التعليم والسلوك الإجرامي
لا يقصد بالتعليم L’éduction في مجال الدراسات الإجرامية مجرد تلقين مجموعة من المعلومات عن طريق القراءة والكتابة ، أي ما يسمى عملية محو الأمية ، وإنما المقصود هو مجمل عملية التعليم بما تشمله من تهذيب وتربية وتلقين للقيم الأخلاقية والدينية والتدريب على الطاعة وخلق روح التعاون بين الأفراد [7].
وفي صلة التعليم بالسلوك الإجرامي ، ساد الاعتقاد بأن التعليم يترتب عليه انخفاض معدل الظاهرة الإجرامية وأن الأمية محرك أساسي من محركات الإجرام ، وهكذا ظهرت مقوله فيكتور هيجو Victor Hugo الشهيرة "إن فتح مدرسة يعدل إغلاق سجن". فالتعليم عامل مضاد للإجرام ، لما يبثه في نفوس الأفراد من قيم ومعارف ودعمه للقدرة الفردية على مواجهة الحياة وحل المشاكل والتبصر بالحقوق والواجبات. كما أن التعليم يبدد الاعتقاد في الخرافات ، مما يحول بين الفرد وبين وقوعه فريسة بين يدي المحتالين والنصابين ، أو دفعه نحو الجريمة تحت تأثير الخرافات التي تسود في بيئته. كما ينمي التعليم قدرات الفرد وخبراته ويدعم مواهبه فيسهل بالتالي من فرص الحصول على العمل الشريف المجزي ، فيقاوم الفرد على أثره الآثار السلبية للفقر والبطالة. وبالجملة فإن هذا الرأي يميل إلى القول بأن الصلة بين التعليم والسلوك الإجرامي علاقة طردية.
وهذا بالفعل ما أثبتته دراسة أجريت على الشباب الجانح في مصر والذين تتراوح أعمارهم بين 15-25 سنة ، والذين أودعوا السجون في الفترة من أول نوفمبر 1962 حتى آخر أكتوبر 1963 ، إذ تبين أن نسبة الأميين بينهم بلغت 76% ، ونسبة من يعرف الكتابة والقراءة 23% ، أما الحاصلون على شهادات فكانت نسبتهم 0.5% ، بينهم 0.3% من حملة الشهادة الإعدادية و0.2% من حملة الشهادات المتوسطة ، وفرد واحد من حملة الشهادات العليا [8].
كما تؤكد إحصاءات عام 1982 في مصر أن عدد الأميين بين المتهمين في جنايات بلغ 1490 متهماً من أصل 2574 متهماً ، تلاهم فئة الحاصلين على مؤهل ثانوي (136 متهماً) ، والحاصلين على الإعدادية (36 متهماً) ، والحاصلين على مؤهل عال (51 متهماً).
ولا يغير من تلك الحقيقة في رأي أصحاب هذا الاتجاه ما دلت عليه بعض الإحصاءات في فرنسا من أن نسبة الإجرام لم ينالها أي تغير خلال الفترة من 1851 إلى عام 1930 رغم انخفاض معدل الأمية بنسبة 90%. ذلك أن هذا يشهد بفساد أساليب التعليم التي اتبعت طيلة هذه المدة واقتصارها على التلقين المعرفي من كتابة وقراءة دون عناية بغرس القيم الخلقية والمثل العليا في النفوس.
في حين مال أنصار المدرسة الوضعية إلى القول بأن ارتفاع مستوى التعليم لا يفلح في الإقلال من النسبة العامة للإجرام. ذلك أن الجريمة في النهاية هي ثمرة تكوين إجرامي عضوي أو نفسي موروث ، ولا يمكن للتعلم أن يتأصل هذا التكوين الموروث ، بل يمكن للتعليم أن ينمي هذا التكوين الكامن في الفرد بأن يمد هذا الأخير بأفكار وخبرات يستعين بها في إيقاظ هذا الميل الفطري للإجرام. ولعل هذا هو السبب الذي يجعل لومبروزو يعارض فكرة التعليم داخل المؤسسات العقابية.
والواقع أننا لا نفهم إذا ما أخذنا بهذا الرأي علة التعليم عندئذ. فحيث لن يفلح التعليم في الحد من الجريمة ففيما الإقبال على التعلم. فمن المؤكد أن الميل للإجرام الكامن تخف حدته مع ما يقوم به التعلم من دور في تهذيب نفوس الأفراد ودفعها للتمسك بالقيم والمثل العليا وتدعيمه القدرة على ضبط النفس. وكما سبق القول فإن العوامل البيولوجية وحدها لا تكفي للدفع للجريمة متى لم يصادفها عوامل اجتماعية محفزة. فضلاً عن أن الأخذ بهذا الرأي يقعد الباحثين في مجال علم الإجرام والعقاب عن تلمس أسباب مكافحة الجريمة طالما أن الجريمة تظل أمر حتمي ولا مفر منه رغم ارتفاع مستوى التعليم الفردي والعام.
ولدينا أن الرابطة بين التعليم والجريمة ليست صلة حتمية ، فلا الجهل يوقع حتماً في الإجرام ، فكم من الجهلاء شرفاء ، ولا العلم ينأى بالفرد حتماً عن سبل الجريمة ، فكم ممن بلغوا أرقى مراتب العلم قد سقطوا في براثن الإجرام. ولعل هذا هو الذي يفسر استمرار المدارس والسجون جنباً إلى جنب عكس ما كان يأمله فيكتور هيجو.
ونرى من هذه الزاوية أن هناك رابطة مزدوجة تصل بين السلوك الإجرامي والتعليم ، فهذا الأخير قد يمنع من التردي في طريق الجريمة أو التعرض لها ، وأحياناً قد يدفع إلى ارتكابها.
فمن حيث أن التعليم قد يمنع من سلوك سبيل الجريمة أو التعرض لها ، فكما سبق القول فإن التعليم يبصر الفرد بحقوقه فلا يكون عرضة لأن يكون مجنياً عليه في جرائم كثيرة أهما النصب. كما أنه يجعل الشخص أكثر ميلاً إلى حل مشاكله بطرق مهذبة ومشروعة بعيداً عن العنف. كما أن الإيمان بالخرافات لا يجد سبيلاً سهلاً بين المتعلمين ، مما يحد من فرص الإجرام المرتبط بتلك الخرافات. كما أن الفرد عن طريق التعليم يمكن أن يتجنب خطر البطالة ويرتفع بمستواه الاقتصادي والاجتماعي ، فيتجنب بذلك اللجوء للطرق غير المشروعة للحصول على مورد يعينه على قضاء حاجاته الأساسية.
أما من حيث أن التعليم قد يدفع إلى ارتكاب الجرائم ، فيحدث ذلك إذا صادف التعليم شخصاً ذو ميل إجرامي موروث أو فطري فيحاول أن يستعين بما أكسبه التعليم من خبرات في ابتداع أساليب مبتكرة في ارتكاب وإخفاء جرائمه. ويصدق هذا على الأخص في عصرنا الحالي الذي شاعت فيه جرائم المعلوماتية والجرائم التقليدية (السرقة والنصب والتزوير) الواقعة بالأساليب الكمبيوترية التي تتطلب في شخص مرتكبيها درجة من التعليم تجعله قادراً على التعامل مع الآلة المعجزة المسماة بالحاسب الآلي أو "الكمبيوتر Computer ou Ordinateur ".
وحيث يدفع التعليم إلى ارتكاب الجرائم فالبين أنها غالباً ما تكون من نوع الجرائم القائمة على الحيلة والخداع ، كالنصب وخيانة الأمانة وإعطاء الشيك بدون رصيد والتهرب الضريبي والجمركي والتزوير وتزيف العملة والمسكوكات. وعلى ذلك يغلب بين الأميين جرائم العنف التي تعتمد على القوة العضلية من قتل وضرب وجرح والسرقة بالإكراه والحريق وتسميم الماشية ، وجرائم الشرف والاعتبار كالسب والقذف. وهذا بالفعل ما تؤكده بعض الإحصاءات الفرنسية التي أكدت أن 65.43% من مرتكبي جرائم القتل لم يبلغوا مستوى التعليم الأساسي وأن بين تلك النسبة 10.31% من الأميين. وبلغت تلك النسبة 79% من مرتكبي الجرائم الجنسية ، و69% من مرتكبي جرائم الإيذاء البدني.
وتشير إلى هذا أيضاً الإحصاءات في مصر عام 1982 ، إذ تبين أن الأميين يمثلون 776 متهماً من بين مجموع المتهمين في جنايات القتل (1155 متهماً) ، ويمثلون 203 متهماً من مجموع 351 متهماً في جنايات الضرب المفضي لموت ، و140 متهماً من أصل 210 متهماً في جنايات الضرب المفضي لعاهة مستديمة. في حين تقلصت نسبة الأميين بين مرتكبي جرائم الرشوة والتزوير وتقليد الأختام وتزيف العملة ، وكذا في جنح النصب وإصدار الشيكات بدون رصيد.
على أن يؤخذ في الاعتبار أن إجرام الأميين قد يرجع إلى عامل آخر ارتبط بالأمية ، كوجود عاهة في العقل أو مرض نفسي أو فقر أو تصدع أسري حال بين الفرد وبين التعلم. هنا لا تظهر الأمية كامل إجرامي ، بل إن الإجرام والأمية هنا نتيجتان لعامل واحد.
ا