قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}(1)
عندما يتعرض الإنسان إلى شخصية ؛ لابد أن يلاحظ فيها أبرز تلك الصفات التي اختصت بها ، والخصائص التي تميّزت بها ، فكيف به إذ يتعرض لشخصية أفضل خلق الله ، وخاتم الأنبياء والمفضل من قبل ربّ السماء ! ذلك الرجل الذي حارت فيه العقول .
نعم حارت العقول ، وكيف لها أن لا تتحيّر في شخصية وصلت إلى الكمال المطلق ، فهذا أمير المؤمنين الذي حارت فيه عقول البشر ، يقول في رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (( ما أنا إلا عبد من عبيد محمد (صلى الله عليه وآله) )) (2) ، ولكن ما أعظمها من كلمة ؛ عندما يعبر بها هذا الرجل الذي له الكثير من المقامات ، والذي كان عبداً من عبيد محمد (صلى الله عليه وآله) .
ولنا أن نتكلم وبشكل مختصر عن خصائصه التكوينية ؛ فخصائصه التكوينية التي دلت على أكمليته هي تلك الصفات التي اختصه الله سبحانه وتعالى ، وفضّله بها على سائر الأنبياء والمرسلين وعلى الخلق أجمعين ؛ لأنّ هذه الخصائص فيها أسرار جليلة لابدّ من إيكال علمها إلى الله تعالى والراسخين في العلم ، وهي على قسمين :
الأول: ما اختص به من عالم الذر ، أو ما يسمى عالم الأنوار إلى عالم الدنيا من صفاته (صلى الله عليه وآله) .
الثاني: ما اختص به (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة ، والتي منها يتضح لنا بعض تلك الأسرار التي جعلته أفضل الخلق ، وأفضل جميع الأنبياء والمرسلين .
1ـ الخلق النوراني :
قد أشارت بعض الروايات (3) الدالة على أنّ الله تبارك وتعالى خلق نور محمد (صلى الله عليه وآله) قبل خلق السماوات والأرض ، والعرش والكرسي ، واللوح والقلم ، والجنة والنار ، وقبل خلق آدم ونوح وإبراهيم ، وقبل أن يخلق الأنبياء كلهم بأربع مائة وأربعة وعشرين ألف سنة ، والتي دلّت أنّه سبّح الله وعبده قبل جميع العابدين والمسبّحين ، وأنّ الملائكة تعلّموا التسبيح منه .
2ـ خلقه علة الإيجاد :
وهذا مما دلت عليه الروايات أنه (صلى الله عليه وآله) علة غائية ؛ لإيجاد الخلق ، كما ورد في الحديث القدسي: (( لولاك لما خلقت الأفلاك )) (4) .
اخذ الميثاق منها : رواية عبدالأعلى عن الصادق (عليه السلام) ، والتي تدل على أنّ أخذ الميثاق من جميع الأنبياء لنبينا (صلى الله عليه وآله) : (( إن بعض قريش قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : بأيّ شيء سبقت الأنبياء ، وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ؟ فقال : إني كنت أول من آمن بربي ، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ، فكنت أنا أول نبي قال : بلى ، فسبقتهم بالإقرار بالله عزّوجل )) (5) .
وأيضاً دل على ذلك القرآن الكريم ، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}(6) .
ولقد أكّد أغلب المفسرين على هذا المعنى بمفرد هذه الآية ، إلا أنّ صاحب الميزان له كلام في المقام ، يفهم منه أنّها تدل بمجموع سياق الآيات على المراد ، حيث قال : " وما ذكره بعض المفسرين أنّ المراد بالآية أنّ أخذ الميثاق من النبيين أن يصدقوا محمداً (صلى الله عليه وآله) ، ويبشروا أممهم بمبعثه ، فهو وإن كان صحيحاً ؛ إلا أنّه أمر يدل على سياق الآيات دون الآية نفسها لعموم اللفظ ، بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم ، وكتمان آيات النبوة والعناد مع صريح الحق" (7) .
3ـ معجزته الخالدة :
أعطى الله تبارك وتعالى كل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الآيات والمعجزات الدالة على صدقه وصحة ما جاء به عن ربه ؛ فيه كفاية وحجة لقومه الذين بعث إليهم , وهذه المعجزات كانت وقتية ، انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها .
وأما نبينا (صلى الله عليه وآله) ؛ فكانت معجزته العظمى التي أختص بها دون غيره هي القرآن العظيم ، الحجة المستمرة الدائمة القائمة في زمانه وبعده إلى يوم القيامة ، كتاب خالد لا ينضب معينه ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا تنتهي فوائده ، محفوظ بحفظ الله من التغيير والتبديل والتحريف ، وقد بشره الله تعالى بذلك حيث قال : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(8) .
وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(9) .
4ـ التعظيم الرباني في الخطاب :
من الخصائص التي دلت على أكمليته ؛ أنّ الله تعالى وقرّه في ندائه ، فناداه بأحب الأسماء وأسنى الأوصاف ، كقوله: {يا أيُّها الرَّسُولُ}(10) ، و{يا أيُّها النَبِيُّ}(11) ، وقد نادى الأنبياء بأسمائهم فقال : {يَا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ}(12) ، وقوله تعالى: {يَا إبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}(31) ، وقوله: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّة}(14) .
بل لم يكتف بذلك ؛ وإنما نهى حتى أمته أن تناديه : يا محمد ، بقوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(15) ، فقد روي عن ابن عباس : " أنّ الصحابة كانوا يقولون وينادون : يا محمد ! أو : يا أبا القاسمّ ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك إعظاماً لنبيه (16) .
5ـ اعتراف الجمادات له بالرسالة :
منها: تسليم الحجر عليه (17) ، وحنين الجذع إليه (18) ، ونبع الماء من تحت أصابعه (صلى الله عليه وآله) (19) ، فإنّه أبلغ في خرق العادة من تفجيره من الحجر ؛ لأن جنس الأحجار مما يتفجر منه الماء ، وكانت معجزته بانفجار الماء من بين أصابعه ؛ أبلغ من انفجار الحجر لموسى (عليه السلام) ، والتي لم تكن ولم تثبت لواحد من الأنبياء .
6ـ الاسراء والمعراج
ومما اختص به رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؛ معجزة الإسراء والمعراج فقد أسري به ببدنه وروحه ، يقظة من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى ، وهو بيت المقدس بإيلياء في جنح الليل , ثم عرج به إلى سدرة المنتهى ، ثم إلى حيث شاء الله عز وجل ورجع مكة من ليلته .
وأكرم (صلى الله عليه وآله) في هذه الآية العظيمة بكرامات كثيرة , منها : ما رأى من آيات ربه , وإمامته للأنبياء في بيت المقدس .
فدل ذلك على أنه هو الإمام الأعظم ، والرئيس المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
وقد ثبت الإسراء بالقرآن , كما ثبت المعراج بالمتواتر من الحديث , وإليه أشار القرآن قال الله تعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(20) ، وقال تعالى {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ٭ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ٭ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى٭ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى٭ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ٭ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ٭فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى٭فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ٭ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ٭ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ٭ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ٭ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ٭ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ٭إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى٭ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى٭لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}(21).
7ـ مفاتيح وخزائن الارض
أكرم الله عبده ورسوله محمداً (صلى الله عليه وآله) واختصه على غيره من الأنبياء ؛ بأن أعطاه مفاتيح خزائن الأرض ، وهي ما سهل الله تعالي له ولأمته من بعده من افتتاح البلاد المتعذرات ، والحصول على كنوزها وذخائرها ومغانمها ، واستخراج الممتنعات من الأرض ؛ كمعادن الذهب والفضة وغيرها .
هذه بعض أوصافه ومزاياه التي ثبتت له في الدنيا وما قبلها
خصائصه في الحياة الأخروية
لقد ادخر الله تعالى لنبيه أسمى المراتب وأشرفها مقاماً ، فقد خصّه بالوسيلة ، وهي أعلى درجة في الجنة ، لا تنبغي لعبد من عباد الله .
وأوّل شافع يوم القيامة ، بل له الشفاعة المطلقة ، بل صرّحت جملة من الروايات (22) أنّه تحرم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها النبي (صلى الله عليه وآله) ، وإكرامه بالحوض دون الأنبياء .
كذلك ما دلّ على أنّ آدم وجميع من خلقه الله ؛ يستظلون تحت لوائه يوم القيامة ، كما صرّح بذلك (صلى الله عليه وآله) : (( بيدي لواء الحمد، تحته آدم فمن دونه )) (23) .
فهل لنا أن نتعرّف على هذه الشخصية العظيمة والتي من أجلها فُضّلنا على سائر الأمم ؟! ولكن هذه الأمة في الواقع لم ترعَ له حقاً ، رغم ما عرفته من مكانته وأفضليته عند الله سبحانه وتعالى ، فلقد ابتلي (صلى الله عليه وآله) بهذه الأمة ، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم .