الأعلمية الدينية عنوان دون معنونالمقدمة
بحث مبسط حول مفهوم الأعلمية وبيان ضوابط تحديدها بين المتصدين
للمستشار القانوني
رامي احمد الغالبي
الحمد لله رب العالمين وافضل الصلاة واتم التسليم على حبيب قلوبنا ابا الزهراء محمدٍ الأمين وعلى آله الغر الميامين .
اما بعد.
ان موضوع اعلمية المجتهد من المواضيع التي لم يتركها الذهن الشيعي طارحاً في مضامينها مئات المسائل من اجل تحديد هوية الأعلم لأجل السير وفق فتاواه, متخذه منقذاً وموجهاً لكافة مسائل الشريعة الإسلامية بديهية كانت ام مستحدثة.
لكن وبعد الولوج في دقائق هذا الموضوع وجد هذا الذهن ان آلية تعيين الأعلم من الآليات التي تؤدي إلى دورانه في محله, دون ان يحقق مبتغاه في بيان معرفة اعلم المجتهدين.
ثم بدأ عوام الناس على اختلاف مراتبهم العلمية والإجتماعية في مناقشة هذه الأمور فمن يقلدون؟ وكيف يستطيعون الوصول الى اعلمية هذا المجتهد من ذاك؟ إلى ان وضع اولي الأمر من الفقهاء آلية تحديد ومعرفة الأعلم بينهم .
وبالتالي اصبح لزاماً علينا معرفة من هو الاعلم وماهي الضوابط التي من خلالها نستطيع الوصول اليه ومعرفته.
وهذا ما سنبينه في المطلبين الآتيين محل البحث, سائلين المولى جلت قدرته ان نوفق لما فيه خير وصلاح ونفع للمجتمع انه سميع مجيب الدعاء.
المطلب الأول
مفهوم الأعلمية
تدل الدلائل النقلية على ان مفهوم الأعلمية من المفاهيم التي عولجت وحددت ضوابطها منذ فترةٍ قصيرة قد لا تتجاوز القرنين من الزمن على اكثر الترجيحات.
وهذا ما استنبطناه من خلال تتبع آراء الفقهاء حول معنى الأعلمية, فقد ذهب البعض منهم إلى أن الأعلمية هي من الموضوعات العرفية، لذلك فإن محتملات معانيها تنحصر في اربعة معانٍ: فإما إن معنى الأعلم هو أن يكون أكثر علماً من غيره، أو أن يكون أكثر إستحضاراً للفروع الفقهية ومسائلها، أو يكون أقرب إصابة إلى الواقع، أو أنه أجود فهماً وأحسن تعييناً للوظائف الشرعية[1].
فقد ذهب الشيخ أحمد النراقي، إستناداً لبعض الروايات، إلى أن المراد بالأعلمية هو: =الأعلم في الأحاديث وفي دين الله. فتارةً تكون الأعلمية في الأحاديث بأكثرية الإحاطة بها والإطلاع عليها، وأُخرى بالأفهمية والأدقية وأكثرية الطور فيها، وثالثها بزيادة المهارة في إستخراج الفروع منها وردّ جزئياتها إلى كلياتها، ورابعها بزيادة المعرفة بصحيحها وسقيمها وأحوال رجالها وفهم وجوه الخلل فيها، وخامسها بأكثرية الإطلاع على ما يتوقف فهم الأخبار عليها من علم اللغة والنحو وغير ذلك، وسادسها بإستقامة السليقة ووقادة الذهن وحُسن الفهم فيها، وسابعها بأكثرية الإطلاع على أقوال الفقهاء التي هي كالقرائن في فهم الأخبار ومواقع الإجماعات وأقوال العامة (أهل السنة) التي هي من المرجحات عند التعارض، كذلك فهم القرآن.
فالأعلم الذي يجب تقديمه بلا أدنى شك هو الأعلم بجميع تلك المراتب أو في بعضها مع التساوي في الباقي، وإلا فإنه يشكل الحكم بالتقديم، ومن ذلك يظهر ندرة ما يحكم فيه بوجوب التقديم البتة [2].
اما الأصفهاني صاحب (الفصول الغروية) فيذهب إلى أن معنى الأعلمية هو: (أن يكون المجتهد أقوى من غيره في معرفة مضامين العلوم التي يتوقف عليها الإجتهاد، كالعربية والأُصول والرجال، مضافاً إلى أن تكون له إعتبارات قوة الحفظ، أو الذكاء، أو كثرة التأمل، أو كثرة الإطلاع، أو سعة الباع في الفكر والتصرف، أو إعتدال السليقة، أو زيادة التحقيق، أو التدقيق، أو أقدمية الإشتغال ومزيد الإستئناس, لكنه إستدرك بأن من الممكن أن يتحقق التعارض بين هذه الوجوه، لهذا فهو يرى أن إعطاء ضابط للأمر يعد متعذراً على الظاهر)[3].
اما اليزدي صاحب (العروة الوثقى) فيذهب إلى ان المراد بالأعلمية هو: (ان يكون صاحبها الأعلم أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر إطلاعاً لنظائرها وللأحاديث، وكذلك أجود فهماً لهذه الأحاديث، وبالتالي فالحاصل هو أن يكون أجود إستنباطاً من غيره) [4].
ولدى الفيروز آبادي صاحب (عناية الأُصول) فإن الأعلم هو: (من له ملكة أقوى وسلطة أشد في الإستنباط)[5].
وهذا ما ذهب إليه السيد محمد تقي الحكيم، حيث أن الأعلم بنظره هو: (أن يكون المجتهد أقوى ملكة من غيره في مجالات الإستنباط، لا الأصولية إلى الواقع لعدم إمكان إحرازها في الغالب)[6].
وهنالك من يرى أن من ضمن ما يدخل في ملاك الأعلمية هو أن يكون للمجتهد معرفة بأوضاع زمانه بالمقدار الذي له مدخلية في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية، كما هو رأي الولي الفقيه السيد علي الخامنئي, وقبله كان السيد روح الله الخميني يرى أن من الواجب على المرجع أن يكون عالماً بالأُمور السياسية والعسكرية والإجتماعية والقيادية كافة[7].
وقد يعد البعض هذا الشرط داخلاً في مجال ولاية الفقيه العامة لا مسألة تشخيص المجتهد الأعلم لكن أن معنى الأعلم او الأفقه يقتضي الإنصياع إلى هذا الرأي حيث ذهب البعض إلى أكثر من ذلك فاعتبروا أن من لم يحرز مثل هذه الأُمور فليس بمجتهد بالمرة، وذلك باعتبار أن الفقه الشيعي حديث العهد بها، وهي تشكل ما يقارب (95%) من مجموع الأحكام الكلية.
فكما يقول الشيخ الجناتي: إن « هنالك نظام إسلامي قائم , هو غير مفهوم الأعلمية في السابق، ولأن الأعلم في السابق هو الذي يكون أعلم المجتهدين الآخرين في إطار مسائل الرسالة العملية والتي تشمل نوعاً ما على المسائل الفردية والعبادية وهي تشكل (5%) فقط من مجموع الأحكام، أما اليوم فالمجتهد الأعلم هو أعلم من سائر المجتهدين في جميع المسائل التي يحتاجها الفرد؛ سياسية، عبادية، إقتصادية، إجتماعية، بالإضافة إلى مسائل العلاقات الدولية والمسائل الحكومية. لهذا يجب أن تحرز هذه الأُمور في الشخص الذي يطرح باعتباره الأعلم، وبدونها لا يمكن أن نعتبره الأعلم. بل يمكن أن لا نعتبره مجتهداً؛ لأن أدلة الفروع الموجودة في الرسائل العملية واضحة ولا تحتاج إلى بذل الوسع والإجتهاد...إن الفقيه الذي لا يلم بالمسائل التي يواجهها النظام الإسلامي والتي تشكل (95%) من مجموع الأحكام، ويكتفي بالمسائل والأحكام الفردية والعبادية في حدود الرسالة العملية ـ التي تكررت مئات المرات ـ فقط؛ لا يمكن أن يكون مجتهداً مطلقاً»[8].
المطلب الثاني
بيان الضابط في تحديد الأعلم ومناقشته الضابط في تحديد الأعلمية
ذكر فقهاؤنا طرقاً تفتح الباب أمام المكلف في كيفية تعيين اعلمية مرجع التقليد وتثبيت عدالته.
1- آية الله العظمى السيد الخوئي (قدس سره):- (( .... ويثبت أجتهاده وأعلميته أيضاً بالشياع المفيد للإطمئنان وبالبينة ))[9].
2- آية الله العظمى السيد الشهيد محمد صادق الصدر(قدس سره) :-((يثبت الاجتهاد والاعلمية أيضاً بالعلم والاطمئنان والوثوق, والبينة وبخبر الثقة أو العدل مع حصول الوثوق الشخصي بقوله))[10].
3- آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري (قدس سره):-(( يثبت الاجتهاد والأعلمية بالإختبار وبالشياع المفيد للعلم وبشهادة العدلين من أهل الخبرة))[11].
4- آية الله العظمى السيد السيستاني (دام ظله) :- (( يثبت اجتهاده واعلميته – بالعلم, بالإطمئنان – بشهادة عدلين من أهل الخبرة )) [12]
5- آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) (( ويثبت اجتهاد المجتهد واعلميته وعدالته – بالنحو المتقدم – بالعلم مع عدمه يكفي شهادة الثقة من أهل الخبرة اذا استندت الى الإختبار ولا يعتد بشهادته اذا استندت للحدس والتخمين ومع اختلاف اهل الخبرة تسقط شهادتهم ))[13] .
مناقشة شروط الأعلمية.
اولاً: العلم
يملكون العلم الذي يستطيعون من خلاله معرفة الأعلم حيث, يصعب على المكلف العادي أن يشخص الأعلم بدرجة العلم واليقين وهذا العلم الذي يسمى ب((العلم الوجداني)) نادراً ما يحصل عند المكلف لصعوبة تطبيق مقدماته ومناشئه بصورتها الصحيحة وكذلك الكلام في الإطمئنان الحاصل من المناشئ العقلائية ومن هذه المناشئ العقلائية للعلم أو للإطمئنان يمكن ان يكون بالبينة لعدلين من المجتهدين او من اهل الخبرة وبعد تعذر هذا الطريق للأسباب التالية :-
1- اما لعدم تحققه أصلاً, وذلك لعدم وجود المجتهدين أو أهل الخبرة الحقيقيين , اول عدم احراز عدالتهم.
2-وقد يتحقق ذلك لكن تسقط البينة للتعارض كما هو حاصل في الخارج حيث نجد البعض يدعو لزيدٍ, والبعض الآخر يدعو لبكر, والثالث يدعو لخالد وهكذا , وممن أشار الى التساقط, السيد محمد سعيد الحكيم في رسالته العملية عندما ذكر طرق معرفة الأعلمية (( ويثبت اجتهاد المجتهد واعلميته وعدالته – بالنحو المتقدم – بالعلم مع عدمه يكفي شهادة الثقة من أهل الخبرة اذا استندت الى الإختبار ولا يعتد بشهادته اذا استندت للحدس والتخمين ومع اختلاف اهل الخبرة تسقط شهادتهم ))[14] .
وبعد تساقط ذلك وابطال هذا المنشأ لا يبقى امام المكلف الا البحث بنفسه وبذل ما بوسعه وقدرته بأتباع الطرق العلمية والأخلاقية والشرعية كمعرفة آثار الشخص العلمية والأخلاقية لتشخيص الأعلمية والعدالة ولو للوصول الى أرجحية أحدى الأطروحات علىالباقي فتكون هذه الأطروحة الراجحة عليه (حجة ) وهذا المعنى هو مراد بعض فقهائنا بتوسيع مصاديق أهل الخبرة.
ثانياً: البينة
البينة في اللغة هي الحجة والبرهان , وقد شاع استعمالها فبشاهدين عدلين وسمي الشاهدان (بينة),والبينة هنا كما اشرنا هي شهادة عدلين من اهل الخبرة بأعلمية أحد العلماء وهم نفس أهل الخبرة ممن ذكرناهم في الطريق الاول (العلم) أي ان يكونوا من الافاضل والمجتهدين وان يكونا عادلين , ويشترط في افراد البينة امور منها:-
الأول : يجب ان يحضر اهل الخبرة جميع بحوث المجتهدين لمدة معتد بها بحيث يميز معرفة الأعلم اثناء الدرس, او يحضر عند البعض ويطلع على بحوث البعض الآخر من المجتهدين اذا كانوا قد اصدروا بحوثهم الخارجية على شكل مطبوعات او اشرطة صوتية او مرئية او تقريرات طلبتهم .
الثاني: يجب ان لا تقع بين اهل الخبرة وبين ذلك المجتهد أي صلة اجتماعية واقتصادية وغيرها , لأنها تؤثر على اتجاه الانسان في اغلب الاحيان , فتقدح بعدالته وورعه.
ونحن نرى صعوبة تحقق هذين الشرطين, لا من باب قدحنا لأهل الخبرة حاشا وكلا لكن لحقيقة الأمر الواقعي في معضلة تحديد الأعلم, حيث تكمن هذه المعضلة في كثرة المتصدين للأعلمية على مستوى النجف الأشرف وقم المقدسة ولبنان وغيرها. فكيف امكن لأهل الخبرة من الإطلاع على مؤلفات هؤلاء المتصدين, وكيف ترجيح الأعلم من بينهم فقد يكون احد المجتهدين اعلماً في كتابٍ فقهي وليس بأعلم في كتاب فقهيٍ آخر, كما قد يتحول غير الأعلم إلى اعلم في برهة من الزمن وقد يكون العكس, كل هذه تساؤلات يجب على الإخوة الأفاضل من اهل الخبرة ان يضعون لها إجاباتٍ شافية وواقعية لمعالجة هذه المشكلة التي آذت المكلفين على مر العصور.
ثالثاً: الشياع.
الشياع هو دليل مستقل كما في العلم والاطمئنان بل يمكن ان يقال انه يرجع الى العلم والاطمئنان في هذا المقام , لان العلماء قد قيدوا الشياع بكونه مفيداً للعلم او الاطمئنان لا مطلق الشياع , ويشترط ان يكون الشياع مسنداً الى منشأ عقلائي كأقوال اهل الخبرة العدول بطبيعة الحال , والا فالشياع من غير المناشئ العقلائية, لا حجة فيه لعدم حصول الإطمئنان منه , واذا لاحظنا واقع الحوزة سنجد ان الشياع يخالف الواقع دائماً .
كما ان بعض المجتهدين يمتلكون من الجو الإعلامي ما يمكن لهم من تهيئة هذا الشياع بين الأوساط الحوزوية وغيرها علما ان اختلف الشياع بين اثنين كل حسب امكانيته الإعلامية فسيسقط الشياع كما يسقط اختلاف اهل الخبرة في اختلافهم بتحديد الأعلم.
اما شرطي حسن الظاهر وكثرة المؤلفات فالإجابات عنها لا تختلف عن اجاباتنا حول الشياع واهل الخبرة .
وفي ضوء ما تقدم يتضح ان الأعلمية عنوان دون معنون وهذا لا يعني فراغ حوزتنا العلمية المباركة من العلماء الأجلاء الذين بلغوا اعلى المراتب العلمية بجدهم ومثابرتهم , لكن هذا ما استنتجناه من خلال المقدمات السابقة التي دلت على ان عنوان الاعلمية عنوان حديث في الوسط الشيعي, وان الشروط الموضوعة لمعرفة اعلمية المجتهد لم تتقدم بنا إلى معرفة من هو الاعلم .
لذا اصبح لزامًا على اولي الأمر من مراجع التقليد ان يلتفتوا الى مسألة اساسية الا وهي انه في حالة عجز اهل الخبرة عن تحديد الأعلم فبأي أي الأقوال نأخذ؟ ومن الذي نتبعه؟ وهل هنالك مجلسٌ علمي لفقهاء المذهب يخرجون من خلاله بفتوى تخص المستحدثات على الصعيدين الديني والسياسي؟.
وقبل أن يجف ريق القلم اقول أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد الأمين وعلى آله الغر الميامين وسلم تسليماً كثيراً.
المصادر
[1] شورى الفقهاء، ج1، ص289.
[2] مستند الشيعة، ج2، ص522، وشورى الفقهاء,ص289
[3] الفصول الغروية، ص424 . كذلك خلاصة الفصول، ج2، ص55 .
[4] السيد محمد كاظم اليزدي, العروة الوثقى، وبهامشها تعليقات أعلام العصر ومراجع الشيعة الإمامية، مؤسسة الأعلمي ببيروت، ط2، 1988، ج1، ص7-8.
[5] عناية الأُصول، ج6 ، ص258 .
[6] السيد محمد تقي الحكيم: الأُصول العامة للفقه المقارن، مؤسسة آل البيت للنشر، ط2، 1979، ص659.
[7] آية الله العظمى السيد علي الحسيني الخامنئي أجوبة الإستفتاءات، العبادات، دار الوسيلة، ط2, 1995 ص8ــ9.
[8] أعلمية الفقيه ومباني التقليد للجناتي، مجلة التوحيد، نفس المعطيات السابقة، ص36.
[9] . منهج الصالحين, مسألة ( 20)
[10] . منهاج الصالحين- مسألة (22).
[11] . جامع الاحكام الشرعية مسألة (7).
[12] . منهاج الصالحين مسألة ( 12).
[13] منهاج الصالحين مسألة (5).
[14] منهاج الصالحين مسألة (5).