بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}[الفتح: 1-2].
يوم فتح مكَّة
لم يكن يوم فتح مكّة الّذي نعيش ذكراه في العشرين من شهر رمضان، يوماً عاديّاً كباقي أيّام الفتوحات في التّاريخ. صحيح أنّه لم يستغرق شهوراً أو سنوات، لكنّ الفاتح ليس كالآخرين، ولا النّتائج شابهت ما عرفه التّاريخ في مثل هذه المعارك.
صحيح أنّه كان عملاً عسكريّاً، لكنّه كان العمل العسكريّ الّذي زاوج بين الأخلاق والحرب، والتّوفيق بين الغاية والوسيلة. كان باختصار يوم عزّة ونصر، وفي الوقت نفسه، يوم رحمة وتواضع.
ويوم الفتح هذا كان حصيلة سنوات من جهاد رسول الله(ص) وأصحابه، سنوات من المعاناة والصّبر والثّبات واليقين بأنّ الله ناصرهم. لم تُرق خلال تلك السّنوات نقطة دم هدراً. كلّ الصّبر على النّفي والإبعاد، وكلّ التضحيات كانت أقساطاً من ضريبة الفتح، لا شيء جاء مجّاناً.
في صلح الحديبية الّذي حصل بين قريش والرّسول(ص)، أُبرِم اتّفاقُ عدم اعتداء بين الطّرفين، وكان ينسحب على الحلفاء أيضاً، لكنّ غرور قريش وصلفها، دفعاها إلى نقض هذا الاتّفاق، عندما حرَّضت وأعانت حليفتها قبيلة بني بكر على قبيلة خزاعة حليفة الرَّسول(ص)، حيث هاجموها، وقتلوا منها عدداً من الرّجال.
وجنت على نفسها قريش، لأنَّ خزاعة طلبت من الرَّسول(ص) النّصرة، ولم يتردَّد الرَّسول في طلب الحماية والرّدع، وقرّر(ص) أن يغزو مكّة، ولا سيّما عندما نزلت عليه الآيات واعدةً إيّاه بالنّصر المؤزّر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر: 1-3].
توجّه الرّسول(ص) على رأس جيشه إلى مكّة في العاشر من شهر رمضان، وأحاط سيره بكتمان شديد، حتّى وصلها بعد 10 أيّام، وعسكر على مشارفها.
مفاجأة استراتيجيّة
لم يقرع الرّسول(ص) طبول الحرب، ولا أعلن عن نيّته، جمع عشرة آلاف مقاتل، واتخذ تدابير مكّنته من إحراز مفاجأة استراتيجيّة.
التّدبير الأوّل، وهو أنّه في ليلة الفتح، طلب الرّسول من كلّ مقاتل أن يوقد ناراً، وفوجئت قريش بهذا البحر من الأضواء. وأوّل انطباع كان هو ضخامة الجيش ورهبته.
التّدبير الثّاني، تمثّل بأن طلب الرّسول من عمّه العباس أن يستدرج أبا سفيان عمّ النبيّ(ص)، كي يشاهد بأمّ العين جيش المسلمين عدّة وعديداً، وأخيراً ينصحه: إلحق بقومك سريعاً وحذّرهم. ووصل أبو سفيان ليقول للعبّاس: "لقد صار ملك ابن أخيك عظيماً".
ولأنّ قرار الرّسول كان أن يدخل مكّة من دون قتال وإراقة دم، لهذا، وهو التّدبير الثّالث الّذي اتخذه الرّسول، أراد أن يترك الباب مفتوحاً للتّوبة وللتّراجع، وأن يحيّد النّاس عن الدّخول في مواجهة، ليس من قبيل الخوف، بل من قبيل توفير الدّم والقتل، فأعلن أنّ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن لم يحمل السّلاح فهو آمن.
التّدابير هذه أثارت بلبلةً عند قريش: ترهيب وتوهين نفسيّ، بعده أدلّة، بعدها طمأنة الرّسول للنّتائج إن لم يحاربوا.. وهكذا أخمدت إرادة القتال عند زعماء قريش، وخصوصاً أبا سفيان، الّذي عمل بنصيحة العبّاس، فأتى مكّة وهو يصرخ: يا معشر قريش، هذا محمّد قد جاءكم بما لا قِبل لكم به. من دخل داري فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن.
وهكذا أسلست قريش قيادها، وتخلّت عن غرورها، وفتحت مكّة ذراعيها لتستقبل يتيمها، يدخلها تحت رايات النّصر، وصيحات "الله أكبر".
النّصر نعمة وابتلاء
أيّها الأحبّة: إنّ النّصر نعمة من عند الله سبحانه، لكنّه ابتلاء وامتحان يظهر معدن الإنسان، ويكشف طينته. فعلى مرّ التّاريخ، كان من يملك السّلطة والقوّة أقلّ النّاس تواضعاً ورحمة، وعند كلّ نصر يأخذهم العُجْب والكبرياء.
كيف دخل محمّد بن عبدالله مكّة فاتحاً؟
وصل(ص) إلى منطقة «ذي طوى»، وهي مرتفع يشرف على مكّة وبيوتها، وفي هذه المنطقة، توقّف(ص) قبل سنوات وهو متخفّ، خارجاً منها مطارداً.
تأمّل البيوت، تأمّل مكّة، ها هي الآن ملك يمينه، لكنّه لم يأتها غازياً شاهراً سيفه، بل فاتحاً قلبه ليغمرها برحمته.. دخل مكّة متخشّعاً، مطأطئاً رأسه خضوعاً وشكراً لله عزّ وجلّ.. لم يشمخ بأنفه ويتعال ويرفع هامته تيهاً وعزاً وتشوّفاً.
كان ككلّ الأنبياء والمؤمنين، عزَّتهم من العزيز الرَّحيم، لهذا لم يستسلم لذلّ؛ ذلّ فقر أو عصبيّة أو ظلم أو صنميّة، ولذلك لم تكن عزّته عزّة مستأجرة أو مؤقّتة، أو قابلة للخلع أو المساومة أو التّجزئة.
لهذا ظلّ محمّد بن عبدالله محمّداً اليتيم والفاتح، المطارَد والمنتصر، لم يغيّره اليتم، كما لم يغيّره المجد ولا الزّمن، رفضت قريش دعوته، حاربته، أنزلت به شتَّى أصناف العذاب، فهل ذلَّ أو استكان أو فكَّر للحظة في أن يعيد النَّظر في مشروعه؟! ظلّ عند قسمه: "والله لو وضعوا الشَّمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتّى يظهره الله أو أقتل دونه".
هذا القسم تُرجم إلى سعي وجهاد، وها هم تلامذته وأصحابه والسّاعون في طريق الله، في طريقهم إلى دكّ حصن الشّرك، وتطهير الكعبة من آثام قريش ووثنيّتها...
ولأنّ العزّة ليست تكبّراً أو تفاخراً، وليست بغياً أو عدواناً، لذلك لا عزَّة من دون رحمة، والله وصف ذاته بالقول: {وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: 62]. لهذا لم يكن يوم فتح مكَّة يوم عزَّة فحسب، بل يوم عزَّة ورحمة. بلغه أنَّ سعد بن عبادة، وهو أحد حملة ألوية الجيش الإسلاميّ، يصيح ويهتف: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة، عندها أمر عليّاً(ع) ـ وهذا ما أكّده الشيخ المفيد ـ أن يأخذ منه الرّاية ويدخل بها مكّة دخولاً رقيقاً ويقول: "اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة، اليوم أعزّ الله قريشاً".
خلق عظيم
لم ينس رسول الله ما فعلته قريش وطغاتها به وبأصحابه، ولا يوم قتلوا سميّة وياسر أمام ولدهما عمار.. قريش هذه فرضت عليه وعلى أصحابه وبني هاشم حصاراً دام ثلاث سنوات، حتّى أكلوا ورق الشّجر ونبات الأرض، وعانوا الجوع والاضطهاد.
ولكن هل قابل السيّئة بالسيّئة؟ لا لم يفعل، لقد أرسله الله رحمةً للعالمين، فهل بإمكانه أن يكون سيف نقمة عليهم؟
إنّ الرّأفة والرّحمة خلق إلهيّ، زرعه الله في ذلك القلب الّذي حمل همّ من آمن برسالته وهمّ من وقف في وجهه، حمل همّهم وحزن لأجلهم.. ما أروع هذا الخلق! إذ لم يكن في قلبه رحمة عليهم فقط، بل كان حزيناً لأجلهم، وكان الله يتدخّل ليخفّف عنه، فيقول له: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[فاطر: 8]. لذلك لم يقتصّ من وحشيّ قاتل عمّه حمزة، ولا علّق مشنقة لتلك الّتي لاكت كبده.
محمّد العطوف الرّؤوف، الّذي تعلّم الرّحمة من ربّه، لم يجاز الذّنب بالذّنب. إنّنا نستغفر لوالدينا، لمن نحبّ، لمن هم أعزّاء على قلوبنا، أمّا أن يطلب الإنسان المغفرة لخصم حاول قتله وشطبه من لائحة الأحياء، فإنّه سموّ ما بعده سموّ، ورحمة ما بعدها رحمة.
محمد بن عبدالله كان يتعالى أن تمرّ في ذهنه فكرة الحقد أو الكره أو الانتقام، كان رحمة خالصة أهداها الله للنّاس، وكان(ص) يقول: «اللّهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون». ولم يطلب الهداية لهم فحسب، بل سأل الله أن يعذرهم لأنّهم لا يعلمون.
وسجّل الرّسول(ص) المنتصر أروع مثل في العفو عند المقدرة، فهو لم يؤلّف محاكم ميدانيّة لمحاكمة من طغا، ولا عذَّب وقهر ولاحق من أساؤوا إليه، فبعد أن حطّم(ص) الأصنام في الكعبة وطهّرها من رجس الأوثان، صلّى بالكعبة، ووقف على بابها وقريش صفوف في المسجد ينتظرونه، فقال لهم: "يا معشر قريش، ما تظنّون أنّي فاعل بكم؟"، فأجابه سهيل بن عمرو قائلاً: "نظنّ خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم"، فأجابه: "اذهبوا فأنتم الطّلقاء".
وأكمل هذا العفو بأن أمر الجيش بأن لا يتعرَّضوا لأحد، وأن لا يريقوا دم إنسان.
قيادة الرَّحمة
إنّه يوم الانتصار الحقيقيّ، وقد قاد هذا الانتصار والفتح محمد الإنسان قبل محمد القائد.
قيادة محمّد(ص) لم تكن قيادة سيف، ولا قيادة تبحث عن كمالها خارج ذاتها وخارج انتمائها إلى الله.. قيادة محمد لم تكن قيادة قتل، ولا كانت نبوّته نبوّة قطع رؤوس وبقر بطون، ولا نبوّة حقد وسفك دماء.. قيادة محمّد لم تكن قيادة شرذمة وتقسيم وسعي إلى المصالح.. قيادة محمد كانت قيادةً همُّها هموم الأمّة، ومصالح الأمّة، والبحث عن أدوية لأمراض الأمّة.
أين نحن اليوم مما يحدث في ساحات الأمّة؟ أين المسلمون اليوم من رحمة نبيّهم وعطفه ورقّة قلبه ورأفته:{مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}[الفتح: 29]... كم يحتاج المسلمون اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى إعادة التعرّف إلى نبيّنا من جديد والاقتداء به، لا أن ننتمي إليه شكلاً ونغفل المضمون والمحتوى، لأنّ ما يجري اليوم ينبئك بأنّ المسلمين قد شطحوا وأضاعوا هدف بعث نبيّهم الّذي قال: "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، والرّحمة هي على رأس الأخلاق. فهلا نكون جديرين بنبيّنا، فنحيا حياة أفضل وننال شفاعته يوم الحساب؟!
والله المستعان، والحمد لله ربِّ العالمين