TODAY - June 30, 2010
عراق العَتْمة البيضاء
خيري منصور
في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، كانت موسكو تعيش حمّى “البيروسترويكا” التي وصفها الروس المحافظون بأنها إعادة تدمير وليس إعادة بناء، كما تعني في المعجم الروسي، وكانت الصحف الأجنبية تباع في الأسواق الحرة مع العطور والتبغ، وفي تلك الأيام كانت الحرب العراقية الإيرانية قد وضعت أوزارها، رغم أن لها وِزْراً قد يدوم زمناً طويلاً، ولا أدري ما الذي جعلني أحتفظ بعدد من مجلة “النيوزويك” في مطار موسكو، كان غلافه بالمانشيت الأحمر العريض “ليالي بغداد المظلمة” .
لم يكن صدام حسين قد احتل الكويت، ولم تكن هناك قرائن تشي بمثل هذا القرار، لكن “النيوزويك” التي تنبأت بليالي بغداد المظلمة كانت أدرى من صحف العرب المنهمكة يومئذٍ في سجالات سياسية قاموسها مستعار من مباريات كرة القدم . والآن حين أعيد النظر بهذا العدد من “النيوزويك” تخطر بالبال على الفور ليالي العراق السوداء كلها، بدءاً من الحروب الثلاث حتى ما يسمى انتفاضة الكهرباء في البصرة .
العراق الذي طالما ملأت الشمس أرجاءه، وغذّى دجلة الخالد حدائقه المعلقة وغير المعلقة، بحيث دمعت عينا ويل ديورانت صاحب كتاب “قصة الحضارة” وهو يملأ قبضته من ذلك الماء، وتساءل: هل هذا هو الماء ذاته الذي توضأ منه خلفاء وفرسان وصوفيون؟ وهل هو الماء الذي أرضع العذارى الخالدات من أشجار النخيل التي إن انحنت ماتَتْ؟
أرض السواد من فرط الاخضرار قال عنها السيّاب بوجع شعري آسر “ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع”، وكانت قصيدته الشهيرة “أنشودة المطر” صلاة استسقاء أخرى من أجل الأرض التي شقّقها اليباب .
العراق جاع على رغم سواده الأخضر، وعطش على رغم رافديه، وهاجر برغم عمق الجذور في ترابه، بحيث أصبح الآن عدد من غادروه من أهله أكثر من الثلث .
العتمة قد تكون أحياناً بيضاء، لكن ليس في شوارع البصرة والناصرية والكوت
لماذا جاع العراق وعطش وهاجر وهو الأعرق والأعمق؟ وهل كان قدره منذ البداية أن يكون تراجيديا لها غلاف أزرق شفيف؟
جاع وعطش وهاجر في زمن الديكتاتوريات، وجاع وعطش وهاجر وعانى العتمة في أزمنة الاحتلال وما تلاها .
وحين شاهد العالم أهل البصرة المضاءة بسخاء شمس سليطة الشعاع وهم يتظاهرون من أجل القليل من الكهرباء، أحسّ بالمفارقة الكبرى في هذا العصر الفاحش، ففائض الثروة يتحول إلى فائض شَحّة وفقر، وفائض التاريخ والحضارة يتحول إلى موجات متعاقبة من الهجرات والنزوح، والماء الذي يفيض يُغرق، تماماً كما أنه يُميت عندما يشح .
أية تراجيديا، وأية أحْجية هذا العراق العريق؟ ولماذا تركه العرب يغرق في دمه، وقالوا له إياك إياك أن تَبْتل؟