك يعلم من خلال التحليلات التي ستمرّ عليك.
تسمية التشيّع:
إنّ الآثار المروية على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تكشف اللثام عن وجه الحقيقة وتعرب عن التفاف ثلة من المهاجرين والأنصار حول الإمام عليّ في حياة الرسول وكانوا معروفين بشيعة علي، وانّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سمّـاهم الشيعة ووصفهم بأنّهم الفائزون، وإليك بعض ما روي مقتصراً بالقليل من الكثير:
1ـ أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه، قال: كنّا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقبل عليّ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت: ( إنَّ الَّذِينَ آمَنوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئكَ هُمْ خَيْـرُ البَـرِيَّة ) ( [2]) فكان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البرية ( [3]).
2ـ أخـرج ابن عدي عن ابـن عباس قـال: لمّا نزلت: ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيرُ البَريَّة ) قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ (عليه السلام) : هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين ( [4]). وعلى ضوء هذه التسمية غلب لفظ الشيعة على من يشايع علياً في كلمات غير واحد من المؤرخين.
3ـ قال المسعودي في حوادث وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ الإمام علياً أقام و من معه من شيعته في منزله بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر ( [5]).
4ـ وقال النوبختي: إنّ أوّل فرق الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمّون شيعة عليّ في زمان النبي وبعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته( [6]).
5ـ وقال الإمام أبو الحسن الأشعري: إنّما قيل لهم الشيعة لأنّهم شايعوا علياً وقدّموه على سائر أصحاب رسول اللّه ( [7]).
6ـ يقول الشهرستاني: الشيعة هم الذين شايعوا علياً على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية ( [8]).
7ـ وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ علياً أفضل الناس بعد رسول اللّه وأحقّهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي وإن خالفهم فيما عدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعياً ( [9]).
جاءت دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التشيّع متزامنة مع دعوته للرسالة، فقد بذر التشيع حال حياته في غير موقف من مواقفه الحاسمة، وإليك نماذج منها:
1ـ حديث يوم الدار الذي جمع فيه أكابر بني هاشم وعشيرته وعرض عليهم رسالته، وقال: إنّـي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ فلم يقم أحد إلاّ عليّ، فقال: إنّ هذا أخي و وصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا ( [10]).
2ـ حديث المنزلة أعني قوله: «أما ترضى (مخاطباً علياً) أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» ( [11]).
3ـ حديث الغدير الذي سيوافيك تفصيله.
إنّ هذه الأحاديث وغيرها الناصّة على إمامة علي (عليه السلام) وخلافته بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توقفنا على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي بذر بذرة التشيع حال حياته وألفت أنظار المهاجرين والأنصار إلى قيادة عليّ (عليه السلام) للأُمة بعد رحيله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، مضافاً إلى ما صدر على لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفضائل والمناقب لعلي وعترته حيث صار سبباً لاستقطاب الناس حوله في حال حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد رحيله.
هذا، وقد تزامنت دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) للرسالة، دعوته للإمامة دون أن يكون بينهما سبق ولحوق.
وهو ما عبّـرنا عنه أَنّ التشيع ليس ظاهرة طارئة، ولا الشيعة وليدة الأحداث التي رافقت وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل إنّ الإسلام والتشيع وجهان لعملة واحدة.
وإليك أسماء مجموعة من روّاد الشيعة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
روّاد التشيع في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :
لمّا كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الباذر الأوّل للتشيّع في عصره، فقد التفّ حول الإمام عليّ (عليه السلام) مجموعة من المهاجرين والأنصار في عصره صلوات اللّه عليه وبعد رحيله، وناصروه في مواقف عديدة وعُرفوا بشيعة عليّ، ولأجل مرافقة المدعى بالدليل نذكر هنا أسماء روّاد التشيع من الصحابة في صدر الإسلام:
1ـ عبد اللّه بن عباس. 2ـ الفضل بن العباس.
3ـ قثم بن العباس. 4ـ عبد الرحمان بن العباس.
5ـ تمام بن العباس. 6ـ عقيل بن أبي طالب.
7ـ أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. 8 ـ نوفل بن الحرث.
9ـ عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب. 10ـ عون بن جعفر.
11ـ محمد بن جعفر. 12ـ ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب.
13ـ الطفيل بن الحرث. 14ـ المغيرة بن نوفل بن الحارث.
15ـ عبد اللّه بن الحرث بن نوفل. 16ـ عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحرث.
17ـ العباس بن ربيعة بن الحرث. 18ـ العباس بن عتبة بن أبي لهب.
19ـ عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث. 20ـ جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.
هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم فإليك أسماء لفيف منهم:
21ـ سلمان المحمدي. 22ـ المقداد بن الأسود الكندي.
23ـ أبو ذر الغفاري. 24ـ عمار بن ياسر.
25ـ حذيفة بن اليمان. 26ـ خزيمة بن ثابت.
27ـ أبو أيوب الأنصاري (مضيّف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ). 28ـ أبو الهيثم مالك بن التيهان. 29ـ أُبي بن كعب. 30ـ قيس بن سعد بن عبادة.
31ـ عدي بن حاتم. 32ـ عبادة بن الصامت.
33ـ بلال بن رباح الحبشي. 34ـ أبو رافع مولى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) .
35ـ هاشم بن عتبة. 36ـ عثمان بن حنيف.
37ـ سهل بن حنيف. 38ـ حكيم بن جبلة العبدي.
39ـ خالد بن سعيد بن العاص. 40ـ بريدة بن الحصيب الأسلمي.
41ـ هند بن أبي هالة التميمي. 42ـ جعدة بن هبيرة.
43ـ حجر بن عدي الكندي. 44ـ عمرو بن الحمق الخزاعي.
45ـ جابر بن عبد اللّه الأنصاري. 46ـ محمد بن الخليفة أبي بكر.
47ـ أبان بن سعيد بن العاص. 48ـ أُم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
49ـ أُم هاني بنت أبي طالب. 50ـ أسماء بنت عميس.
هؤلاء خمسون صحابياً من روّاد الشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيعهم فليرجع إلى الكتب المؤلفة في الرجال .
قال محمد كرد علي في كتابه «خطط الشام»: عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل: سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له، ومثل: أبي سعيد الخدري الذي يقول: أُمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة، ولما سئل عن الأربع، قال: الصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج، فقيل: فما الواحدة التي تركوها؟ قال: ولاية علي بن أبي طالب، قيل له: وإِنّها لمفروضة معهن؟ قال: نعم هي مفروضة معهن، ومثل: أبي ذر الغفاري، وعمّـار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وخالد بن سعيد، وقيس بن سعد بن عبادة ( [12]).
وبذلك يستغني القارئ عن الافتراضات الوهمية التي أبداها لفيف من المستشرقين تبعاً لما ورد على لسان بعض الباحثين من أُسطورة عبد اللّه بن سبأ التي حاكها سيف بن عمر الكذّاب الوضّاع ( [13]).
***
هذا هو معنى الشيعة لغة واصطلاحاً وتاريخاً ذكرناه بصورة موجزة والتفصيل يطلب من الكتب المعدّة لهذا الغرض.
وأمّا دراسة عقائد الشيعة ومنهجهم الفقهي فتتمّ ضمن فصول سبعة:
الأول: الشيعة والتوحيد.
الثاني: الشيعة والعــدل.
الثالـــث: الشيعة والنبـــوّة.
الرابـــع: الشيعة والمعـــاد.
الخامـس: الشيعة والإمامة والخلافة.
السادس: الشيعة والمنهـج الفقهـي.
السابــع: الشيعة والتراث الفكـري.
الفصل الأول:
الشيعة والتوحيد
الشيعة تصف اللّه سبحانه كما وصف به نفسه ويقول: ( قُل هوَ اللّهُ أحدٌ * اللّهُ الصَّمدُ * لَم يلِدْ ولَمْ يُولَدْ * ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أحَد ) .
وتصفه بأنّه سبحانه قديم لم يزل ولا يزال، عالم قادر، حيّ قيّوم، سميع بصير، متعال عن جميع صفات خلقه، خارج عن الحدّين: حدّ التعطيل، وحدّ التشبيه، لا يجوز تعطيل ذاته عن صفاته كما لا يجوز تشبيه ذاته بمخلوقاته.
تعتقد الشيعة في توحيده ما كتبه الإمام الرضا (عليه السلام) للمأمون العباسي، حيث سأله المأمون أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار.
فكتب (عليه السلام) له: «إنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً فرداً، صمداً، قيوماً، سميعاً بصيراً، قديراً قديماً قائماً، باقياً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنيّاً لا يحتاج، عدلاً لا يجور وأنّه خالق كلّ شيء، وليس كمثله شيء، لا شبه له، ولا ضدّ له، ولا ندّ له، ولا كفو له، وأنّه المقصود بالعبادة والدعاء، والرغبة والرهبة» ( [14]).
وقد عرض عبد العظيم الحسني عقيدته على الإمام الهادي علي بن محمد النقي (عليهما السلام) فقال له: يا بن رسول اللّه، إنّي أُريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيّاً ثبتُّ عليه حتى ألقى اللّه عزّ وجلّ. فقال (عليه السلام) : هاتها.
فقلت: إنّي أقول إنّ اللّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء، خارج عن الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه، وانّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسِّم الأجسام ومصوِّر الصور، وخالق الأعراض والجواهر، وربّ كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه ( [15]).
هذه عقيدة الشيعة في توحيده وتنزيهه، والقارئ إذا رجع إلى الكتب الكلامية والعقائدية التي أُلّفت بيد علماء الشيعة منذ أوائل القرن الثالث إلى العصر الحاضر يرى اتّفاقهم على ما ذكرنا، وقد اخترنا لك نصّين:
أحدهما: للرضا (عليه السلام) الإمام الثامن للشيعة الإمامية (148 ـ 203 هـ).
وثانيهما: للإمام الهادي الإمام العاشـر (232 ـ 254 هـ) فقـد أمضى ما ذكره عبد العظيم الحسني عليه.
إخترنا هذين النصّين ليُعلم أنّ الشيعة أهل التنزيه منذ عهد مبكّر، ومع ذلك كلّه فقد قسّم علماء الشيعة التوحيد إلى مراتب ودرجات نذكرها على وجه الإيجار .
1ـ التوحيد الذاتي: واحد لا نظير له.
2ـ التوحيد الذاتي أيضاً: بسيط ليس بمركب.
3ـ التوحيد الأفعالي: إنّه لا خالق في الكون إلاّ هو.
4ـ التوحيد التدبيري: إنّه لا مدبّر للكون إلاّ هو.
5ـ التوحيد العبادي: لا معبود سواه. ثم إنّ هناك مراتب للتوحيد ذكرها علماء الشيعة في كتبهم الكلامية واستنبطوها من القرآن الكريم وأحاديث العترة الطاهرة، وهي:
6ـ التوحيد في التقنين والتشريع: إنّه لا مقنّـن ولا مشرّع إلاّ هو ، وليس لأحد حقّ التشريع.
7ـ التوحيد في الطاعة: إنّه لا مطاع بالذات إلاّ هو ، ولو وجبت إطاعة النبي والإمام فإنّما هي بأمره سبحانه.
8ـ التوحيد في الحاكمية: لا حاكم إلاّ هو ، وانّه ليس لأحد أن يحكم إلاّ بإذنه سبحانه.
9ـ التوحيد في الشفاعة: والمراد أنَّ الشفاعة حقّ للّه سبحانه، و لا يشفع لأحد إلاّ بإذنه ( ولا يَشفَعُونَ إلاّ لِمَنِ ارْتَضى ) ( [16]).
10ـ التوحيد في الاستعانة: وانّه لا يستعان إلاّ به، ولو استعان بغيره بزعم أنّه يقوم بالإعانة مستقلاً فهو مشرك، ولو استعان بغيره معتقداً بأنّه معين بحول وقوّة منه سبحانه فهو عين التوحيد.
11ـ التوحيد في المغفرة: وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ هو.
12ـ التوحيد في الرازقية: وإنّه لا رازق إلاّ هو.
هذه مراتب التوحيد الاثنا عشر التي يتفقون فيها مع إخوانهم أهل السنّة لا سيما الأشاعرة .
نعم هناك مرتبة من التوحيد تختص بالشيعة الإمامية يختلفون فيها عن سائر الفرق والطوائف الإسلامية وهي: التوحيد في الصفات: والمراد به أنّ صفاته الثبوتية كالعلم والقدرة والحياة عين ذاته لا زائدة على الذات وإلاّ يلزم تعدد القدماء الثمانية ـ وهي مسألة كلامية خاض فيها عباقرة علم الكلام ـ خلافاً للأشاعرة القائلين بزيادة الصفات على الذات.
وهناك مصطلح كلامي وهو الصفات الخبرية والمقصود منها هي الصفات التي أخبر بها القرآن الكريم وأثبتها الوحي للّه سبحانه كعين اللّه، ويد اللّه، واستوائه على العرش، وما ماثلها، والمسلمون فيها على أقوال: فمن معطِّل يفوِّض تفسير هذه الآيات والصفات إلى اللّه تبارك وتعالى، إلى مجسِّم يفسّـرها بالمعاني اللغوية من دون أن يجعلها ذريعة إلى المعاني المجازية، إلى مؤوّل يؤوّلها إلى معاني تجتمع مع تنزيهه.
والشيعة الإمامية تحملها على المعاني اللغوية ولكن تجعلها كناية عن المفاهيم العالية، ولا ترى ذلك تأويلاً ، فإنّ كلام العرب مشحون بالمجاز فاليد في قوله سبحانه: ( يَدُ اللّهِ فَوقَ أيْدِيهم ) ( [17]) مستعملة في نفس المعنى اللغوي لكن كناية عن سعة قدرته، وهو أمر رائج بين البلغاء ولا يعدّ تأويلاً.
ثم إنّ توحيده سبحانه بكونه الخالق والمدبّـر لا يعني سلب التأثير عن العوامل الطبيعية والجنود الغيبية للربّ، فإنّ سلب التأثير الظلي والتبعي عن كل موجود سوى اللّه، يردّه الذكر الحكيم بقوله سبحانه: ( وَأنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) ( [18]).
وعلى ضوء ذلك فالماء يروي العطشان، كما أنّ الخبز يشبعُ الجائع، والماء ينبت النبت والزرع، لكن بأثر مودع فيه من جانب خالقه، فالقول بتأثيره في ظل إرادته سبحانه وأمره عَيْـن التوحيد الذي دعا إليه الذكر الحكيم.
ومن أراد أن يفسّـر التوحيد في الخالقية و التدبير، بسلب الأثر عن كل موجود سواه، فقد خالف القرآن والوجدان الصريح ووقع في متاهات الجبر الذي سيوافيك بطلانه في الفصل الثاني.
تقسيم صفاته إلى ذاتي وفعلي:
إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتي قائم بذاته، وفعليّ يعدّ وصفاً لفعله، والميزان في تمييز الصفات الذاتية عن الفعلية هو أنّ القسم الأول لا يقبل السلب والإيجاب، بخلاف الثاني ولذلك لا يصحّ أن يقال اللّه يعلم ولا يعلم، أو يقدر ولا يقدر، بخلاف الرزق فيصدق إنّه يرزق ولا يرزق ولذلك تعتقد الشيعة بأنّ من صفاته الفعلية كونه متكلّماً فالتكلّم صفة من صفاته الفعلية بالشرح التالي:
في تكلمه سبحانه:
اتفقت الشيعة على انّه سبحانه متكلّم، ولكن التكلّم عندهم من صفات الأفعال ويفسّـر كونه متكلماً بأمرين.
الأوّل: إنّ كل ما في الكون كلام اللّه سبحانه، فكما أنّ الكلمة تعرب عمّـا يقوم في نفس المتكلّم من المعاني فكذلك كل ما في الكون يُعرب عن حكمته وعلمه وقدرته الواسعة قال سبحانه: ( وَلَوْ أنَّما في الأرضِ مِنْ شَجَرة أقلامٌ والبَحرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدِهِ سَبعةُ أبْحُر ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ ) ( [19]).
قال عليّ (عليه السلام) : يقولُ لِمَنْ أراد كونه: «كُن فيكون»، لا بِصَوت يَقرَعُ، ولا بِنِداء يُسمَعُ، وإنّما كلامُه سبحانه فِعلٌ منه أنشأَهُ و مثَّلَه، لم يكن من قبلِ ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً ( [20]).
فكل ما في صحيفة الوجود من الموجودات الإمكانية، كلماته وتخبر عما في خالقها من كمال وجمال، و علم وقدرة.
الثاني: إنّه سبحانه يخلق الحروف المنظومة والأصوات المقطّعة، يسمعها نبيّه ورسوله أو يرسل رسولاً فيبلّغه آياته، أو يلقي في روع النبي، وإلى هذه الأقسام الثلاثة يشير سبحانه، بقوله: ( وما كانَ لِبَشَـر أن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إلاّ وَحياً أو مِنْ وَراءِ حِجاب أو يُرسِلَ رَسُولاً فَيوحيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إنَّهُ عَلِـيٌّ حَكِيمٌ ) ( [21]).
وقد بيّـن تعالى أن تكلّمه مع الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية:
1ـ ( إلاّ وحياً ) .
2ـ ( أو من وراء حجاب ) .
3ـ ( أو يرسل رسولاً ) .
فقد أشار بقوله: ( إلاّ وحياً ) إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء.
كما أشار بقوله: ( أو من وراء حجاب ) إلى الكلام المسموع لموسى (عليه السلام) في البقعة المباركة. قال تعالى: ( فَلَمّا أتاها نُوديَ مِن شاطِئ الوادِ الأيمَنِ في البُقعَةِ المُباركَةِ مِنَ الشَّجَرةِ أنْ يا مُوسى إنّـي أنا اللّهُ رَبُّ العالَمِينَ ) ( [22]). وأشار بقوله: ( أو يُرسل رسولاً ) إلى الإلقاء الذي يتوسّط فيه ملك الوحي، قال سبحانه: ( نَزَلَ بهِ الرُّوحُ الأمينُ * على قَلْبِكَ ) ( [23]) ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو اللّه سبحانه، تارة بلا واسطة، بالإلقاء في الروع، وأُخرى بالتكلّم من وراء حجاب بحيث يُسمَع الصوت ولا يُرى المتكلم وذلك بخلق الأصوات والحروف، وثالثة بواسطة الرسول (أمين الوحي جبرائيل)، فهذه الأقسام الثلاثة الواردة في الآية المباركة.
إنّ موقف أئمّة أهل البيت في مسألة خلق القرآن وقدمه هو الموقف الإيجابي وإنّهم كانوا يرون القرآن حادثاً لا قديماً وإلاّ يلزم أن يكون القرآن إلهاً ثانياً.
وأمّا انّه مخلوق فلو أُريد انّه مختلق فهو أمر باطل شبيه قول الوليد بن المغيرة الذي حكاه القرآن عنه: ( إنْ هذا إلاّ قَولُ البَشَـرِ ) ( [24]) .
وإن أُريد انّه مخلوق للّه، وهو منزِّله وهو نفس المطلوب، وقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن واقع القرآن فقال: هو كلام اللّه، وقول اللّه، وكتاب اللّه، ووحي اللّه وتنزيله، وهذا الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ( [25]).
ومن هنا يعلم أنّ مسألة خلق القرآن كانت فتنة ابتلي بها المسلمون في عصر المأمون واستغلتها النصارى لصالحهم، وأوجدت فجوة عميقة بين المسلمين وكان النزاع نزاعاً بلا ثمر.
تقسيم صفاته إلى ثبوتية وسلبية:
إنّ المتكلّمين قسّموا صفاته سبحانه إلى ثبوتية وسلبية وقد بسطوا القول فيها ومن جملتها انّه سبحانه:
1ـ ليس بجسم.
2ـ ليس في جهة.
3ـ ليس في محل.
4ـ ليس حالاًّ في شيء ولا متّحداً مع غيره.
إلى غير ذلك من الصفات السلبية التي مرجعها إلى سلب النقائص عن ذاته سبحانه لأنّه الكمال المطلق.
وأمّا رؤيته سبحانه فقد اتفق المسلمون على أنّه سبحانه لا يُرى في الدنيا وإنّما اختلفوا في رؤيته في الآخرة.
رؤيته تعالى في الآخرة:
ذهبت الشيعة الإمامية تبعاً للذكر الحكيم وما جاء في خطب الإمام أمير المؤمنين إلى امتناع رؤيته، قال سبحانه: ( لا تُدرِكُهُ الأبْصارُ وهوَ يُدرِكُ الأبْصارَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ ) ( [26]).
وقال الإمام عليّ (عليه السلام) في وصفه سبحانه: الأوّل الذي لم يكن له قبل، فيكون شيء قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، والرادع أناسيَّ الأبصارِ عن أن تنالَهُ أو تُدركَه ( [27]). وفي خطبة أُخرى: الحمد للّه الذي لا تُدركُه الشواهدُ، ولا تَحويه المشاهدُ، ولا تَراه النواظرُ، ولا تحجُبُه السواتِرُ ( [28]).
وفي كلامه لذعلب اليماني عندما قال له: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام) : «أفأعبد ما لا أرى؟» فقال: وكيف تراه؟ فقال: «لا تدركه العيون بمشاهدةِ العِيانِ، لكن تدركه القلوبُ بحقائقِ الإيمانِ، قريبٌ من الأشياءِ، غيرَ ملابِس، بعيدٌ منها غيرَ مُباين» ( [29]).
وأمّا ما يستدل به على جواز الرؤية في الآخرة فليس بتامّ، وقد استدلّ القائلون بجوازها قديماً وحديثاً بقوله سبحانه: ( وُجـوهٌ يَومئـذ ناضِـرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرةٌ * وَوُجُوهٌ يَومَئِذ باسِـرَةٌ * تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرةٌ ) ( [30]) .
والدقة في الآيات الأربع توقفنا على أنّ المراد بالنظر هو انتظار الرحمة وذلك لوجهين:
1ـ إنّه سبحانه: يسنِد النظر إلى الوجوه لا العيون، فلو كان المراد من النظر هو الرؤية كان اللازم أن يقول مكان «الوجوه»: العيون.
2ـ إنّ مقابلة بعض الآيات ببعض يرفع الإبهام عن قوله: ( إلى ربّها ناظرة ) ويتعيّـن كونه بمعنى انتظار الرحمة وذلك بالشكل التالي:
أ ـ ( وجوه يومئذ ناظرة ) يقابلها قوله: ( وجوه يومئذ باسرة ) .
ب ـ ( إلى ربّها ناظرة ) يقابلها قوله: ( تظنّ أنْ يُفعل بها فاقرة ) .
لا شك أنّ الفقرتين الأوليتين واضحتان جداً، وإنّما الكلام في الفقرة الثالثة فيجب رفع إبهامها عن طريق الفقرة الرابعة التي تقابل الثالثة، بحكم أنّ الأشياء تعرف بأضدادها.
وبما أنّ المراد من الفقرة الرابعة هو توقّع العذاب الكاسر للفقار، والقاصم للظهر يكون ذلك قرينة على أنّ المراد من الفقرة الثالثة ضدّ ذلك وليس هو إلاّ انتظار فضله سبحانه وكرمه.
على أنّه نسأل من يدّعي إمكان الرؤية للّه سبحانه في الآخرة، هل الرؤية تتعلّق بكل ذاته أو ببعضه؟ فإن تعلّقت بالجميع يكون سبحانه محاطاً مع أنّه جلّ جلاله محيط.
وإن تعلّقت بالبعض فصار ذات أجزاء وأبعاض تعالى عن التركيب.
وأمّا ما ورد في الروايات حول الرؤية فكلّها أخبار آحاد لا تثبت بها العقيدة خصوصاً إذا كانت مضادّة للذكر الحكيم والعقل السليم، على أنّ في سند البعض ضعفاً.
هذا إجمال القول في توحيده وصفاته الذاتية والفعلية، والإيجابية والسلبية.
نتيجة البحث:
وقد خرجنا من هذا البحث الضافي بالنتيجة التالية:
إنّ المسلمين متّفقون جميعاً على توحيده وتنزيهه ووصفه بالكمال، وإنّما تختلف الشيعة عن أهل السنّة في المسائل الكلامية التالية:
أ ـ إنّ صفاته الثبوتية كالعلم والقدرة عين ذاته وجوداً وتحققاً وإن كانت غيره مفهوماً، وذلك لئلاّ يلزم تعدّد القدماء خلافاً للأشاعرة حيث قالوا بزيادة الأوصاف على الذات، ولو أرادت الأشاعرة المغايرة والزيادة مفهوماً، لا تحققاً وخارجاً يصبح النزاع لفظياً، ولو أرادت المغايرة خارجاً وعيناً يلزم تعدد القدماء، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
ب ـ إنّ التكلم من صفاته الفعلية كالرزق والمغفرة والرحمة خلافاً للأشاعرة حيث فسّـروه بالكلام النفسي القائم بذاته.
ج ـ إنّه سبحانه منزّه عن الرؤية في الدنيا والآخرة خلافاً لأهل السنّة حيث قالوا بجوازها في الآخرة.
للأمانة منقول
ملاحظة/ سأورد جميع الهوامش والمصادر في تتمة الفصل السابع بأذن الله تعالى