دائماً ما تُسلط الأضواء على عرب أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، وتُفرد المساحات لمناقشة قضاياهم ومشاكلهم، بينما يغفل الكثيرون الحضور العربي الكبير في بلدان أمريكا اللاتينية والذي تعدى كونه حضوراً عددياً فقط ليصبح حضوراً سياسياً وثقافياً مميزاً، مما يجعل الوجود العربي في أمريكا اللاتينية الأجدر بالاهتمام وتسليط الضوء عليه خاصةً أن العلاقات العربية اللاتينية تاريخية وتربط المنطقتين (العربية واللاتينية) روابط قديمة جداً أقدم مما قد يتصوره البعض.
فقد بدأ الاتصال الثقافي العربي اللاتيني منذ عهد سقوط الأندلس .. من خلال عرب الأندلس الذين تم تهجيرهم إلى المستعمرات الإسبانية في أمريكا اللاتينية التي كانت حديثة الاكتشاف حينئذٍ؛ فيتجلى أثر الثقافة العربية في الهندسة المعمارية التي ميزت تلك الفترة وفي الكثير من الكلمات العربية الأصل في اللغة الإسبانية.
وتقول تيريزا ألفارو فِلكامب، الأستاذ المساعد بقسم التاريخ بجامعة ولاية سونوما، أن الموجة الثانية من الهجرة بدأت مطلع القرن العشرين مع هجرة الكثير من يهود ومسيحيو سوريا ولبنان وفلسطين (الواقعين تحت الحكم العثماني حينئذٍ) إلى بلدان أمريكا اللاتينية خوفاً من فرض قوانين التجنيد الإجباري عليهم، ثم تَبِعَهم المزيد من أهالي الشام هرباً من المجاعة التي سببها حصار قوات التحالف للسواحل السورية في أثناء الحرب العالمية الأولى ومصادرة السلطات العثمانية للمنتجات الغذائية لتوجيهها إلى الجيوش العثمانية.
ومثلت هجرة أعدادٍ كبيرة من السوريين إلى فنزويلا في خمسينيات القرن الماضي بعد اكتشاف النفط هناك الموجة الثالثة من الهجرة العربية إلى أمريكا اللاتينية.
واللافت للنظر أنه وقت حطَّ المهاجرون العرب أرجلهم على أرض اللاتينيين كانت القارة اللاتينية تفتقر إلى كل مظاهر المدنية الحديثة، ورغم ذلك نجح المهاجرون العرب في شق طريقهم إلى النجاح والثروة بفضل سرعة تكيفهم مع مجتمعهم الجديد وبفضل موهبتهم في التجارة التي توارثوها عن أجدادهم وساعدتهم على التعرف على متطلبات السوق.
وشجعهم ذلك على استقدام المزيد من أهاليهم ومعارفهم في بلدانهم العربية مما عزز وجودهم في القارة اللاتينية ليصبح الآن – طبقاً لبعض التقديرات – حوالي 5% من سكان أمريكا اللاتينية من أصل عربي، أي ما يقرب من 25 إلى 30 مليون شخص.
وقد استطاع اللاتينيون العرب إحداث تأثير ملحوظ في جميع مناحي الحياة في أمريكا اللاتينية وتحقيق نجاحات على جميع الأصعدة:
فعلى الصعيد السياسي نجح أكثر من سياسي لاتيني من أصل عربي في تولي مقعد الرئاسة في عدة دول لاتينية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
خوليو سيزار تورباي أيالا
ولد عام 1916 في العاصمة الكولومبية بوجوتا لأبٍ لبناني وأمٍ كولومبية، تولى رئاسة كولومبيا في الفترة من عام 1978 وحتى عام 1982، ويذكر أنه أعلن فخره بكونه من أصل عربي في البرلمان الكولومبي عقب انتخابه رئيساً للبلاد.
كارلوس منعم
ولد عام 1930 في مقاطعة لاريوخا بالأرجنتين لأبٍ وأمٍ من المهاجرين السوريين، تولى رئاسة الأرجنتين في الفترة من عام 1989 حتى عام 1999، وقام منعم بزيارة إلى أقربائه بمدينة يبرود في موطنه الأصلي سوريا عام 1992.
إلياس أنطونيو سقا
ولد عام 1965 في مدينة أوسولوتان السلفادورية لأبٍ فلسطيني من بلدة بيت لحم، وتولى سقا رئاسة السلفادور في الفترة من عام 2004 حتى عام 2009، والمثير أن منافسه على مقعد الرئاسة كان السياسي السلفادوري شفيق حنضل الذي ينحدر من أصل فلسطيني أيضاً.
وعلى صعيد المال والأعمال هناك الكثير من رجال الأعمال والاقتصاد اللاتينيين ذوي الأصول العربية والمعروفين على مستوى العالم
منهم:
كارلوس سليم حلو
وهو رجل أعمال مكسيكي من أصل لبناني، ولد في مدينة مكسيكو، المكسيك عام 1940، ودرس الهندسة المدنية بالجامعة الوطنية
المستقلة في المكسيك.
وهو رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركتي تلمكس وأميركا موفل للاتصالات، صنفته مجلة فوربس كأغنى رجل في العالم من عام 2010 وحتى عام 2013 قبل أن يتراجع إلى المركز الثاني في نوفمبر 2015 بثروة بلغت 63.5 مليار دولار أمريكي أي ما يقرب من 6% من إجمالي الناتج المحلي المكسيكي.
كارلوس غصن
رجل أعمال برازيلي من أصل لبناني، ولد عام 1954 بمدينة بورتو فاليو في البرازيل ودرس الهندسة بفرنسا، وهو رئيس مجلس
الإدارة والرئيس التنفيذي لشركتي رينو الفرنسية ونيسان اليابانية للسيارات.
ونظراً لنجاح غصن الاستثنائي وتميزه في عالم المال والأعمال استطاع شغل العديد من المناصب الهامة، فهو عضو في المجلس الاستشاري لكلية الاقتصاد والإدارة بجامعة تشينج هوا الصينية، ورئيس المنتدى الاقتصادي العالمي، كما حصل غصن على الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأمريكية في بيروت.
أما على الصعيد الفني فبجانب الفنانتين العالميتين شاكيرا (المغنية الكولومبية من أصل لبناني) وسلمى حايك (الممثلة المكسيكية من أصل لبناني أيضاً) الغنيتان عن التعريف، استطاع أكثر من فنان لاتيني من أصل عربي التميز في مجاله ونيل قسطاً وفيراً من الشهرة مثل:
كارليتوس بالا
وهو ممثل أرجنتيني من أصل لبناني، ولد عام 1925 في العاصمة الأرجنتينية بوينوس ايرس، وتخصص كارليتوس في الفن الترفيهي للأطفال الذي تربع على عرشه لسنوات من خلال تقديمه دور البطولة في العديد من المسلسلات التليفزيونية الموجهة للطفل، كما مثَّل في الكثير من الأفلام الموجهة للأسرة من أشهرها سلسلة أفلام “كانوتو كانيتيه” في ستينيات القرن الماضي.
ميغيل ليتين
وهو مخرج سينمائي وروائي وكاتب سيناريو ومنتج تشيلي من أصل فلسطيني، ولد بمدينة بالميلا التشيلية عام 1942.
عُرِف بإخراجه فيلم “نمس ناهولتورو” عام 1969 الذي يُعد أكثر الأفلام التشيلية شعبية حتى الآن؛ ليصبح ليتين بعده أيقونة من أيقونات السينما الأمريكية اللاتينية، كما شارك فيلمه “الأرض الموعودة” في مهرجانات كان ونيويورك وموسكو العالمية للسينما عام 1973.
أما بالنسبة للمطبخ العربي فلم يغب عن المشهد اللاتيني .. فالنساء المكسيكيات يطبخن أكلاتٍ عربية كالكبة وورق العنب وغيرهما في بيوتهن، كذلك في كولومبيا أصبحت الكثير من الأطباق العربية الشهيرة مثل الشيش كباب والطحينة والتبولة أطباقاً شعبية ومتوفرة محفوظة ومثلجة في المحلات.
أيضَاً تحتضن البرازيل أكبر دليل على مدى شعبية المطبخ العربي في المجتمعات اللاتينية وهو سلسلة مطاعم حبيبز (Habib’s) للوجبات السريعة والمتخصصة في المطبخ العربي، فتقدم أكلات عربية كثيرة منها الكبة والتبولة والصفائح بأنواعها.
وقد أسسها خباز برازيلي عام 1988 بعد تعرفه على طباخ عربي لتصبح سلسلة مطاعم (Habib’s) الآن أكبر سلسلة مطاعم وجبات عربية سريعة في العالم وثالث أكبر شركة وجبات سريعة في البرازيل؛ حيث يبلغ عدد فروعها أكثر من 475 فرع يعمل بهم حوالي 14.000 موظف.
أخيراً، لا شك أن الحضور اللافت والمكانة المجتمعية المميزة للاتينيين العرب في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية يجعل منهم قوة ناعمة ينبغي للعرب استغلالها كي تعكس الطبيعة الحقيقية المبدعة للشعوب العربية ومدى عراقة وثراء الثقافة العربية.
وذلك يتم عن طريق التواصل معهم ومد جسور التعاون بين شبابهم والشباب العربي، ودعمهم معنوياً بتسليط الضوء على قضاياهم وإبراز نجاحاتهم، وثقافياً من خلال تفعيل دور المراكز الثقافية العربية المتواجدة في بلدان أمريكا اللاتينية ومن خلال أيضاً الاهتمام بحركة الترجمة من العربية إلى الإسبانية والعكس.
فلا بد للعرب أن ينتبهوا إلى أن بلدان أمريكا اللاتينية تستحق اهتمامهم؛ فهي ليست عنصرية وتتقبل الآخر وتتشابه ظروفها وثقافتها مع الكثير من البلدان العربية؛ فلا يوجد مطلقاً ما يمنع المزيد من التقارب العربي اللاتيني على جميع المستويات.
المصدر
آراجــيـــــك