اشتهرت مدينة كركوك كمثيلاتها بغداد والموصل والحلة بغناء المقام العراقي منذ مئات السنين . وقد نبغ فيها معنون بارعون اسهموا في مجالات الغناء العراقي بصورة فعالة واضافوا الى المقامات العراقية من نتاجاتهم ومبتكراتهم الفنية بما لا يستهان بها . ومن هؤلاء ( الملا ولي ) من مواليد سنة 1246 هـ . وهو استاذ ( علي الصفو ) شيخ القراء في الموصل وكبير مغنيها ( أنظر : جلال الحنفي , المغنون البغداديون , ص 108 ) . ومنهم ( شالتاغ ) الذي هاجر من بلدته الاصلية كركوك وسكن في بغداد بسبب قتله رجلا يعتقد أنه كان من المغنين , وذلك على اثر مشاجرة حدثت بينهما في مجلس غنائي فالتجأ الى الوالي ( ناظم باشا ) الذي عفا عنه وقربه اليه ( عبد الوهاب العزاوي , جريدة الشعب البغدادية الصادرة بتأريخ 4-4-1956 ) . فبرز شالتاغ كقارئ عظيم للمقامات العراقية وكموجد لمقام سماه بـ ( تفليس ) نسبة الى موطن غلام أرمني كان يحبه حبا جما ( جلال الحنفي في كتابه السالف الذكر , ص61 ) . وهناك قراء كثيرون ظهروا في كركوك , لا يتسع المقال لذكرهم وتعريف هوياتهم .
بيد أنني أريد في هذه العجالة ان اتحدث عن قارئ المقامات المعروف ( الملا طه ) الذي أطرب أبناء بلده وقطره بصوته العذب الرخيم وبفنه الممتع الجميل فترة تزيد
على نصف قرن وخلف من بعده اثاراً غنائية فولكلورية كان قد سجلها على اسطونات في سنة 1925 يبلغ عددها ثلاثا وأربعين اسطوانة ..
لقد أهملت الاوساط الفنية أمر هذا القارئ الراحل وتجاهل الباحثون الموسيقيون شأنه . فلم يتحدث عنه أحد من الكتاب المعاصرين بشيء . لذا رأيت من المناسب ان اتكلم في هذا المجال عن بعض جوانبه الغنائية بقدر تعلق الامر بحقل الدراسة الفولكلورية ..
نبذة عن حياته :
ولد الملا طه بن عبد القادر في سنة 1291 رومية ( الموافقة لسنة 1876 ميلادية ) بمحلة المصلى بكركوك كما ينطق بذلك دفتر نفوسه العثماني . لقد تربى ونشأ في بيت جل اهله من القراء . فقد كان اخوه الكبير ( الملا صابر ) من قراء المقامات العراقية المعروفين حيث كان يتراس فرقة الانشاد الديني ( المولد النبي ) . وقد اشتهر بتحلين التنزيلات ( البستات الدينية ) ونظم الاراجيز الشعرية باللغة العربية , اذ كان يترجم احيانا كلمات البستات التركية والمحلية الى العربية وذلك لكي تنسجم مع قدسية الالحان الدينية التي كانت تنشد في مجالس الموالد النبوية وفي التكايا اثناء اجراء مراسيم الاذكار . وكان الملا طه منذ صغره يرافق فرقة اخيه حتى وفاة هذا الاخير في الثلاثينات من هذا القرن .. وقد اشتغل فترة من الزمن بالتجارة فكان ينتقل لهذا السبب بين كركوك وبغداد والموصل ويحتك بالمغنين وقراء المقامات ويتبادل معهم الاراء فيأخذ منهم ما يحتاجه ويعطيهم ماعنده من فنون المعرفة . وقد عين اخيرا كقارئ للقرآن في جامع الحاج أحمد الذي هدم قبل سنوات عديدة .
وكان الملا طه يعيش في شيخوخته على موارد أملاكه عيشة رخاء حتى وافاه الاجل 13-9-1969 عن عمر يبلغ الثالثة والتسعين ...
اساتذته :
تعلم الملا طه فنون المقام العراقي من أخيه الملا صابر كما ذكرناه أعلاه .
وتعلمها ايضا من ( الحاج نعمان رضوان ) الذي كان يعد من مشاهير قراء المقامات العراقية منذ سنة 1275هـ ( 1858م ) وفق ما ينطق به بعض النصوص الشعرية . وكان الملا طه قد لحقه في اواخر حياته .. ولقد اخذ صاحبنا كثيرا من فنون المقامات العراقية من معاصره ( محمد خليل آغا ) المتوفي بين الحربين العالميتين الاولى والثانية . واخذ مقام القزازي ومقام الاورفة من ( الحاج احمد القصاب ) .. وأما مقامات القوريات المشابهة للمقامات العراقية فقد تلقى اصولها النغمية من اساتذة عديدين , فقد تعلم مقام ( عمر كله ) من ( قشا اوغلي فرانسز ) أي فرنسس ابن القس .. وتعلم غيرها من ( بربر علاو ) و ( محمد طوسياقه ) . ولكنه لم يكن يجيد مقامات القوريات مثل اجادته للمقامات العراقية . فقد كان يمزج بين مقدمة مقام ( عيده له ) ومؤخرة مقام ( مزان ) . وكان يبدأ مقام ( قره باش ) ببدوة ( عمر كله ) .
تأثيره وتأثره :
لانستطيع ان نحدد بالضبط عدد القراء الذين تأثروا بالملا طه , لاننا لم نشاهد بروز قارئ كبير مثله في بلدته ليعد تلميذا في مدرسته . وقد ظهر بعض المقلدين له من امثال الملا حسن قارئ المواليد وغيره من قراء المقامات العراقية في كركوك الا انهم لم يبلغوا المستوى الفني المطلوب في الوقت الحالي .. الا ان كلا من ( السيد زينل صابونجي ) البالغ تسعين عاما ( الملا محمد طوبال ) وهما من اساتذة المقامات العراقية في كركوك قد تأثروا بعض الشيئ بالملا طه وانهما بدورهما اثرا عليه تأثيرا متقابلا .
وهكذا الامر مع ( الملا عبد الله لوبياجي اوغلي ) الذي مات قبل بضع سنوات حيث كان كل منهما متأثرا بالآخر . وأما في مقامات القوريات فقد تبادل صاحبنا الفن مع معاصره المتوفي ( محمد جولبوين ) .. ولم يتأثر من مغني مقامات القوريات الحاليين بالملا طه سوى المطرب ( عبد الواحد احمد كوز ه جي) في مقام عمر كله والمطرب الشاب ( فخرالدين اركيج ) في مقام ( درمانكاهه ) ...
حكايات تسجيل المقامات العراقية على الاسطوانة :
كان المرحوم الملا طه قد تحدث لي في حال حياته عن جوانب هامة كثيرة تخص غناء المقام العراقي بما لايمكن حصرها في مقال . ولعل من المفيد ان نذكر في هذا المجال جانبا واحدا من تلك الجوانب خاصا بموضوع تسجيله المقامات العراقية على الاسطوانات وذلك قبل ما يزيد على نصف قرن من الزمان .
لقد كانت اعراف البلد وتقاليد ابنائه في الماضي تحول دون الغناء بالوسائل العصرية المبتكرة . وكان الناس ينظرون الى طبقة المغنين نظرة احتقار وان كانوا يستمعون بغنائهم في حفلات العرس التي تنظم في بيت العريس وفي مجالس الغناء بالمنتزهات العامة . وكان الرجال المهذبون يحاولون التستر على ممارستهم للغناء ويميلون الى قراءة القرآن والمقامات العراقية والتنزيلات الدينية والمدائح النبوية في مجالس الموالد وفي حلقات الاذكار في التكايا . وكان الناس يعدون تسجيل الصوت على الاسطوانات امرا منكرا ولاسيما عندما يكون المغني من قراء المواليد . لذا فأن قيام الملا طه بتسجيل صوته على الاسطوانات عد في ذلك الوقت عملا مشينا ومخالفا لاعراف الناس وتقاليدهم .
وللموضوع حكاية , هاكم مخلصها :
في سنة 1925 أصيب ابن الملا طه المدعو ( جلال ) البالغ من العمر عشر سنوات بالتيفوئيد . وقد عجز أطباء كركوك من معالجته . فأخذه والده الى بغداد لعرضه على اخصائيين .. وصادف ان جاء في ذلك الوقت الى بغداد شركة المانية لتسجيل الاسطوانات هي ( بيضافون كومباني ) لاصحابها بطرس وجبران بيضا . فكانت تتحرى عن القراء والمطربين لتسجيل المقامات العراقية والاغاني المحلية على الاسطوانات لقاء اجور مغرية تدفعها لهم .. وحاول اصحاب هذه الشركة كثيرا مع الملا طه لتسجيل المقامات العراقية والاغاني المحلية التي كان يجيدها وأغروه بثمن لا بأس به . الا انه رفض في باديء الامر طلبهم . وكان همه منصرفا الى ابنه المريض .. على انهم عادوا والحوا عليه واقنعوه بأنهم سوف يعرضون ابنه على طبيب الماني مختص وتعهدوا بمعالجته . فوافق الملا علي الغناء . وجلس برفقه التخت الموسيقي امام الميكروفون ليسجل في يوم واحد ثلاثا واربعين اسطوانة تتضمن اربعين مقاما عراقيا وبضع بستات محلية وانواعا من العتابة . فضرب بذلك رقما قياسيا في عدد الاسطوانات التي سجلها المطربون العراقيون في تلك السنة وكذلك في عدد المقامات التي غناها على الاسطوانات . وكان الاستاذ محمد القبانجي قد سجل في ذلك الوقت اربعا وعشرين اسطوانة ونجم الشيخلي ثلاث عشرة اسطوانة ورشيد القندرجي عشر اسطوانات فقط .
واما المقامات العراقية التي سجلها الملا طه على الاسطوانات في ذلك الوقت فهي : ابراهيمي , افشار عجم , اورفه ( ويسمى هذا المقام في كركوك بالديوان ) , وبشيري ( وهذا من مقامات القوريات ويشبه مقام الراشدي تمام تمام الشبه ) , بيات تركي , بنجكاه , بنجكاه عجم , بهرزاوي , جبوري , جاركاه , حجاز ديوان , حديدي , حسيني , حكيمي , حليلاوي , خانابات عجم , راست تركي , راست عربي , سيكاه , شرقي , شرقي اصفهان , شرقي دوكاه , شور عجم , صبا , طاهر , عريبون عجم , عشيران , عمر كله ( وهذا من مقامات القوريات ) , قره باش ) وهذا ايضا من مقامات القوريات ) , قزازي , قطر عجم , قوريات ( من مقام عيده له ) , ماهور , مثنوي , مخالف كركوك , مدمي , محمودي , مقابل , منصوري , ونوى ....
ويلاحظ ان بعض المقامات التي غناها , لايبدأها بلحن هادئ مترنج وصوت واطئ عريض كما تقتضيه طبيعة ذلك المقام , مثل الراست التركي الذي غناه دون تحرير . ولعل مرد ذلك هو قصر الفترة المحدودة لكل اسطوانة وهي سبع دقائق في حين ان قراءة مقام الراست بصورة كاملة تستغرق وقتا اكثر من ذلك بكثير ...
كان المرحوم الملا طه قد ذكر لي بأنه عندما اكمل تسجيل المقامات العراقية طلبوا منه ان يقرأ مقام الراست العربي ايضا وكان التعب قد انهكه , فأعتذر عن قراءته حتى انبرى احد المغنين الحاضرين قائلاً : ان اهل الشمال لايجيدون مقام الراست , اتركوه لنا , فنحن البغداديون اقدر اهل الشمال لايجيدون مقام الراست , اتركوه لنا , فنحن البغداديون اقدر على غنائه من غيرنا .. وعندما سمع هذا الكلام ثارت ثائرته ووافق على طلب الشركة بغناء الراست العربي . واخذ يعلو فيه الى الطبقات الصوتية العليا مما ادى الى حصول اهتزاز شديد في آلة التسجيل حتى سمع فيها صوت كسر , فتوقف الجهاز عن العمل . وقال اصحاب الشركة ان ابرة الماس للجهاز قد كسرت من شدة الاهتزاز الحاصل بسبب قوة اداء المغني . وذكروا بأن هذا الحادث قد حصل لاول مرة في تاريخ تسجيل الاسطوانات !..
وربما كان هذا الحادث صحيحا وواقعا بعينه او انه كان من صنع الشركة نفسها لاجل الدعاية . فقد نعلم انهم كانوا يذيعون بين الناس قصصا واخبارا مبالغا فيها عن المغنين لترويج بضائعهم من الاسطوانات والحاكيات ....
وكانوا ينادون الملا أثناء الغناء بـ ( بلبل العراق ) احيانا لنفس الغرض .
ومهما يكن من شيء فأن الملا طه قارئ مجيد له المام تام بفنون المقامات العراقية واصول الغناء , وكانت له تجارب وخبرات سابقة في غناء المقامات بصحبة الآلات الموسيقية المختلفة قبل الاقدام على تسجيل تلك الاسطوانات في سنة 1925 , والا لما كان يقدر بتمارين قليلة على مصاحبة العازفين والانسجام التام مع الموسيقى ومن ثم تسجيل تلك المجموعة الضخمة من المقامات في يوم واحد بصحبة فرقة موسيقية كاملة .. لقد امتاز الملا طه بحلاوة صوته وتموج نبراته . فكان يملك حنجرة قوية يتمكن بوساطتها من اداء شعب المقامات واوصالها وقراراتها واجوبتها على اتم وجه واكمل صورة .. لقد دفعت له الشركة مبلغا قدره اربعمائة روبية , اي ما يعادل ثلاثين دينارا ثمنا لهذه التسجيلات . لكنها عادت تبيع الاسطوانات الواحدة بليرة ذهب رغم ان سعرها المقرر كان بمبلغ روبيتين ونصف الروبية اي ما يقارب من ربع دينار ..
مصير تلك الاسطوانات :
لقد شفي ابن الملا المريض على يد طبيب الماني في بغداد , ولما كبر أخذ يمتعض عن سماع صوت والده على الاسطوانات لاسباب تتعلق بتقاليد المجتمع وعاداته . فأخذ يبحث عن هذه الاسطوانات في المقاهي ويكسرها اينما وجدت بعد دفع ثمنها الى اصحابها مضاعفا . وكان عمله هذا يقابل بالاستحسان من الجماهير .
فأزال بذلك من الوجود عددا لايستهان بها من تلك الاسطوانات . ورغم انه كان يقدر قيمة فن والده , الا انه عجز ان يقف امام الاعتبارات الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت مكتوف اليدين .
وهناك عامل ثان ادى الى اختفاء عدد آخر من تلك الاسطوانات هو قيام صناع الخناجر في كركوك بشراء الاسطوانات القديمة وبضمنها اسطوانات الملا طه لصهرها في بودقة العمل تمهيدا لاستعمالها في صناعة الخنجر . .
ورغم كل ذلك فقد بقي عدد غير قليل من تلك الاسطوانات متواجدا في البيوتات القديمة ومحفوظا لدى بعض عشاق المقامات العراقية . كما ان هناك اشرطة تسجيل متداولة بين الناس لبعض تلك الاسطوانات ..