لطالما كانت الثقافة أحد ألدّ أعداء المستبدين والمتطرفين “تاريخياً”، فلا يوجد ديكتاتور في التاريخ القديم والحديث إلا وحاربها بكافة أشكالها (شعراً، وأدباً، ومسرحاً، ورسماً،…)، والأمر ينطبق على المتطرفين.. مسلمين كانوا أو مسيحيين، وثنيين أو قومجيين.
دائماً ما رفض أصحاب الفكر المتطرف الثقافة والفَنّ واعتبروها أحد أشكال الهرطقة كما كانت تُسمّى في عهد الكنيسة بالقرون الوسطى، وكفرٌ في عهد المتشددين الإسلاميين حالياً وسابقاً.
حيث كتب عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد قبل أكثر من مائة عام عن ذلك قائلاً:
“من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل.”
سوريا مهد الحضارات البشرية، عانت على مرّ العصور من المستبدين والمتطرفين، وعانت الثقافة فيها، ولكنها مع ذلك احتفظت برونقها الفكري والفني والثقافي لعصور، وخرجت بفنانيها من أظلم الخنادق التي وُضِعت فيها.
واليوم نرى الأمر يتكرر مرة أخرى، ففيما يقوم تنظم داعش الظلامي في شرق سوريا وشمالها بنسف الآثار السورية، ومنع كل أشكال الفنون، تقوم حكومة دمشق في العاصمة السورية بمنع التجمعات الثقافية والفكرية والفنية.
نصار غاليري
صورة موقع الغاليري
حادثة (نصار غاليري) التي جرت قبل أيام في دمشق ليست جديدة على المجتمع السوري، فإغلاق أحد أكبر التجمعات الثقافية والذي احتضن في الفترة الأخيرة العديد من النشاطات الثقافية والفنية بسبب حجج “تقنية” كما ذكرت مديرية المحافظة، أمر اعتاده فنانو العاصمة.
فشهد العصر الحديث إجراءات مماثلة كثيرة، ولعل إغلاق جريدة الدومري مطالع الألفية الجديدة للفنان العالمي السوري علي فرزات أكبر دليل، فرسام الكاريكاتير السوري الذي تكسرت أصابعه من قبل بعض المرتزقة في العاصمة نتيجة لرسوماته مطلع عام ٢٠١٢، تعرض قبل ذلك لمضايقات كثيرة في كل مرة حاول التعبير فيها عن أفكاره.
الحوادث كثيرة في هذا الإطار فمثقفو سوريا لا ينسوا مثلاً إيقاف عرض مسرحية (طقوس التحولات والإشارات) في حلب قبل سنوات، بعد تدخل بعض رجال الدين المتشددين لإيقافها وموافقة وزير الثقافة على طلبهم، ما هذا إلا دليل على فرض وصاية رجال الدين على المجتمع وطريقة تفكيره.
تأتي هذه الأمثلة وغيرها الكثير دليلاً على محاربة الثقافة والفن والفكر في سوريا من قبل المجموعات الحاكمة (سياسية كانت أو دينية).
تدمير الآثار
مشهد لآثار تدمر
شرقاً شهدت السنوات الأخيرة تدمير عدد كبير من شواهد العصر التاريخية، في دير الزور والرقة وتدمر وحلب، فالتنظيم الظلامي (داعش) والذي يتخذ من التطرف منهجاً والاستبداد هوية، بدأ بمحاربة الفكر منذ انطلاقته، إذ دمّر عدد كبير من الآثار الخالدة في الحضارة السورية خاصة والعربية والعالمية عامة.
محاولة تجهيل السوريين من قبل هذا التنظيم أو غيره من التنظيمات أو الحكومات، دائماً ينبع من حاجته للسيطرة على العقول ومنعها من التفكير، وعن هذا الموضوع قال “الكواكبي”:
“إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه، لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم وخوفهم ناشئ عن جهل، وخوفه عن عجز حقيقي فيه وخوفهم عن توهم التخاذل فقط، ويضيف الكواكبي: المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم براً وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقاً.”
ختاماً..
بين تصرفات المستبد “السياسي الديكتاتور”، والمستبد الديني “المتطرف”، يبقى الفكر والثقافة والفَنّ هم الضحية، وهو أمر لا يقتصر على سوريا وحدها إنما يمتد لكل أنحاء العالم على مدّ العصور فالاستبداد يعزز الفساد في المتجمع، فذلك المستبد – كما ذكرت كتب التاريخ – دائماً يسعى إلى تجهيل المجتمع للسيطرة عليه فكرياً عبر تفسيده..
لكن التاريخ أيضاً أخبرنا بأن الثقافة دائماً ما تنهض وتحدث الفرق في المجتمعات رغم القمع والاستبداد والديكتاتورية والتطرّف، وهو الأمر الذي طالما قام به السوريين الذين كانوا دائماً ينهضون من رماد التخلف وظلامته إلى ضياء الفكر، والوضع الحالي لا يختلف كثيراً، فأصحاب العقول السورية سينهضون إن لم يكن عاجلاً فإن سيكون آجلاً.
المصدر
www.arageek.com