مصطفى جواد بقلمه
ولدت في الربع الاول من القرن الرابع عشر للهجرة بدار في محلة عقد القشل ببغداد في الجانب الشرقي منها بجوار الجامع المعروف حتى اليوم بجامع المصلوب، وكان والدي جواد بن مصطفى بن ابراهيم خياطا بسوق الخياطين المجاور لخان مرجان المعروف عند الاتراك واهل بغداد بخان (ارتمه) وقد اتخذ متحفه للاثار العربية اليوم.
وقد اصاب العمى والدي بسبب من الاسباب التي تؤدي الى هذه العاهة، فحسن له بعض اصدقائه ان يقتني املاكا في ناحية دلتاوة المعروفة اليوم بالخالص ويتعيش بهان ومع هذا فقد تملك قبل ذلك ببغداد دكانه الذي يحترف فيه بسوق الخياطين وداره التي يسكن فيها ودارا في محلة الطاطران لأن اول سكناه وسكنى والده كانت هناك، وبستانا صغيرا في الكرادة الشرقية ومستغلا في محلة القاطرخانة باعه قبل ان ينتقل الى دلتاوة.
ونقلني والدي معه الى دلتاوة، ولما بلغت سن الدرس في الكتاتيب وكانت مختلطة للاطفال يجتمع فيها الابناء والبنات، فاسلمني والدي الى كتاب معلمة للقرآن الكريم تعرف بالملة صفية، وعندها بدأت القن القرآن العزيز بعد دراستي حروف الهجاء على الاسلوب القديم المعروف، ثم نقلني والدي الى مدرسة دلتاوة الابتدائية تسمى ايامئذ باسم (المكتب) واتذكر من معلميها (صبري افندي) رحمه الله تعالى وكان كما يظهر من احواله عاريا من العلم، وعبد المجيد الاعظمي، وعليه تدربت في خط الرقعة الذي هو خطي المعتاد، وجزت الصف الثاني الابتدائي بحسب نظام التعليم العثماني وانتقلت الى الصف الثالث الابتدائي وفي شتاء تلك السنة دخل الجيش الانكليزي دلتاوة اي سنة 1917 متعقبا الجيش العثماني المنهزم نحو الشمال، وقد مر الجيش المذكور بالمدرسة لوقوعها على الطريق العام من المدينة بل الناحية وكان ذلك اليوم آخر ايام دراستي في العصر العثماني.
وتوفي والدي قبل ذلك بقليل فلم يتهيأ لي الاستمرار على الدراسة، وانصرفت الى رعاية البساتين التي خلفها لنا والدي لي ولأخي الأكبر (كاظم) واخوتي الست من زوجين اثنتين، كانت والدتي الاخيرة، وبعد عقد الهدنة بين الاتراك العثمانيين والانكليز استتبت الامور بالعراق وفتحت مدارس ومعاهد منها مدرسة دلتاوة الابتدائية الا اني كنت مقبلا على شأني وحدث نزاع بين والدتي واخي الكبير من اجل الوصية الابتدائية والاشراف على اموري لكوني قاصرا يومئذ، فنقلني اخي الى بغداد وتصرف بحصصي من واردات البساتين بحجة انه هو الوصي الشرعي علي، وادخلني المدرسة الجعفرية الاهلية قرب سوق الغزل واذكر من مدرسيها مديرها الشيخ (شكر) ومحمد حسن كبة، والاستاذ الخياط. – مد الله في عمره الطويل – ثم قصر اخي في تسديد اجرة المدرسة ضناً منه بالنفقة، فانتقلت الى مدرسة باب الشيخ الابتدائية في اول محلة الصدرية وكان مديرها ايامئذ السيد هاشم الالوسي – رح – واذكر من مدرسيها او معلميها السيد جميلالراوي اخا السيد نجيب الراوي ثم تركت هذه المدرسة والتحقت بوالدتي بعد استصدارها حكما بالوصية علي وقد قاسيت من الفقر وشظف العيش والعوز ما يطول ذكره ويؤلم بيانه، حتى حلت سنة 1920 الميلادية وفيها ضاقت علي سبل العيش في بغداد فرأيت ان انتقل الى دلتاوة وانتفع بحصصي في البساتين الموروثة وان كان الغالب على غلاتها التمر وهو ارخص الفواكه في العراق، وكانت الثورة العراقية قد شبت في عدة من انحاء العراق ولاسيما الفرات الأوسط ولواء ديالى واستولى الثوار على بعقوبة ونواحيها ومنها دلتاوة وكان الطريق بين بغداد وبعقوبة فدلتاوة تحت رقابة الانكليز وقد سخروا النساطرة التيارين المعروفين اليوم بالاثوريين والارمن اللاجئين للحفاظ على الطريق وقطعه على الثوار ومحاربتهم، فلم اجد الا طريق الجديدة الشرقي، فسلكته مع قافلة من الماكرين سائرا على قدمي فبلغت قرية (كشكين) المجاورة لدلتاوة مساء واطلني الليل فيها وحرت في امري لأن القافلة سلكت طريقا آخر، فاضافني رجل من ذوي القربى النسبية وخرجت من عنده صباحا فوصلت الى دلتاوة ووجدت الثوار قد بنوا على طريقها المؤدي الى بعقوبة بابا دفاعيا تحصينيا وبقيت انا في دلتاوة وعنيت بشؤون البساتين، وكان الحكم فيها للثوار وعم في هرج ومرج.
وكان الانكليز قد جمعوا جلاميزهم واعوانهم واعادوا الكرة على بعقوبة فاسترجعوها ولبثوا ينتهزون الفرصة للانقضاض على دلتاوة، واخذوا يرسلون عليها وعلى الثوار طيارات ثلاث مرات تلقي عليهم القنابل وترهب وتخيف تمهيدا للهجوم عليها، وفي اليوم العاشر من المحرم سنة 1339 الهجرية الموافق لليوم الخامس والعشرين من ايلول سنة 1920 وكان ذوي الاكثرية من اهل دلتاوة مشغولين بالاحتفال الحسيني وذلك يوم عاشوراء كما بان من قولي السابق ارسل الانكليز عليهم ثلاث طيارات رمتهم بالقنابل تمهيدا للهوم وقد ظنوا ان الأمر قصب بغير هجوم كما جرى من قبل ثم ارسلوا جواسيس الى دلتاوة نفسها يخدعون الثوار بانهم اسقطوا طيارة انكليزية في مقاومتهم لها عند هجومها ووضعوا جماعة بايديهم الات من الخشب تدار فتحدث اصواتا كاصوات رشاشات الرصاص من الاسلحة النارية الحديثة، فلما برز الثوار الى موضع الاصوات كان الجيش الانكليزي المؤلف من هنود السيخ وقليل من الانكليز قد كمن في طريقهم وراء ضفاف الانهار فلما اصحروا وامطروهم حاصبا من رصاص البنادق والرشاشات وقنابل الشارينيل التي تنفجر قبل وقوعها، فقتلوا منهم وجرحوا وتفرق الباقون شذر ومذر وكان من بين الهاربين محمد الصدر – رح – فانه فر لا يلوي على شيء، ودخل الجيش الانكليزي دلتاوة وكان معه ناس من العرب او المستعمرين من اهل بعقوبا يدلونهم على دور اعيان الثوار، ففعلوا بدلتاوة الافاعيل من تقتيل للرجال وتشريد للعيال وتعذيب وتخريب ونهب وسلب وقطع للنخيل والاشجار واحراق للديار وكنت فيمن خرج لرؤية الطيارة المسقطة فلم الق إلا شابيب الرصاص فنكصت مع صبية اخرين كانوا يحبون الاطلاع وهربت معهم وقضينا تلك الليلة في البساتين وكانت ليلة ماطرة ذات رعد ورياح شديدة، ودخلنا دلتاوة في اليوم الثاني عصرا بعد ان سمعنا الهدوء فيها وكنا صغارا لا نعد من حملة السلاح ولا القادرين على الكفاح، فالفينا دلتاوة خاوية عاوية قد قتل رجالها ونهبت اموالها وساءت جدا احوالها، وعادت بعد ذلك حياة الناس الى الاطراد شيئا فشيئا واصدر الانكليز اوامرهم بفتح المدارس، واكثروا من تعيين الجواسيس واتباعهم فيها احتياطا، وللاطلاع على العناصر النووية ومفاجئاتها قبل العمل، واقبلت انا على اشتغالي ببساتينها، عازما على ان ابقى مستمرا على معيشة الغراسة والفلاحة، ورآني ذات يوم شاب هو ابن مدير المدرسة – رحمه الله – فقال لي: سمعت انك من طلاب المدرسة، وارى لك ان تلتحق بالمدرسة فذلك خيرا من حياتك هذه في المستقبل، وما ادري ولم ادر اكان مصيبا في قوله ام مخطئا؟ ولكن حب الظهور والعيش المعتدل المتوسط بعثاني على قبول نصيحته فدخلت المدرسة وكنت مضيقا دائما لان غلة البساتين من التمر لم تكن تكفي في الانفاق ومرت علي ايام لم استطع فيها ان اشتري حذاءاً بدلا من حذائي العتيق البالي المتهرئ، وبلغت الصف الرابع في المدرسة وانتقلت الى الصف الخامس، فبلغني ان ببغداد (دار المعلمين الابتدائية) وتقبل الطلاب بالامتحان، فسافرت الى بغداد وشاركت في الامتحان، وكان في الاسئلة سؤال هندسي ونحن لم ندرس الهندسة، وكانت غاية السؤال معرفة الفرق بين مساحة مثلث ومساحة مربع وبيان الاكبر منها، فذكرت ان المثلث اكبر مساحة من المربع وان المربح اكبر مساحة من المثلث فقط، ولم اتعلم استخراج المساحة، كما ذكرت آنفاً، فالظاهر اني اصبت الهدف وكنت حسن الاجابة في الدروس الاخرى فظهر اسمي بين المقبولين في دار المعلمين الابتدائية المذكورة، وصرت في عداد طلاب الصف الاول واذكر من معلميها الاستاذ السيد طه الراوي – رح – والاستاذ سعيد فهيم والاستاذ اميل ضومط اللبناني، ومديرها مصري اسمه (سيد محمد خليل) وكان رجلا ذكيا المعيا طويلا، ابيض بخلاف اكثر المصريين، واذكر من طلاب الصف الاستاذ عبد الستار القره غولي – رح – ومحمد علي قتيل واقعة بكر صدقي او حادثة بعد ذلك.
وبقيت في دار المعلمين الابتدائية وقويت عندي الرغبة في دراسة العربية وكنت اميل اليها منذ دراستي الاول، وفي الصف الثاني من دار المعلمين كان الاستاذ احمد الراوي يدرسنا العربية والانشاء فكنت انظم له الانشاء احيانا فيقدر لي احسن درجة ويصلح لي كلمات من القصيدة الانشائية، وفي هذه السنة جاء الى معارف العراق ساطع الحصري السوري – رح – او قبلها مع الملك فيصل بن حسين، فاختلف معه مدير دار المعلمين المصري المذكور آنفا اعني (سيد محمد خليل) وترك معارف العراق فاستقدم لإدارة دار المعلمين الابتدائية (يوسف عز الدين الناصري التكريتي) – رح – وكان رجلا طيبا يساوق الاحوال ويحسن سياسة الطلاب وبقي في ادارة تلك سنين، وقد راى في ميلا قويا الى العربية فكان يكلفني في الصف الثالث وانا طالب بالبداهة ان اقول مقام اخيه محي الدين في مدرسة التطبيقات الابتدائية لتدريس عدة ساعات حين يكون اخوه في مهمة يستدعي غيابه عن الدرس.
وكنت في اثناء السنتين الثانية والثالثة انشر شعراً مدرسيا كوصف الطيارة مثلا وكنت خطيب المدرسة في السنة الثالثة، وشاركت في تمثيل رواية ساذجة، وتخرجت سنة 1924 معلما ابتدائيا في مدرسة الناصرية الابتدائية وكان مديرها السيد عبد المجيد زيدان، وكان - رح – متشدداً على المعلمين فتألب عليه جماعة منهم وكنت فيهم، وفي اثناء تلك السنة اصدر الاستاذ هاشم السعدي مجلة المعلمين ببغداد فبدأت انشر فيها شعري ومما نشرته فيها التوجع والاثارة لمحمد بن عبد الكريم الخطابي ايام محاربته الفرنسيين بالمغرب، وفي تلك السنة جاءنا الى الناصرية للتفتيش العام الاستاذ ساطع الحصري ولقيته في دار المتصرف جميل المدفعي لأني كنت ازوره وكان يدعي ان له قرابة معنا لأنه نشا يتيما في دلتاوة، فقال لي الاستاذ ساطع (يا ابني الشعر بيزرك وما ينفعك) اي (يا بني الشعر يضرك ولا ينفعك) ولم اعلم سر هذه الحكمة الرائعة، مع ايقاني باني لم انشر اذ ذاك الا شعرا وطنيا، فلم احفل بقوله لن القريحة هي التي تفرض نفسها وكيف تردم عين ثرارة لها عد لا ينقطع من ماء الطبيعة؟!
وفي السنة الثانية من تعليمي بمدرسة الناصرية الابتدائية عينوا لها مديرا اسمه (عزيز سامي) وهو غير عزيز سامي ابي صميم الاديب الكركوكي، وكان هذا المدير من المشتغلين مع الانكليز في ادارة الشبانة او غيرهم من المتطوعين ويظهر انه تركماني، وكان يحسب المعلمين كالشبانة، فوقع خلاف بيني وبينه في مبدأ العطلة الربيعية فضربني في المدرسة وضربته في المقهاة، وانتهى الأمر بنقلي من مدرسة السيف الابتدائية بالبصرة، بعد عطلة الربيع فنقلت اليها واذكر ان مديرها كان يسمى جاسم شوقي، وقضيت في البصرة نصف السنة وتشبثت بعدة وسائل لنقلي الى مديرية معارف بغداد فنقلت الى الكاظمية في مدرستها الابتدائية وفي كل ذلك ادرس اللغة العربية وفروعها المقررة للابتدائيات إلا البصرة فقد اجبرني المدير ان ادرس الحساب فقبلته على كره لأني اكره الرياضيات وان كنت منجحا فيها في امتحان دار المعلمين الابتدائية انجاحا باهرا، ثم نقلت من مدرسة الكاظمية الى مدرسة دلتاوة الابتدائية وكان لها مدير متشدد ايضا فتألب عليه جماعة وزاد الخلاف بسعاية معلم متجسس، وكان مدير معارف بغداد عاصم الجلبي، فشكانا المدير اليه وجاء الى دلتاوة، ثم اختارني استاذي يوسف عز الدين الناصري لتحرير وزارة المعارف فنقلت على بغداد وكان المسيطر على شؤون الوزارة يهودي انكليزي يرأس قسما من الاستخبارات الانكليزية بالعراق اسمه (سمرفيل) وله اتباع على رأيه في الوزارة، وكان مدير المعارف الاستاذ سامي شوكة وكان قد ترك الطب واقبل على غير شأنه، ثم جاء يوما الى سامي شوكة احد كبار الرجال من ارباب الدولة، واحسبه باشا العسكري راجيا منه ان ينتقل الى مكاني الاستاذ الشاعر (مهدي الجواهري) لآنه كان يدرس العربية في المدرسة المأمونية، وكان الطلاب يؤذونه اذى شديدا الى حد ادماء يديه بمصراعي باب الصف ولا يمكنه الصبر على ذلك، فنقلت الى وظيفته وفي تدريس العربية الى المأمونية فالفيت اكثر طلابها من ابناء ارباب الدولة وعلى غاية من قلة الأدب، فشددت عليهم واعدتهم الى السبيل السوي، وفي اثناء اقامتي بالبصرة اقيم احتفال محزن لسوء الحال الذي آل اليه امر محمد بن عبد الكريم الخطابي فافريقية مع الفرنسيين والاسبانيين ودعيت اليه فالقيت قصيدة عنوانها:
قل لي الى اين الغضنفر سيقا
او لم يجد في العالمين شفيقا؟
وقد نشرت في جريدة الاوقات البصرية التي كانت تصدر في البصرة ايامئذ وكانت القصيدة جامعة بين الرثاء والحماسة وفي اثناء اقامتي ببغداد للتدريس بالمأمونية نشرت التاريخ المسمى غلطا (الحوادث الجامعة) المنسوب الى ابن الفوطي واخذت انشر في مجلة لغة العرب للآب انستاس الكرملي، وبدأت اعالك النقد، وكنت في ايام تدريسي بالكاظمية اكتب مقالا في مجلة العرفان اللبنانية وانشر شعرا سياسياً في جريدة العراق وشعراً اجتماعيا في جريدة العالم العربي ومنه ابيات ارثى بها لحالة الفلاح العراقي ونشرت قصصا في جريدة النهضة البغدادية لامين الجرجفجي وناقدت كتابا وناقدوني ومنهم من شتمني وكان احدهم استاذا لي في الدين بدار المعلمين الابتدائية ولا فائدة في ذكر اسمه فهو مشهور ومشهود التعصب الاعمى، ولما رايت فساد وزارة المعارف وغير باق على راتبي المالي الأول مع الخفض العام وجدت فرصة لأن اكون معلما في مدرسة اليسوعين اول تأسيس مدرستهم في الصليخ لانهم وعدوني مائتي روبية شهريا، ثم احس بعض رجال المعارف الاطياب بعزمي وعينت مدرسا في المتوسطة الشرقية سنة 1932 وبقيت فيها وداومت النشر في مجلة لغة العرب نثرا ونظما وساعدت الأب انستاس على تحرير المجلة وكنت ارى الاستاذ جميل صدقي الزهاوي يحضر عند الاب انستاس ويكتب نقدا على عباس محمود العقاد في ديوان شعره ويخرج باسم المجلة تعصبا للدكتور احمد زكي ابو شادي فقد كان على خلاف قائم بينه وبين العقاد، ثم ان وزارة المعارف صارت الى السيد عبد المهدي المنتفكي وكان يقرا كثيرا من مقالاتي ففتح هذا الرجل الطيب باب البحث العلمي بعد ان كان مقصورا على ناس باعيانهم قد خلت في بعثته سنة 1934 ورسم لي التخصص بالاثار في امريكا فوجدت الطريق طويلا والمعهد بعيدا قصيا وكنت قد تزوجت وانا معلم في الكاظمية سنة 1928 وولد لي طفلان ابني جواد وهو اكبر اولادي وابنتي نزهة وهي كبرى بناتي، فغيرت وجهة بعثي العلمي الى فرنسا وارسلت الى القاهرة لاكون معلما في كلية الاداب واتعلم مبادئ اللغة الفرنسية، فذهبت الى القاهرة وقضيت المدة المقررة وتعلمت مبادئ الفرنسية، وكنت قد نشرت للاب انستاس (الجزء التاسع من تاريخ الجامع المختصر وعيون التواريخ وعيون السير) لابن الساعي المؤرخ البغدادي المشهور ونشرت قصيدة في فلسفة الوجود في المقتطف وشاركت بقصيدة في احياء ذكرى شوقي بالقاهرة.
وفي سنة 1934 سافرت الى باريس واردت الدخول في كلية الصوريون من جامعة باريس فلم تلق شهادة دار المعلمين الابتدائية منهم قبولا فاستعنت بمستندات علمية اخرى وترجمتها الى الفرنسية وساعدني ايضا شيخنا الاستاذ لويس ماسينون المستشرق المشهور فقبلت في كلية الصوريون لاعداد الدكتوراه الادبية فاخترت موضوعا تاريخيا هو (سياسية الدولة العباسية) في اواخر عصورها، وقبل ان اتم عملي كانت مدة التعهد وهي ثلاث سنوات قد انتهت فاوعز الدكتور فاضل الجمالي باستعدادي للتدريس لانه كان يكره كثرة شهادات الدكتوراه في وزارة المعارف فعدت الى بغداد وعرضت شكواي على رئيس الوزراء يومئذ جميل المدفعي ومدحته بقصيدة نشرتها في جريدة الزمان ، وعرضت غبني على الشاعر الكبير الذائع الصيت محمد رضا الشبيبي وكان وزير المعارف اذ ذاك فوافق على تجديد التعهد سنتين اخريين، فجددته وسافرت الى باريس عودا على بدء واكملت رسالة الدكتوراه او اطروحتها كما يقولون، وقبلت واعلنت الحرب فلم تتهيأ لي مناقشتها ولا طبعها ولا تزال مخطوطة غير مطبوعة ولا مترجمة، ولما رأينا ان هجوم الألمان الجوي قد بدأ ايقنا ان الحرب ستطول وان البقاء في فرنسا جد خطر وسيء العاقبة فعدت الى العراق بالقطار مع افراد الطلاب العراقيين، قبل اعلان ايطالية الحرب بايام، ووصلت الى بغداد اشهرا من غير تعيين لاني نقدت كتابا مقدما الى بعض الوزراء الذين لا يقدرون طلب الحقيقة حق قدرها ثم عينت بعد الرجاء مدرسا او معلما واستاذا في دار المعلمين العالية التي تسمى اليوم كلية التربية وذلك سنة 1939 ثم دعيت لخدمة الاحتياط فاساموني واسامتهم حتى تخلصت منهم وعدت الى الحضار في دار المعلمين المذكورة.
وفي سنة 1942 دعيت لتعليم الملك الصغير فيصل الثاني اللغة العربية من القراءة الخلدونية وكان قد اهمل تعليم العربية سنة واحدة فبدأت بتعليمه في السنة السابعة من عمره وعلمته القراءة والكتابة، ولصعوبة الجمع بين تدريس دار المعلمين العالية وتعليم الملك الصغير طلبت ان انقل الى مديرية الاثار فنقلت الى وظيفة ملاحظ فني ثم رأيت سوء الادارة فيها وبقاء راتبي المالي على حاله فرجعت الى دار المعلمين وبقيت فيها الى ان انشئت جامعة بغداد وسميت هذه الكلية باسم كلية التربية كما اشرت اليه انفاً، ولا ازال في عداد اساتذتها وان كنت مقعدا ذا مرض عضال. وقد انتخبت مراسلا للمجمع العلمي العربي بدمشق ثم عضوا عاملا في المجمع العلمي العراقي في دوريه وطوريه، وقد نشرت كثيرا من شعري في عدة مجلات وصحف وجمعت ما استطعت منه في دفتر سميته (الشعور المنسجم في الكلام المنتظم) وفيه شعر الشباب والكهولة والشيخوخة وهو مختلف قوة وضعفا بحسب اطوار العمر واختلاف الاحوال وصفاء البال ولولا ان الشعر يمثل اطوار حياة الشاعر لحذفت كثيرا من الشعر الذي ضمنته هذا الدفتر، وقد عالجت نظم المخمسات والمسمطات والموشحات فمن شعر الشباب من المخمسات قولي في قصيدة (الطفل والبلبل) وهو اولى بان تكون من المسمطات.
أيها البلبل غرد بالصباح
قائلا إن ضياء الشمس لاح
واريج الزهر في الاشجار فاح
ونسيم الفجر قد هب لنا
من ربا نجد بلاد العرب
ومن الموشحات قولي في موشح (القوة والحق):
قم فؤادي نطرح عيش البشر
إنه عيش مشوب بالكدر
ولقد حف بانواح الحظر
ولنا فيما رأيناه عبر
قم نودح قم فاسرح
لا تنبئ احداً عما نروم
يا معين ان حين
للتخلي عن عواد وهموم
ونظمت اقاصيص منها اقصوصة ارينب بنت اسحاق الجميلة، وشيئا من التاريخ وذكرى الاندلس وهي مخمسة اولها:
حلقت روحي الى الاندلس
واشتهت سكنى رياض النرجس
ما لها قد ذكرتني ما نسي
في مدى الدهر ودهري ماهر
ونظمت مرجوا رباعيات الاديب الايراني حسين قدسي النخعي سفير ايران بالعراق بعد ان ترجمت لي نثرا لاني لم اتعلم الفارسية، ونظمت رباعيات الخيام سباعيات من نثر بعض الادباء العراقيين المتقنين للغة الفارسية، ولما ولد ابني الاكبر جواد ثم نمى طفلا لا يميز الكلام نظمت من اجله قصيدة اوائل ابياتها:
يقول بابا اذا ما مضه الالم
او يرسل الدمع وهو الشاهد العلم
وان خرجت يناديني بلهجته
بابا فتثبت من تلقائها القدم
عهد الطفولة في الاعمار مسعدة
كانه بينها مستعذبا حلم
ووصفت الراديو اول ظهوره ونشرت الوصف في مجلة الثقافة المصرية، وقصيدة مدحي لجميل المدفعي – رح – كانت من اروع ما نظمت لأنها صدرت نفثة مصدور وضرورة مغدور مطلعها:
ضرع العراق اليك في اماله
من بعد خيبته وسوء ماله
وطلب الي بعض االاصدقاء نظم قصيدة في وصف الحرب فتبناها وشارك به في مسابقة ادبية مشهورة مطلعها:
الحرب اشنع مقدور على الامم
شر المقادير ما افضى الى العدم
وترثيت للفقراء فقلت من قصيدة راثية:
ضج الفقير وضاق امراً
والجوع كاد يكون كفراً
اسماله وعياله الجو
عن تركن الين عبري
وندر ان يكون للشعر موضوع لم انظم فيه حتى وصف تمور العراق، ولكني مع هذا لم استطع ان اجمع شعري، كما ذكرت سالفا بل لم يكن لي هوى في جمعه، فقد نظمت نقائض اكثرها غير مثبت في هذا الدفتر المقدم ذكره منها نقيضة شاعر نجفي ثار على اهل النجف وهجاهم اذكر منها وهي سينية:
باحتداء المداس عاش قديما
ثم عاب المداس بل لباسة
والحديث عن الشعر يطول، والانسان كما قال بعض الادباء القدماء مفتون بولده وبشعره – والعياذ بالله – وقد قلت في رد عتاب لصديق من الاصدقاء كان يسكن في بلدة على الفرات:
في ريا دجلة ونهر المعلى
شام برقاً من الفرات تجلى
ذلكم بارق الاحبة اهدي
من سناد تعلة فتعلى
يا خليلي انصفاني فاني
فصل هم على البسيطة يملى
انا لا ارتضى العتاب من
الاحباب ما دمت للوفاء محلا
انما يعتب الصديق اذا ما
حال عن عهده وبدل قولا
فلقد مضه عتاب يزجيه
وعتب الاخ الهوى لن يملا
ولقد طالما لحاه ينضح
فرأى لومه من الشهد احلى
عذل العاذلون لما راوه
لايرى للصديق شبها ومثلا
ابهذا الصديق يا زينة العصر
وراوي الاداب فصلا ففصلا
انما الوقت في حديثك لا
يصبح وقتا لما به يتحلى
سقطت ما غنيت قلنا فذاك
الكل انت الغريض بل انت احلى
سقطت قيمة الزمان اذ ما
قمت تفري الحديث حزنا وكهلا
من كتاب (شعراء العراق في القرن العشرين) د. يوسف عز الدين