كانت الساعة التاسعة صباحاً , حينما أعلنت أبواق الحافلة (الصغيرة) انطلاق الرحلة نحو الوطن .. و بدأت سنوات الأحدَ عشر تمرّ أمام عيني مع بداية المسير... إلى أن قطع حبل أفكاري , صوت السائق يُعرّفنا (بمكبّر الصوت (الميكرفون)) عن اسمه : ((سلّوم عيسى !!)) .. ثم عرض لنا معلومات عن الرحلة ... و في هذه الأثناء , اقترب مني مساعده : حيث كان شاباً طويلاً قوي الجسم في الثلاثينات من عمره , يضع نظارات طبّية , فبدى لي كرجلٍ مثقف اكثر من كونه مساعد حافلة !
و قدّم لي تذكرتي و هو يقول :
- رحلة سعيدة يا آنسة !!
- بإذن الله , و شكراً لك
و بعد ان اخذت التذكرة , صرت أتأمّل رفقاء الرحلة , خاصة ان عددهم لا يتجاوز العشرين فرداً .
ففي المقدمة : جلس السائق و مساعده .. حيث بدى سلّوم كرجل في نهاية الخمسينات او اواسط الستينات , خفيف الشعر مائل للبياض مُقطّب الجبين , يضع سيجارة في فمه .. لكنه أثار في نفسي بعض الخوف , حين تلاقت أعيننا (بعد أن نظر إليّ من خلال مرآته) مما جعلني التفت لبقية الركاب .
أما في المقعد الذي امامي : فجلس رجل قدمه ملفوفة بالجبيرة , تساعده زوجته .. و في نفس الصف , جلس ابنيهما : الأول في الحادية عشر و الثاني بحدود الثماني سنوات , لكن يبدو إنه بسيط عقلياً ! و كان يلعب بلعبته الكترونية ..
و جلست بجانبي (قرب النافذة) اختيهما (ذات السبع سنوات) و إسمها : ريم .. اما بجانب مقعدينا : فجلس رجلان في اواسط العمر , و كانا يتحدثان بأعمالهم التجارية .. و خلفهما (في وسط الحافلة) : جلست إمرأة عجوز , تاركة عصاها بجانبها .. اما خلفي (بصفّين من المقاعد) : جلست صبيتان .. و في المقاعد الأربعة الأخيرة للحافلة : يوجد رجلٌ عجوز و امامه ثلاثة شبان , كانوا يضحكون بصوتٍ عالٍ .. أما في نهاية الحافلة عند المقعد الطويل : فكان عليها فراش السائق , لأخذ راحته وقت تبادل القيادة مع مساعده .
و قد انطلقت رحلتنا مع نغمات الموسيقى الهادئة , مما جعل الكثير منا يخلد للنوم .. اما انا , فكنت اتأمل السائق و مساعده و هما يتحدثان بصوتٍ منخفض .. لكن فضولي و كثرة قراءتي للقصص البوليسية جعلني أتوهم إن علاقتهما يشوبها الغرابة ! فأنّصت لحديثهما , و كان من بين ما سمعت : (( انت السبب !! اسكت !! هذا قدرك ! انا احق منك !!)) كلماتٌ غريبة ! لكن لم يسعفني الوقت لأفكر فيها , فقد غلبني النعاس .
عند الساعة الحادية عشر ظهراً .. إستيقظنا جميعنا على اثر مشاجرة عنيفة حدثت بين السائق سلّوم و بين احدَ الشباب (في الخلف) , و عرفت لاحقاً : ان الشاب حاول مضايقة العجوز (الذي يجلس بجانبهم) مما اغضب سلّوم فصار يسبّ و يلعن الشاب .. فبادره الشاب (الذي إسمه صالح) بالشتائم أيضاً , و لم يحنّ وقتٌ طويل حتى تشابكت الأيدي ! و قام بعض الرجال لتهدئة الموقف , مما اضّطر جمال لإيقاف الحافلة امام سيارة للشرطة (متوقفة بجانب الطريق) .. ثم نزل وهو يقول :
- مشاجرة في الداخل !!
فركض الشرطي الى داخل الحافلة .. و قام على الفور !! بصفع صالح بقوة , جعلته يفقد صوابه , فصار يسبّ الشرطي و يلعنه .. فمسكه الأخير من يده و ارغمه على النزول... و كان الموقف على وشك التصاعد لدرجة اعتقاله , الاّ ان الجميع حاولوا حل الموقف .. و قد نجحوا بعد ساعة و نصف من بدء المشاجرة ! و عاد الجميع الى مكانه ..و منهم صالح , الذي عاد و نظرة الإنتقام ظاهرة في عينيه !
فيالها من رحلة مشوقة !
#يتبع