نقلا عن كتاب ( مهزلة العقل البشري )
تجادل ذات مرة الجاحظ والإسكافي حول إسلام أبي بكر وعلي.
يقول الجاحظ: ان أبا بكر أفضل من علي من هذه الناحية لأن أبا بكر أسلم وهو رجل ناضج العقل، أما علي فأسلم وهو صبي لم يبلغ الحلم. واسلام المتقدم في السن، على رأي الجاحظ، أفضل لأنه يعاني مؤنة الروية واضطراب النفس ومشقة الانتقال من دين قد طال الفهم له.
ويرد الاسكافي على ذلك فيقول: ان اسلام علي في صباه أفضل. فالغالب على أمثاله حب اللعب واللهو، ولكنه آمن بما ظهر له من دلائل الدعوة فقهر شهوته وغالب خواطره وخرج من عادته وحمى نفسه عن الهوى وكسر شرة حداثته بالتقوى.
وعقد الجاحظ فصلاً طويلاً قارن فيه بين مبيت علي موضع الرسول ليلة الهجرة ومبيت أبي بكر في الغار أثناء الهجرة. ورد عليه الاسكافي رداً طويلاً. ثم أطال الجاحظ في ذكر فضائل لأبي بكر من شجاعة وسخاء بالمال وغير ذلك فرد عليه الاسكافي بالموازنة بين شجاعة علي وموقف هذا وموقف ذاك... .
ولو اطلع القارئ على هذا الجدل بطوله كما رواه ابن أبي الحديد، لوجد عجباً. فكل من الفريقين يأتي بالأدلة العقلية والنقلية بأسلوب مقنع لكنه لا يقنع إلا صاحبه. أما الفريق الآخر فيعتقد اعتقاداً جازماً بأن رأيه هو الأصوب والأرشد والأقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله.
وإني حين أقرأ مثل هذا الجدل الطويل يخيل لي ان هؤلاء المتجادلين لا يؤمنون بمجيء يوم يحاسب الله به عباده، بعد الموت، فلو أنهم مؤمنون بهذا اليوم حقاً لأجلوا جدلهم إلى حين مجيئه، ولسلموا أمرهم إلى الله ليقضي بينهم بالحق.
ولست أدري ماذا يقصد هؤلاء من جدلهم. فلو كان أبو بكر وعلي سيرجعان إلى هذه الحياة مرة أخرى لوجدنا لهؤلاء عذراً فيما يتجادلون فيه. ولكنهما ذهبا إلى ربهما منذ زمان بعيد، وهما الآن بين يدي الله. ولن يرجعا إلى هذه الحياة ولو ملأنا الدنيا عليهما جدلاً وخصاماً.
إننا ندرس التاريخ لكي نستفيد منه لحاضرنا ومستقبلنا. هذا هو مقصد الشعوب الحية من دراسة التاريخ. ومن السخرية أن نتجادل على أمر مضى عليه ثلاثة عشر قرناً من غير أن ننتفع منه لحاضرنا أو لمستقبلنا شيئاً.
وأبطال التاريخ لا أهمية لهم إلا من حيث مبادئهم الاجتماعية التي كانوا يسعون وراءها. ونحن حين ندرس التاريخ نريد أن نستشف منه تنازع المبادئ فيه، ونتخذ الأبطال رموزاً لتلك المبادئ.
إن البطل لا شأن له بحد ذاته. ومنزلته الاجتماعية تقاس بما حمل من مبادئ وبمقدار سعيه نحو تحقيقها وبمبلغ تضحيته في سبيلها.
فنحن إذ ندرس النزاع بين علي ومعاوية مثلاً، نرى فيه تصادماً بين مبدأيين متضادين، أحدهما يحرص على أموال الأمة ويريد مصادرة الثروات الضخمة والغاء الاقطاع والتسوية في العطاء، والآخر يريد أن يقسم أموال الأمة كما يشتهي السلطان وما تقتضيه مصلحته الخاصة.
ودراسة هذا النزاع يفيدنا كثيراً في حياتنا الحاضرة لأنه يلقى ضوءاً على ما نعاني اليوم من مشكلات اجتماعية واقتصادية، لا سيما ونحن نمر اليوم بمرحلة انتقال قاسية تتسع فيها الثغرة بين المتخومين والمحرومين.
أما أن نريد معرفة أيهما أفضل أمام الله، علي أو أبو بكر، فذلك أمر لا دخل له في حياتنا العملية ومرده إلى الله فهو وحده الذي يحكم فيه. وربما انتهينا في هذا الجدل إلى نتيجة ثم رأينا عندما نقف بين يدي الله إن هذه النتيجة التي كافحنا من أجلها مغلوطة من أساسها.
لو كان الجدل حول أفضلية علي وأبي بكر يدور في نطاق البحث عن المبادئ التي تمس مشاكلنا الراهنة لكان جدلاً نافعاً له أهميته الاجتماعية. ولكن الجدل يدور حول منزلة الرجلين في الدين. وهذا يدخل في نطاق السرائر والضمائر التي لا نعرف عنها شيئاً على وجه اليقين. والله وحده هو الذي يستطيع أن يحكم فيها حكماً قاطعاً.
يروي الشريف الرضي في كتاب نهج البلاغة أن أحد أصحاب علي سأل علياً عن قضيته مع أبي بكر وعمر وعثمان ولماذا استأثروا بالخلافة دونه وهو أحق بها منه، فأجاب قائلاً: (يا أخا بني أسد... أما الاستبداد علينا بهذا المقام ـ ونحن الأعلون نسباً والأشدون برسول الله نوطاً ـ فإنها أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم الله والمعود إليه يوم القيامة. ودع عنك نهباً صيح في حجراته. وهلم الخطب في ابن أبي سفيان فلقد أضحكني الدهر بعد ابكائه، ولا غرو والله فيا له خطباً يستفرغ العجب ويكثر الأود، حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه وسد فواره من ينبوعه. وجدحوا بيني وبينهم شرباً وبيئاً. فإن ترتفع عنا وعنهم محن البلوى أحملهم من الحق على محضه وإن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون).
إن هذا القول المذكور في نهج البلاغة يكشف لنا عن رأي علي في أمر الخلافة والإمامة بوضوح. فعلى قضية رئاسة حرص عليها قوم وتسامح عنها آخرون. وهي اذن ليست بذات أهمية كبرى. إن الأهمية الكبرى في رأي علي تنحصر في نزاعه مع معاوية بن أبي سفيان إذ أن معاوية يريد أن يطفأ نور الله. وعلي مصمم إذن على أن يحمله على الحق أو يموت دون ذلك.
وما أجدر المسلمين اليوم أن يتعظوا بهذا القول الحكيم. إنهم مشغولون بأمر علي وأبي بكر: أيهما أفضل عند الله، وينسون أمر علي ومعاوية وما فيه من نزاع اجتماعي عميق.
لقد كان أبو بكر وعلي كلاهما عادلين حريصين على أموال الأمة لا يأخذان منها شيئاً لهما أو لأصحابهما وأقربائهما. وقد نجد بعض الأخطاء هنا وهناك ولكنها أخطاء محتملة قد يعفو عنها الله، وسبحان من لا يخطأ.
أما النزاع بين علي ومعاوية فهو أعمق من هذا كثيراً. انه نزاع جذري على حد تعبير أهل هذا العصر. فهو لا يدور حول أخطاء بسيطة، إنما هو يدور حول مصير الأمة: هل تجري في طريق العدالة الاجتماعية أم تجري في طريق الحكم الطاغي الذي لا يعرف عدلاً و لا مساواة.
جاء إلى علي جماعة من أصحابه يشيرون عليه أن يفعل بأموال الأمة كما يفعل معاوية بها لكي يجذب إليه الأشراف والرؤساء من قريش وقبائل العرب الأخرى، فقال: (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور).
إن الناس في ذلك العصر لم يفهموا أهمية هذا النزاع حق الفهم. فالعامة كانت تجري وراء رؤسائها والرؤساء كانوا يميلون نحو من يعطيهم من المال نصيباً أوفر. ولا يهمهم أن يكون هذا المال منهوباً أو مغصوباً.
ولم يفهم الناس أهمية هذا النزاع إلا في العصور الحديثة وذلك بعدما نضج الرأي العام واشتد وعي الشعوب وأخذوا يحاسبون حكامهم على كل فلس يصرفونه من أموال الأمة.
ومن المؤسف ان نرى رجال الدين في الإسلام لا يزالون حتى يومنا هذا غير مدركين أهمية هذا الأمر العظيم. فهم مشغولون بالتفاضل بين أبي بكر وعلي ويعدون النزاع بين علي ومعاوية أمراً ثانوياً.
فأهل السنة يرون علياً ومعاوية كليهما مجتهدين إذ كانا يريدان الحق بتلك الحروب الطاحنة التي شنها أحدهما على الآخر. ثم يعود أهل السنة فيقولون: إن علياً كان مصيباً في اجتهاده ومعاوية كان مخطئاً. والمجتهد مثاب مأجور حين يخطئ وحين يصيب.
فالقضية أصبحت في نظر هؤلاء مسألة خطأ وصواب في الاجتهاد لا غير.
أما الشيعة فهم يجدون في هذه القضية نزاعاً بين مؤمن ومنافق ثم لا يتغلغلون وراء النزاع ليفحصوا المبادئ الاجتماعية التي تكمن هنالك.
صار علي بن أبي طالب في نظر هؤلاء مجرد امام أوجب الله حبه على العباد. أما ذلك الكفاح الجبار الذي قام به في سبيل العدالة الاجتماعية فلا أهمية له عندهم.
فهم يفضلون ناصر الدين شاه على هارون الرشيد مثلاً. وحجتهم في ذلك ان الأول كان يأتي إلى قبر الحسين بن علي زائراً خاضعاً متواضعاً ويأمر بتشييد قبره بينما كان الثاني يؤذي زوار قبر الحسين ويضطهد أبناء علي.
والواقع ان الشاه لم يختلف عن الرشيد في أمر أموال الأمة التي أوجب الله إنفاقها على أربابها المتسحقين لها. كلاهما كانا من السلاطين الذين ينهبون أموال الأمة ويشترون بها الجواري ـ ثم يبكون بعد ذلك من خشية الله. ولقد زرت قصراً من قصور الشاه أثناء سفرتي إلى إيران في الصيف الفائت فلم أجده يختلف عن أحد قصور الرشيد التي تذكرها كتب التاريخ. وعندئذ تذكرت قول أبي× ذر لمعاوية حين رآه يبنى قصراً باذخاً: إن كان هذا من مالك فهو الإسراف وإن كان من مال الأمة فهي الخيانة.
إن النزاع بين علي ومعاوية فهو أشبه بنزاع ينشب بين القافلة وقطاع الطريق. فلا مجال لنا أن نقول بأن قطاع الطريق كانوا مجتهدين في تصديهم للقافلة وكان لهم وجه من الحق في عملهم هذا.
ان أموال الأمة للأمة. وقد رأينا محمداً وأبا بكر وعمر يتحرجون غاية التحرج في أن يأخذوا من هذه الأموال شيئاً لأنفسهم أو أهليهم. ومات كل منهم وهو لا يملك من دنياه سوى ثوب مرقع ونعل مخصوف.
كان الفقهاء قديماً يقولون: لا اجتهاد في معرض النص. ويمكن أن يقال حديثاً: لا اجتهاد فيما تقرره أكثرية الأمة.
وهنا قد يجابهنا اعتراض آخر وهو ان أكثرية الأمة نفرت عن علي بن أبي طالب حين أراد أن يحقق فيها العدالة الاجتماعية، وهو عندما قتل لم يكن معه من الأنصار المخلصين سوى عدد قليل، فما تقول في هذا؟
أقول: ان طريقة علي كانت وفق مصلحة الأكثرية طبعاً. أما أن الأكثرية آنذاك لم يدركوا مصلحتهم فذلك أمر آخر.
ان نظام الأكثرية الذي تقوم عليه الديمقراطية الحديثة لم يقم إلا بعد توافر شروط عديدة، أهمها: انتشار التعليم ووعي الرأي العام وتكون الأحزاب الحديثة وارتفاع شأن الصحافة وما أشبه. ولا يزال هذا النظام ناقصاً يعتوره كثير من العيوب.
وكلما اشتد وعلي الناس وانتشر التعليم ازدادت مقدرة الأكثرية على أن تفرض رأيها على الحكام.
أما في عهد علي بن أبي طالب فالمجتمع كان بدوياً قبلياً في الغالب. فكان رئيس القبيلة هو الذي ينطق بلسانها ويسير بها حيث يشاء. وكثيراً ما ينساق الأفراد وراء رؤسائهم نحو ما يضرهم وهم لا يشعرون.
وقد وصف علي الناس في عهده فقال: (الناس ثلاث: عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة والباقي همدج رعاع ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح).
والظاهر ان هذا الوصف لا يزال صحيحاً في كثير من البلاد الاسلامية حتى يومنا هذا.
ونحن إذ ندرس التاريخ نريد أن نجعله وسيلة لتثقيف الناس وسبيلاً لمساعدتهم على حل ما يعانون من مشكلات راهنة.
إن المسلمين اليوم، كما رأيناهم، يدرسون التاريخ لكي يعرفوا أن فلاناً كان أشجع أو أعلم أو أفضل من فلان، لا يزيدون على ذلك شيئاً. بينما هم سادرون في وضعهم الاجتماعي السيئ، فلا يحاولون أن يعتبروا بما في التاريخ من عظات بالغات.
وهم حين يستعرضون سيرة رجال التاريخ لا يعرفون منها إلا أن فلاناً مات شهيداً (ليتناكنا معه) وإن فلاناً كان منافقاً (لعنة الله عليه). وهم في كلا الاتجاهين كاذبون.
إنهم يسيرون في حياتهم كما كان يسير أسلافهم إذ هم يحبذون العدل بألسنتهم وينفرون منه بأعمالهم.
كلنا ننادي بالحق والحقيقة عندما نخطب أو نتجادل أو نتلو القصائد الرنانة. ولكننا نفعل ذلك لأننا نشعر في قرارة أنفسنا بأن هذه الأقوال التي نتشدق بها سليمة لا ضرر منها ولا مسؤولية عليها. حتى إذا وجد الجد وصار الحق معارضاً لما نحن فيه أسرعنا إلى جعبتنا المملوءة بالأدلة العقلية والنقلية فاخترنا منها ما يلائم موقفنا وصورنا الحق بالصورة التي ترضينا. ثم لا ننسى بعد ذلك أن نواصل تلاوة القصائد الرنانة من جديد.
كان الناس في صدر الاسلام يتلون القرآن ويذرفون الذمع السخين من خشية الله. وكانوا أكثر منا تعلقاً بتعاليم الاسلام وحباً للعدالة والمساواة التي جاء بها النبي محمد. ولكنهم لم يكادوا يرون علي بن أبي طالب يتبع تلك التعاليم اتباعاً صارماً ويحقق مبادئ العدالة من غير تردد حتى نفروا منه ونصروا أعداءه عليه.
وجدنا علياً في آخر أيامه كولده الحسين وحيداً، حيث تعاورت عليه ذئاب البشر من كل جانب. فلما ضربه ابن ملجم على رأسه بالسيف هتف قائلاً: (فزت ورب الكعبة).
والواقع انه فاز بتلك الضربة فنجى من هذه الدنيا بعد أن أعطى للبشرية درساً لا تنساه ـ هو ان الناس يحبون الحق بأقوالهم ويكرهونه بأعمالهم.
لقد فرق علي بن أبي طالب بعدله الصارم جماعة المسلمين. وشأن العدل الصارم أنه يفرق الجماعة ويشتت شملها في كل زمان ومكان.
ويظن المسلمون انهم لو رأوا علياً بينهم اليوم لاجتمعوا إليه ونصروه ولما تفرقوا عنه. وهم في ذلك يخادعون أنفسهم.
فلو ظهر بيننا اليوم رجل كعلي بن أبي طالب عادلاً لا يساوي بين الناس فلا يدارى أهل الجاه والنفوذ ولا يغدق أموال الأمة على الأصحاب والأنصار ولا يحابى أو يجامل أو يراعي، لتفرقنا عنه كما تفرق عنه أسلافنا ولأقمنا الدنيا عليه وأقعدناها ولعزونا إليه كل منقصة نجدها في القاموس.
وقديماً الفرزدق للحسين بن علي: (قلوب الناس معك وسيوفهم عليك!).
لو ان أبا بكر وعلياً ظهرا الآن ثم قيل للمسلمين: اختاروا أحدهما، لرأينا المسلمين يتركونهما معاً ويفرون إلى صاحبهم معاوية حيث ينعمون عنده بالطبيخ الدسم والترف الوثير.
إن معاوية بقصوره الباذخة وموائده العامرة وأمواله الفائضة أقرب إلى قلوبهم من علي أو من أبي بكر أو من أي حاكم آخر يريد أن يحكم بين الناس بالعدل.
رأينا عقيلاً، شقيق علي، يفر من علي بعدما رآه يعطيه كما يعطى غيره من الناس. فهو الشريف القرشي لا يختلف في عطائه عند علي عن العبد الحبشي. وذهب عقيل إلى معاوية أخيراً وهو يقول: (إن أخي خير لي في ديني ومعاوية خير لي في دنياي).
وكاد عبيدالله بن عباس، ابن عم علي، يقوم بمثل ذلك. فهو لم يكد يرى من علي محاسبة دقيقة وحرصاً شديداً على أموال الأمة حتى نهب بيت مال البصرة وذهب إلى مكة فاشترى به ثلاث جواري من ذوات العون والنهود. ويقال إنه كتب إلى علي أخيراً يقول: (لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به).
إننا نرى بيننا في كل يوم نزاعاً بين علي ومعاوية على وجه من الوجوه. ونحن حين نرى رجلين يتخاصمان أحدهما مترف أنيق يقيم الولائم ويذبح الدجاج والآخر صعلوك لا يملك من جنياه سوى حقه الذي يدافع عنه فهل ننصر هذا أو ذاك؟
كلنا ندعى إننا نحب الحق ونريده نصره من صميم قلوبنا. ولكننا في الواقع لا نحب إلا ذلك الحق الشعري الذي نلهج به دون أن نعرف حدوده في الحياة العملية. أما الحق الصارم الذي يهدد مصالحنا فنحن من أبعد الناس عنه.
مما يلفت النظر إن المسلمين اليوم جميعاً يحبون علي بن أبي طالب. فمنهم من يحبه قليلاً ومنهم من يحبه كثيراً ومنهم من يفرط في حبه إلى درجة الغلو. وليس هناك من يكره علياً في هذا العصر إلا طائفة صغيرة هي من بقايا الخوارج وهم منعزلون عن بقية المسلمين في أماكن نائية.
وقد يسأل سائل هنا فيقول: إذا كان الناس قد نفروا من علي وكرهوه في حياته، فما هو السبب الذي جعلهم يحبونه أو يغالون في حبه بعد وفاته؟
يقول المثل الدارج بيننا: (لا تعرف قدري إلا بعد أن تجرب غيري). وهذا المثل يذكرنا بنظرية المتصوفة التي تقول بأن الشيء لا يعرف إلا بنقيضه.
فقد اندفعت جماهير الناس مع رؤسائهم نحو جانب معاوية وتركوا علياً وراءهم، وهم يظنون ان الأمر بسيط لا يعدو كونه اختلافاً بين زعيمين يدينان بدين واحد ويصليان صلاة واحدة ويتلوان كتاباً واحداً.
ثم تبين لهم بعد مرور الزمان إن الأمر أعمق من هذا. حيث رأوا إن سياسة علي كانت أنفع لهم في المدى البعيد، وإن سياسة معاوية كانت براقة مغرية في الظاهر ولكنها كانت تحتوي في باطنها على سم زعاف لهم.
لقد كانت الدولة التي أسسها معاوية دولة قومية طبقية قبل أن تكون دولة إسلامية ديمقراطية. فكانت تضع رعاياها في درحات متفاوتة: فقريش في حسابها أفضل من بقية العرب، والعرب أفضل من الموالي، والموالي أفضل من أهله الذمة، وأهل الذمة أفضل من الكفار الذين مصيرهم جهنم وبئس المصير.
أما علي بن أبي طالب فكانت سياسته على النقيض من ذلك. فكان يعطف على أهل الذمة ويعاملهم معاملة المسلمين. أما التفريق بين العرب والموالي فلم يخطر له على بال. حتى الكفرة كان لا يحب محاربتهم قبل محاربة الظالمين من المسلمين أنفسهم.
ولهذا كان مجلسه في المسجد الجامع خليطاً من مختلف الشعوب والألوان. وكان متواضعاً معهم إلى أقصى الحدود. قيل إنه كان يقضي بعض أوقاته عند بقال فارس اسمه ميثم التمار، وكثيراً ما كان علي يبيع التمر مكانه إذا غاب ميثم عن دكانه لقضاء حاجة.
أما معاوية فكان إذا سار رافقه موكب فخم كموكب الأكاسرة، وإذا جلس حف به الحجاب والحراس على أكتافهم السيوف. وكانت مائدته عامرة بالأطعمة الفاخرة حيث كان لا يجلس إليها إلا من كان من أبناء الطبقات العليا على ترتيب وتدريج.
والناس جبلوا على احترام مثل هذه المظاهر الفخمة ولعلهم يفضلون صاحبها على من كان متواضعاً يلبس الثوب المرقع ويتحدث بأحاديث الزهد والتقوى.
ولست أرى الناس في عصرنا هذا يختلفون كثيراً عن أناس ذلك العصر.
يقول مكيافيلي في نصائحه للأمير: ان من الأفضل للأمير أن يكون محترماً مهيب الجانب بدلاً من أن يكون محبوباً. وميكافيلي بهذا يقصد الأمير الذي يعيش في مجتمع كمجتمعنا أو كمجتمع ذلك العهد القديم. فالناس قد يجرأون على المحبوب ويسيئون إليه ويعصون أمره ولكنهم لا يفعلون ذلك مع المحترم المهيب الجانب.
عاش الناس في عهد علي وهم لا يعرفون قدره، فلما مات وتوالى على منصة الحكم بعده حكام متغطرسون جائرون، أحس الناس بأنهم خسروا بموت علي خسارة لا تعوض أبداً.
وشاءت الأقدار أن يحكم العراق بعد موت علي بمدة قصيرة رجل اشتهر في التاريخ بظلمه المفرط وقسوته البالغة هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي يصح أن نسميه: (نيرون الشرق).
وكان الحجاج بالإضافة إلى ظلمه المفرط مبغضاً لعلي بن أبي طالب ومبغضاً لشيعته أشد البغض. وقد اشتد في مطاردة الشيعة وفي تعذيبهم وصلبهم على جذوع النخل حتى صار الرجل يتمنى أن يقال له زنديق أو كافر ولا يقال له انه محب لعلي بن أبي طالب.
وبهذا صار اسم علي مرادفاً للتذمر من الظلم والنقمة عليه. والمظلوم عادة يتخذ لمظلوميته ملجأ روحياً. فكان اسم علي إذن بمثابة البلسم يتخذه المظلومون دواءاً لجروح قلوبهم.
كان الحجاج بدوياً في قيمه الاجتماعية. ولهذا كان يهتم بجباية الخراج أكثر من اهتمامه بعمارة الأرض. وقد أدت سياسته هذه إلى خراب الكوفة خراباً اقتصادياً فظيعاً. فأخذ الناس يهاجرون منها هائمين على وجوههم في أرض الله الواسعة. وكانوا ينقلون في هجرتهم هذه أنينهم من الظلم ونقمتهم على الحكام الجائرين.
وقد كتب عمر بن عبدالعزيز إلى والي الكوفة أثناء خلافته القصيرة يقول له: (سلام عليك. اما بعد: فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء شديد وشدة وجور في أحكام الله وسنة خبيثة استنها عمال السوء...).
وأخذ الناس يغالون في حبهم لعلي وفي اشاذتهم بفضله كلما اشتدت الدولة عليهم في أمر من الأمور. كأنهم اتخذوا مدح علي بمثابة النكاية والتحدي يقابلون به جلاوزة الدولة ودعاتها وعاظها.
صار اسم علي رمزاً لمعارضة الدولة. فلم يكن من الهين على رجل أن يقول انه يحب علياً ثم يبقى محافظاً على ماله أو نفسه. ومعنى هذا ان (ولاية علي) صارت غالبة الثمن عظيمة الكلفة. فهي لم تكن يومذاك كما هي في عصرنا الحاضر ـ كلمة يلعق بها اللسان من غير أن تكون لها دلالة اجتماعية أو سياسية.
أصبح الناس اليوم يلهجون بحب علي ويتغنون بأماديحه فلا يعترض عليهم أحد. وبهذا نسى الناس الوضع الدقيق الذي كان (حب علي) فيه يعني السجن والعذاب أو ضياع النفس والمال.
ترك الناس علياً ي حياته ثم تمسكوا به بعد وفاته وتلك هي المأساة البشرية الكبرى!
--------------------------------------------------------------------