الحروب والظاهرة الإجرامية كمياً :
على المستوى الكمي خلص الباحثون إلى أن نسبة الإجرام تنخفض بصفة عامة فى الفترة السابقة على الحرب ، كما يستمر هذا الانخفاض فترة من الزمن عقب بدء القتال . وكثيراً ما يرجع الباحثون هذا الانخفاض إلى ظروف التعبئة العامة للرجال والشباب واستعدادهم لمعارك القتال ، وهم الفئة الأكثر بين المجرمين ، وإلى تهيئة الشعور القومى تجاه دفع خطر محدق بالبلاد وتجاه نصرة الوطن ضد الأعداء . فالشعور بالتضامن الاجتماعي تجاه الخطر المحدق بالبلاد يصهر المجرمين وغير المجرمين في بوتقة واحدة ، فيحجم المجرمين عن تنفيذ مشروعاتهم الإجرامية [14]. ويرجع البعض أيضاً هذا الانخفاض إلى استدعاء بعض المجرمين للسلاح فلا تظهر جرائمهم في الإحصاءات ، فضلاً عن التفكك الذي يصيب جهاز الشرطة والمحاكم لظروف الاستدعاء للحرب فيقل معدل القبض على المجرمين فلا تظهر جرائمهم ضمن الإحصاءات الجنائية. كما أن ظروف الحرب تخلق فائضاً في عروض العمل ذات الأجر المرتفع من جانب الصناعات التي تخدم المجهود الحربي فتقل أو تنعدم البطالة.
ومن ناحية أخرى لاحظ الباحثون أن معدل الإجرام يأخذ فى التصاعد عقب بدء القتال بفترة من الزمن إلى أن يصل إلى مداه قبل انتهاء الحرب أو بعد ذلك بزمن ما .
ويعلل الباحثون ارتفاع معدل الإجرام أثناء الحرب ذاتها بعدة أسباب : فمن ناحية تكثر فرص ارتكاب الجرائم نظراً لكثرة القوانين التي تنطوي على حظر لبعض الأنشطة التي كانت معتادة قبل الحرب ، مثل القوانين التي تتعلق بالتسعيرة وتوزيع المواد الغذائية ورقابة النقد. كما تكثر الجرائم المرتبطة بالسوق السوداء Marché noir والجاسوسية والخيانة.
كما أن ظروف الحرب تخلق أحيانا تفككاً اجتماعياً ناشئ عن وفاة أو إصابة أو أسر عائل الأسرة ، كما أنه يصاحب تلك الظروف نقص في توجيه الآباء لأبنائهم أو هجرهم فلا يستطيعون مقاومة مغريات الإجرام. هذا فضلاً عن أن الحرب حينما تؤدي للاحتلال أراضي الدولة تخلق جروحاً معنوية لدى الشعب تؤدي إلى فقد التوازن وكره للحياة واستسهال الموت بعد أن أصبح شائعاً. ولقد لوحظ أبان الحرب العالمية الثانية ارتفاع معدل الجريمة في السنوات الأولى من الحرب في كل من انجلترا وفرنسا ، وفي سنوات 1942-1943 في كل من بلجيكا والدنمرك والنرويج وهولندا ، نتيجة ما حققه الألمان من انتصارات في تلك الفترة.
وحينما تضع الحرب أوزارها يعود معدل الإجرام إلى الارتفاع مرة ثانية حتى يصير أعلى مما كان عليه قبل الحرب. وهذا الارتفاع يرجع إلى عدة أسباب : ف غالباً ما تؤدى الحروب إلى تدهور اقتصاد البلاد ، وذلك نتيجة ضخامة الأنفاق العسكرى ، وتوقف الإنتاج أثناء الحرب ، فضلاً عما تعانيه المنشاَت والمشروعات المتبقية بعد الحرب من نقص الأيدى العاملة نتيجة موت وإصابة الكثيرين فى القتال وهم فى الغالب من الذكور ذوى المهارات والخبرات الفنية . وعلى أثر ذلك تزداد الهوة اتساعا ً بين الطبقات ، فقلة من الشعب تجني ثمرة الحروب بينما يعانى ال كثرة من الفقر ، بما ي خلفه هذا الأخير من أثار سلبية سبق تناولها.
ويلاحظ أيضاً ما لنقص السلع الغذائية فى فترة الحروب وما بعدها ب فعل توقف الإنتاج المدني ، من آثار اقتصادية واجتماعية هامة . فمن الأفراد من يتقن التلاعب فى الأسواق ليكدس هذه السلع ثم يبيعها بسعر أعلى مما تحدده ال سلطات ، الأمر الذى يدفع بالكثير إلى سلوك سبيل الجريمة لسد احتياجاتهم أو للتعبير عن سخطهم على هؤلاء الأفراد أو على سياسة الدولة عامة . وإذا عمدت الدولة إلى فرض قوانين تواجه بها مثل هذه الحالات كقوانين التموين والتسعيرة الجبرية كان ذلك فتحاً للباب أمام إجرام جديد ، حيث تزداد فرصة انتهاك تلك القوانين.
وكثيراً ما يترتب على الحروب ظهور اضطرابات عصبية ونفسية لدى كثير من الأفراد عقب تسريحهم من الخدمة العسكرية نتيجة ما واجهوه من أهوال أثناء القتال. ولا يخفى أن تسريح هؤلاء وقد فقدوا عملهم السابق أو أصبح متعذراً الحصول على عمل في تلك الظروف يدفع بالبعض منهم إلى تأليف عصابات للسطو والسرقة وقطع الطريق ، خاصة وأن هم ق د تشرب وا بروح العنف والشراسة خلال المعارك وتلقوا تدريباً عسكرياً واكتسب وا لياقة بدنية تسهل عليهم ارتكاب الجرائم .
كما أن فى أعقاب الحروب ت ضعف قبضة السلطة العامة على زمام الأمور فى البلاد ، إذ تكون منشغلة بإصلاح ما أفسدته الحرب وبإعادة تنظيم شئونها مما يشجع الأفراد ذوى التكوين الإجرامي أو الاستعداد الكامن للإجرام على أن يطلقوا نزعات هم وميول هم الإجرامية بلا ضوابط فى كل اتجاه.
180- ثانياً : الحروب والظاهرة الإجرامية نوعياً :
علي المستوى النوعي من الملاحظ أن الحرب لا تحدث أثرها على السلوك الإجرامي بالنسبة لكل طوائف الجرائم وكل فئات الشعب بكيفية واحدة .
فقد تبين أن هناك جرائم ترتفع معدلاتها عن غيرها. ففي نطاق جرائم الأموال تكثر السرقات خاصة المقترنة بعنف حيث تنتقل عدوى العنف من الحرب إلى الحياة العادية. وتبعاً لذلك تزيد معدلات جرائم إخفاء الأشياء المتحصلة من سرقات. في حين يقل معدل جرائم النصب وخيانة الأمانة والغش التجاري.
وفي نطاق جرائم الأشخاص فقد لوحظ ميل معدلاتها نحو التراجع على أثر الحرب ، حيث تعد هذه الأخيرة متنفساً للميول العدوانية. وهو ما يصدق بشأن الجرائم الجنسية حيث تفرض الحرب جواً مليئاً بالإحباط والاكتئاب واضمحلال في القوى البدنية.
وعلى النقيض من ذلك فإن هناك جرائم ترتفع معدلاتها على أثر الحروب منها الجاسوسية والخيانة وجرائم النقد والجرائم التي تقع بالمخالفة لقوانين التسعيرة والتموين. و كثيراً ما تقع جرائم سياسية فى أعقاب الحروب ، يعبر بها البعض عن سخطهم على الحكومة فى سياستها أثناء الحرب .
ومن الملاحظ أيضاً في هذا الصدد أن الحروب يختلف تأثيرها الإجرامي باختلاف طوائف المجرمين.
ف تدل الإحصاءات الجنائية على أن نسبة جرائم الأحداث تميل إلى الارتفاع أبان الحروب ويعلل ذلك ب انتقال عدوى العنف من الجنود إلى الصغار على أثر إعجاب هؤلاء ب الجنود وتقليدهم لأفعال الحرب من خلال صنع نماذج لأسلحتها يلهون بها . ومن شأن هذا أن يوجههم إلى العنف الذى يمكن أن يت رسخ فى طباعهم وي دفعهم في وقت ما إلى ارتكاب جرائم الأشخاص . فضلاً عن أن ال صعوبات ا لا قتصادية المترتبة على الحرب تكون أشد وطأة على الأحداث ف يتجهو ن إلى ارتكاب جرائم الأموال ، وخاصة السرقات البسيطة. ولا يخفى ما يمكن أن يترتب على الحروب من تصدع عائلى يكون بذاته عاملاً إجرامياً سبق وأن تناولنا ه.
وتكشف الإحصاءات عن ارتفاع معدل إجرام النساء أبان الحروب . ويعود ذلك إلى اضطرارهن للنزول للعمل لتدبير احتياجات الأسرة فتكثر السرقات والجرائم الجنسية منهن. فضلاً عن ارتفاع معدلات الإجهاض وقتل الأطفال حديثي الولادة نتيجة خشية المرأة من صغارها فيما بعد يعانون ويلات الحرب.
وعلى العكس من الفئتين السابقتين فإن معدل إجرام البالغين من الذكور ينقص بشكل ملحوظ في فترات الحروب. ويفسر ذلك استدعاء الكثير من الشباب في صفوف الخدمة العسكرية ، فضلاً عن انشغال الرجال بتدبير جماعات المقاومة إذا ما تعلق الأمر باحتلال أراضي الدولة.