يقصد بالتقلبات الاقتصادية الأزمات الطارئة التي تنتاب الاقتصاد القومي. وتتصف هذه التقلبات على العكس من التطور الاقتصادي بالسرعة وبكونها عارضة ولا تمكث طويلا ، غير أن أثرها ينعكس علي مجمل نواحي الحياة ومنها ب لا شك الظاهرة الإجرامية.

و لعل أهم التقلبات الاقتصادية صلة بالسلوك الإجرامي تقلب الأسعار ، وتقلب الأجور ، وتقلب قيمة العملة [5].
167- أولاً : تقلب الأسعار و السلوك الإجرامي :
قد يصادف الاقتصاد القومي أزمة عارضة تؤثر على معدل الأسعار ارتفاعاً وانخفاضاً ، نتيجة صعوبة تحقيق التناسب بين كمية المعروض من السلع وحجم الطلب عليها ، الأمر الذي يؤثر بدوره على معدل الظاهرة الإجرامية ارتفاعاً وهبوطاً. فلقد كشفت الدراسات الإجرامية التي أجريت في فرنسا وألمانيا وانجلترا عن وجود علاقة بين أسعار السلع الأساسية وبين جرائم الاعتداء علي الأموال ، حيث تميل نسبة هذه الجرائم إلي الارتفاع بارتفاع أسعار هذه السلع ، وتميل إلي الانخفاض بانخفاضها.

فارتفاع أسعار السلع ، وخاصة الأساسي منها ، يؤدي إلي زيادة تكاليف المعيشة بالنسبة لطبقة محدودي الدخل من صغار الموظفين والعمال ، م ما قد يدفع بعض أبناء هذه الطبقة إلي اللجوء إلي طرق غير مشروعة للحصول علي المال الكافي للإشباع الاحتياجات الضرورية.

كما أن ارتفاع أسعار السلع قد يؤدي إلي تحريك عوامل إجرامية أخري . ف ارتفاع الأسعار عادة ما يدفع المستهلك إلى الإقبال على السلع ال بديلة فينكمش الطلب علي ما ارتفعت أسعاره من سلع ومنتجات ، فيقل تصريف المعروض منه بما يهدد في نهاية الأمر بعض المشروعات بالإفلاس ، فيعمد المنتج إلي الإقلال من الأيدي العاملة لتخفيض النفقة الإنتاجية حتى يصمد أمام المنافسة مما يزيد من نسبة البطالة وما تؤدي إليه من مثالب .

ولا بد من الأخذ في الاعتبار أن ارتفاع الأسعار لا يحدث هذا الأثر السلبي في تحر ي ك مؤشر الجريمة إذا صحب هذا الارتفاع رفع في معدل ا لأجور والدخل الفردي ، ومن ثم ثبات القوة الشرائية للأفراد.
و قد يؤدي بالمثل انخفاض الأسعار إلي نتائج إجرامية أخري. فانخفاض الأسعار يرتفع مستوي المعيشة و يمكن عددا ً كبيرا ً من الأفراد من الحصول علي السلع اليومية ا لضرور ي ة بالطرق المشروعة ، مع بقاء نسبة من الدخل مكتنزة فيندفع الشخص على أثر تلك الوفرة المالية إلى إنفاقها على الملذات والشهوات فتزيد بذلك نسبة جرائم الاعتداء العرض ، وتناول المسكرات والمخدرات التي تضعف إرادته تجاه المؤثرات الخارجية.

كما أن انخفاض الأسعار قد يدفع أرباب الأعمال إلى خفض معدل إنتاجهم ، فيستغنون عن بعض من حجم العمالة فتزداد البطالة التي قد تودي بالفرد إلى السقوط في هوة الجريمة.

غير أن انخفاض الأسعار هذا لن يحدث هو الآخر أثره السلبي و نتائج ة الإجرامية إ ذا واكب ه خفض للأجور مما يعمل على ثبات القوة الشرائية ، مع عدم بقاء فائض دخل يثير في الفرد رغباته الآثمة .

168- ثانياً : تقلب الدخول و السلوك الإجرامي :
قد يصيب التقلب الدخول كما يصيب الأسعار. وتدل البحوث في مجال علم الإجرام إلى ارتباط الظاهرة الإجرامية عكسياً في كمها بتقلب الدخول ارتفاعاً وانخفاضاً. فقد لوحظ أن معدل جرائم الاعتداء على الأموال من سرقة ونصب وخيانة أمانة وإعطاء الشيكات بدون رصيد ، ومعدل جرائم العدوان على المال العام من اختلاس واستيلاء وتربح وغدر يرتفع بانخفاض الدخل الفردي .

كما ثبت أن ارتفاع الدخل الفردي يمكن الأفراد من شراء ما يلزمهم من سلع ضرورية وترفيهية ، مع إمكانية تحق ي ق فائض في الدخل ، ي ميل البعض إلى إنفاقه ع لي الشهوات والملذات التى تعد بعض صورها جرائم.

وتصدق هنا ذات الملاحظة التي سبق وأن ذكرناها بشأن أثر ارتفاع أو انخفاض الأسعار على السلوك الإجرامي ، والتي مؤداها أن ارتفاع الدخول أو انخفاضها لن يؤدى إلى الدفع نحو الجريمة إلا مع فرض ثبات معدل الأسعار. أما إذا انخفضت الأسعار بذات نسبة انخفاض الدخل ، أو حدث أن ارتفعت الأسعار مع حدوث ارتفاع في معدل الدخول الفردية فل يس من المنتظر أ ن يطرأ علي معدل الجرائم أي تغير ملحوظ.

كما تجب ملاحظة أن انخفاض الدخل الفردى لا يؤدى إلي ارتفاع معدل جرائم الأموال إلا إذا كان معدل الانخفاض كبيراً بحيث يصل بالأجر إلي الحد الأدنى أو ما دونه بحيث لا يكفي لإشباع الحاجات الضرورية . أما إذا كان الدخل الفردي من حيث المبدأ مرتفعا ً فلن يؤدى تخفيض ه البسيط إلي تأثير يذكر علي حركة الإجرام .

ولا يجب أن يغيب عن البال أن انخفاض الدخل لا ينتظر أن يحدث أثراً سلبياً داخل المجتمعات التي تكفل لمواطنيها أو القاطنين على أرضها عن طريق الإعانات المختلفة حداً أدنى من الضمان الاجتماعي ، مما يجعل الفرد في تلك البلدان – رغم انخفاض دخله – يستشعر الأمل في مستوى معيشي أفضل ويتروى قبل الإقدام على أي عمل غير مشروع.

169- ثالثاً : تقلب قيمة النقد و السلوك الإجرامي :
تتعرض قيمة النقد في غالبية دول العالم لتقلبات يومية بين الهبوط وا لصعود . وهبوط أو انخفاض قيمة النقد يعنى ضعف قوت ه الشرائية بالقياس إلي النقد الأجنبى ، فكأن ه في حقيقة الأمر تخفيض للدخل بدون تخفيض ه . أما ارتفاع قيمة النقد ف يعنى زيادة قوت ه الشرائية بالقياس للنقد الأجنبى ، فكأنه زيادة في الدخل بدون زيادته.

وعادة ما يحدث التقلب في قيمة النقد على أثر ظروف سياسة تطرأ كالحروب والانقلابات أو تغير السلطة الحاكمة في بلد ما ، أو نتيجة إجراءات اقتصادية تتخذ على المستوى الوطني كالتأميم وتقييد حركة رؤوس الأموال.

و لا يعنى الباحثون في علم الإجرام بتقلبات النقد الطفيفة شبه اليومية بحسبانها أمراً مألوفاً قلما يحدث أثراً على حياة الأفراد. أما ما يجذب انتباه الدراسات الإجرامية فهى تلك التقلبات التي علي درجة من الأهمية أو الجسامة بحيث تؤثر في مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، كتلك التقلبات التي حدثت في ألمانيا في الفترة ما بين عام 1923 إلي عام 1925 . فمن واقع الإحصاءات الجنائية عن تلك الفترة يتضح أن جرائم الأموال ارتفعت معدلاتها بنسب ة 250%. كما أن السرقة تضاعفت ثلاثة أمثال ما كانت عليه قبل حدوث التضخم ، وكانت تقع في غالب الأحوال علي أموال منقولة لها قيمة ذاتية ، نظرا لأن النقود قد فقدت قيمتها الحقيقية فعزف الجناة عن سرقتها. كما ارتفع أيضا معدل جريمة إخفاء الأشياء المسروقة إلى ستة أمثال نسبتها قبل الأزمة . أما جريمة النصب فقد ارتفع معدلها بنسبة طفيفة ، ويفسر ذلك بأن النصب من الجرائم التى لا يرتفع معدلها إلا في ظروف الاستقرار الاقتصادي والرخاء.

و قد تزايدت كذلك أبان تلك الأزمة معدلات جرائم الإجهاض ، إزاء خشية الأفراد من الإنجاب في تلك الظروف السيئة و خشية تحمل أعباء اقتصادية جديدة . ودلت الإحصاءات أيضاً عن ارتفاع معدل جرائم الاعتداء على ممثلي السلطة العامة وذاك تعبير من الأفراد عن حالة السخط والغضب العام تجاه السلطة الحاكمة.