الصحاف وربابة ملا ضيف الجبوري
إبراهيم الزبيدي
شكا لي كاتب عراقي صديق من بؤس حال الإعلام العراقي الذي تحول إلى إعلام تمجيدي لا يختلف سوى بالمظهر الشكلي عن إعلام البعث أيام الصحاف.
وبالفعل، يتوهم كثيرون من الحكام الجدد فيسمون الفوضى الصحفية والتلفزيونية والإذاعية الطائفية والحزبية والعشائرية السائدة في العراق اليوم حرية صحافة وحرية رأي وحرية تعبير. ولا يرون كيف حاد الإعلام، على أيامهم، عن رسالته المقدسة الحيوية، فلم يصبح سلطة رابعة حقيقية، لها هيبة السلطة وقوة فعلها وجبروتها، بل تحولت الفضائية والإذاعة والصحيفة إلى ربابة تنافق الحاكم، وتمسح أكتافه، وتعيش على مكارمه وعطاياه، وأصبح الإعلامي شحاذا ذليلا على أبواب هذا أو ذاك من أصحاب السلطة الحكومية أو الحزبية أو الدينية، وحوصرت في هذا الزحف الجرادي المخيف القلة القليلة من أجهزة الإعلام المستقلة الشجاعة النزيهة، وهمشت القلة القليلة من الإعلاميين الشرفاء.
وما يحدث اليوم على الساحة اليوم لا يختلف كثيرا عما كان سائدا أيام محمد سعيد الصحاف. فهو أيضا جعل تلفزيون الدولة العراقية وإذاعاتها ربابة تشبه إلى حد كبير ربابة ملا ضيف الجبوري، وظيفتـُها فقط دغدغة ُ غرور الحاكم، وتلبية شطحاته المزاجية التي تخالف في أحيان كثيرة رغبات الأمة ومزاجها وحاجاتها، بل حتى مباديء حزب البعث الحاكم نفسه. ولا تفسير لسلوك الصحاف ذاك، وسلوك من حل محله اليوم في قيادة إعلام العراق الجديد سوى الانتهازية والوصولية، ولا شيء غير ذلك.
وبهذه المناسبة أروي لكم هذه الحادثة، من أيام عملي في إذاعة وتلفزيون بغداد.
في السنة الأولى من حكم البعث كان الرئيس أحمد حسن البكر مولعا بالغناء البدوي بمصاحبة الربابة.
وكان، كل يوم تقريبا، يزعجنا بمزاجه ذاك، ويربكنا كثيرا، فيطلب منا إلغاء جميع البرامج المقررة، في وقت الظهيرة، وإذاعة أغاني (ملا ضيف الجبوري) بدلاً منها.
بعد مدة زارنا صدام، واجتمع برؤساء أقسام الإذاعة والتلفزيون في الصالة الكبرى الواقعة فوق الكافيتريا. كان يومها ما يزال في أول سلم السلطة، غير معروف من قبل كثيرين من الناس العاديين، ومن بعثيين كثيرين أيضا. كان شاغله الشاغل آنذاك أن يحمل الناس على اعتياد زعامته، واعتباره الرئيس القادم، وهذا لا يتأتي إلا بعاملين اثنين، الأول مزيد من الجدية والصرامة والعبوس وتصنع الوقار، والثاني عكس ذلك تماما، شراء حب الناس بالهدايا والعطايا وتصنع طيبة القلب والمحبة والعطف وتلبية مطالب الفقراء والمحتاجين.
بدأ هو الاجتماع فطلب منا أن نعرض مشاكل الإعلام والعقبات، بصراحة ودون محاباة. وألح على ألا نتهيب أو نتردد في مصارحته بكل شيء، باعتبارنا قادة السلطة الرابعة- على حد قوله. فنهض رئيس قسم الريف في الإذاعة، وكان بعثياً مستجدا، فخاطب صدام قائلاً: أبو عدي. فرد عليه صدام، بغضب: أنا لست أبا عدي. فاستدرك قائلا: رفيق صدام. فرد عليه: لسنا في اجتماع حزبي لتناديني بـ (رفيق صدام). فاحتار كثيرا، ثم قال: أستاذ صدام. فرد عليه: أنا لست أستاذا. فازداد ارتباكه، فتطوع الصحاف وأنقذه من حيرته، قائلا: قل: السيد النائب، فقال: سيادة النائب. عند ذاك رد عليه صدام بابتسامة خفية: تفضل.
بعده نهضت أنا، فابتسم ابتسامة عريضة وقال: ماذا عندك يا إبراهيم؟ قلت: إن مشكلتنا في الإذاعة بسيطة ولن يحلها سواك. وأكملت: أنت تعلم، يا سيادة النائب، بأننا نخطط لبرامجنا، مسبقا، ونرسم لها الجداول والمناهج، ونعلنها على الناس بشتى وسائل الإعلان، قبل مدة طويلة، ونلتزم بتنفيذها في مواعيدها، وكما كانت مقررة من قبل. لكن، أخيرا صار يأتينا نداء هاتفي من خارج المؤسسة، يومياً تقريباً، وأحياناً بين يوم ويوم، يطلب إذاعة غناء ملا ضيف الجبوري على الربابة، فنلغي ساعة أو أكثر من برامجنا الثابتة، ومنها نشرة الأخبار الرئيسية التي يترقبها الكثيرون.
توتر الجو. واشتد غضب الصحاف علي، وشعرت بضيقه، فأنا في نظره دخلت في المحذور وفضحت مسألة يعتبرها هو من أسرار الدولة. لكن صدام بدد ذلك التوتر على الفور وقال آمرا: لا تفعلوا أي شيء من هذا القبيل بعد اليوم. وحين يكلمكم (الأب القائد) - ويقصد رئيس الجمهورية - قولوا له إن فلاناً (ويقصد نفسه، تواضعا) سوف يتدبر الأمر.
من ذلك اليوم أصبحت طائرة هليوكبتر تطير يوميا من بغداد إلى كركوك لتأتي بالملا ضيف الجبوري ليغني للرئيس، ثم تعيده في المساء إلى حيث يعمل في شركة نفط العراق، لأن الملا كان يرفض بشدة مغادرة كركوك والانتقال إلى العاصمة، رغم أن تلك كانت رغبة رئيس الجمهورية دون سواه. ولم يعد أحد ذلك اليوم لم يتصل بنا أحد من القصر الجمهوري لنلغي برامجنا المقررة ونذيع مكانها وصلة من ربابة ملا ضيف.
لم يكن يعرف الصحاف في أواخر عام 1968 إلا قلة جدا من العاملين في الإذاعة والتلفزيون، حين عين مديرا لإذاعة القوات المسلحة. رأيته أول مرة يتجول في أروقة إذاعة بغداد، مرتديا بزته العسكرية برتبة ملازم احتياط. بدا لي في تلك الجولة كمن يفتعل العنجهية قاصدا إرهاب العاملين في إذاعة القوات المسلحة، وأغلبهم مثقفون وشعراء وممثلون ومطربون دخلوا القوات المسلحة، إما بصفة جنود لعدم إكمالهم دراسة الثانوية، أو كضباط احتياط، حسب أحكام القانون الذي يفرض على خريجي الجامعة الخدمة في الجيش لفترة محدودة. فقد كان يضع على وجهه تكشيرة مفتعلة، ويهز عصاه بقوة. ولأنه كان مقربا من السيد النائب فقد فوجئنا ذات صباح بتعيينه مديرا عاما للإذاعة والتلفزيون، رغم أن رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر كان يمقته بشدة، فطرده أكثر من مرة، ثم أعاده صدام.
في 23 شباط/فبراير1971 دعينا لحضور مؤتمر الإذاعات العربية الذي عقد في مدينة العين في إمارة أبو ظبي. فتألف وفد العراق برئاسة الصحاف، وعضوية رشيد شاكر ياسين مدير التلفزيون وسعد لبيب مدير معهد التدريب الإذاعي، وخالد الحكيم مدير الشؤون الهندسية، وإبراهيم الزبيدي مدير إذاعة بغداد، وعبد الغني عبد الغفور مدير إذاعة صوت الجماهير، ود.علي المشاط رئيس اللجنة الفرعية للربط التلفزيوني بالشبكات الأرضية والأقمار الصناعية، ونزار السامرائي مدير الأخبار.
في الجلسة الأولى تقدم وفد البحرين باقتراح التحول من التلفزيون الأسود والأبيض إلى التلفزيون الملون. وكانت البحرين قد بدأت فعلاً تجربة البث الملون. فكان وفدنا معارضا للفكرة، باعتبار أن التحول من الأسود والأبيض إلى الملون يتطلب إعداد الكوادر الفنية اللازمة، لإتقان العمل بالطريقة الجديدة. ونحن لم نكن مستعدين لمثل هذا التحول غير المدروس. ولوحظ أن الكفة توشك أن تميل نحو القبول باقتراح البحرين، مع منح المحطات المجاورة، وخاصة العراق، فترة كافية لإعداد كوادرها الفنية، قبل شراء الأجهزة والمعدات الخاصة بذلك.
كانت المشكلة بالنسبة لنا مالية بالدرجة الأولى، إضافة إلى جوانبها الفنية. فرصد التمويل المالي الضخم لتجربة من هذا النوع كان عملية ليست سهلة علينا مثلما هي على دول الخليج الغنية.
وأذكر أن وكيل وزارة إعلام خليجية للشؤون المالية والإدارية كان أسود داكن اللون، وكان أكثرَ المطالبين بالتحول إلى التلفزيون الملون عناداً ومجابهة لوفد العراق. فما كان من الصحاف إلا أن طلب الكلام، فقال موجها خطابه لأخينا الوكيل: لماذا تصر على الألوان؟ إن كل ما تحتاج إليه هو لونان: لون ثيابك البيضاء ولون وجهك الأسود! فأحدث بتلك البذاءة صدمة في أجواء المؤتمر، عوقب عليها جميع أعضاء الوفد العراقي بالمقاطعة والنبذ والازدراء، إلى أن انتهى الاجتماع، وغادرنا مدينة العين.
ثم طال بنا الزمن فرأينا طه الجزراوي يقذف أمير الكويت الحالي، وكان وزير خارجية الكويت، بصحن على طاولة اجتماع وزاري عربي، بعد غزو الكويت. ثم رأينا عزة الدوري يشتم وزيرا كويتيا في مؤتمر قمة عربي بما لم نشهد له مثيلا في تاريخ الديبلوماسية العربية الطويل.
وبالتدقيق في شخصيات البعثيين القلائل الذين اتخذهم صدام بطانة خاصة مقربة منه جدا، وظلت لصيقة به إلى آخر أيامه، يتضح أنه كان يحب ويحترم فقط من يتصف بالعنف والقسوة والخشونة في الكلام والسلوك، ومنهم الصحاف وطه الجزراوي وعزت الدوري وعبد الغني عبد الغفور وناظم كزار وسعودن شاكر وبرزان ومحمد فاضل وغيرهم، في حين أبعد، أو تخلص (بعبارة أصح) من بعثيين آخرين عُرفوا بالليونة والكياسة، ومنهم شاذل طاقة وصلاح عمر العلي وعبد الخالق السامرائي وشفيق الكمالي، وغيرهم.
فإذا كنا نعيب على صدام حسين دكتاتوريته وطائفيته وعشائريته، وثرنا على اعتماده سياسة تسليط المزورين الملفقين المنافقين الانتهازيين على أجهزة الدولة، ومنها وفي طليعتها الإعلام، فما بالنا، ونحن دعاة الديمقراطية والعدالة وسلطة القانون، نرتكب اليوم بحق الوطن والمواطن مساخر مخجلة أكثر من مساخر صدام حسين، فنضع على رأس إعلام الوطن منافقين أكثر نفاقا من الصحاف، وأشد انتهازية منه ومن أمثاله من أعضاء القلة القليلة من أعضاء بطانته الفاسدة، والعياذ بالله؟؟؟