يخلط الكثيرين بين ولادة تنظيمات تكفيرية كالقاعدة وداعش من رحم الفقه الإسلامى المتطرف وبين إستفادة أطراف إمبريالية منها ومحاولة توجيهها، بشكل أوضح فإن الولايات المتحدة ساهمت بشكل رئيسى فى مساعدة تنظيم القاعدة فى بيشاور وأفغانستان فى ثمانينات القرن الماضى من تسليح وتدريب وتمويل وإستخدمتها بشكل فاعل فى هزيمة خصمها الرئيسى الإتحاد السوفييتى السابق مما عجل بانهياره، ففى تقديرى لم يكن الشيخ عبد الله عزام أو أسامة بن لادن والظواهرى ومن معهم موالين أو عملاء بشكل مباشرلأمريكا، وكانت رحلتهم لقتال السوفييت قد بدأت قبل أن يكون لهم أى صلة بالولايات المتحدة من قريب أو بعيد، فقد كانت أفكارهم الجهادية والتكفيرية قد تبلورت قبل ذلك بسنوات من كتب التراث المتشددة وخلال صراعهم مع أنظمة الحكم فى بلدانهم وكانت الحرب الأفغانية فرصة ذهبية أمام حكام هذه البلدان فى زحزحتهم الى صراع خارجى، هذه التنظيمات الجهادية كانت أشد تأثرا بالثورة الإسلامية فى إيران "انتصرت ثورة الخومينى بإيران عام 1979 وهو نفس العام الذى إجتاح فيه الإتحاد السوفييتى أفغانستان" وموقفها من أمريكا "باعتبارها الشيطان الأكبر" وإعتبروا تحالفهم مع الغرب موقف تكتيكيا إضطراريا، وبمجرد إنتهاء الحرب سرعان ما إنقلبت القاعدة على هذا التحالف وإتجهت الى إعتبار العدو البعيد " أمريكا" هو الأولى بالجهاد ضده.
أذا جاز ذلك بالنسبة لعلاقة الغرب بتنظيم القاعدة فإن الأمر مختلف بالنسبة لداعش التى نشأت من رحم تنظيم "التوحيد والجهاد" و " القاعدة فى بلاد الرافدين" بالعراق فى مواجهة مباشرة مع الغزو والإحتلال الأمريكى للعراق ثم تمددت بعد ذلك الى سوريا تحت شعار محاربة النظام النصيرى العلوى وإعلان دولة الخلافة، لا يعنى ذلك أن أطرافا مخابراتية مختلفة لم تحاول الإستفادة من داعش بما فى ذلك نظام بشار الأسد ذاته، ولن نسترسل هنا فى مجال البحث عن الجذور الفكرية لتنظيم داعش أو الغور بعيدا الى بداية ظهور الفكر التكفيرى فى صدر الإسلام كالخوارج الذين رفضوا التحكيم وإمتد غلوهم الى تكفير على بن أبى طالب، هذا الفكر الذى إنبثقت عنه جميع التنظيمات المتطرفة فيما بعد مقتفين أثر إبن حنبل ثم إبن تيمية وصولا لمحمد بن عبد الوهاب وسيد قطب.
تحالفت الوهابية بقيادة مؤسسها مع آل سعود وبنى على مقولة إبن عبد الوهاب " الدم الدم .. الهدم الهدم" فيما عرف بعهد "المذهب والسيف" وعلى إعلان الجهاد ضد من إعتبرها الشيخ جاهلية جديدة والعمل لإعادة تعبيد الناس لريهم من جديد حيث قام الوهابيون بتدمير مقابر أهل البيت والصحابة ودك الأضرحة والمزارات وتم أعتماد الدولة الجديدة الوهابية فكرا رسميا للمملكة حتى الان وكان أظهر تجلياته متجسدا فى علم المملكة برسم لفظ الجلالين والسيف المسلول، هذا الفكر الذى تبناه أسامة بن لادن فى جبال أفغانستان ثم عاد ثانية الى بلادنا فى ثوب تنظيم داعش، وما بين الحرب فى أفغانستان وداعش فى سوريا والعراق زاد هذا الفكر التكفيرى إنتشارا فى أوساط الشباب الحالم بإقامة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة على الأرض بالحديد والنار، ويعتمد هذا الفكر على تهميش العقل وتقديس النقل وعصمة مشايخهم ويعتبركتاب "الفتاوى" لإبن تيمية مرجعهم الأول وربما الأخير.
على أن الجذور الأساسية والأساطير المؤسسة لمجمل عقيدة داعش تتبلور فى النقاط التالية:
1- تعد الأفكار السلفية هى المنبع الصافى الذى تنهل منه داعش وجميع تنظيمات السلفية الجهادية وهى الآراء الموغلة فى عمق التاريخ والمستقاة من كتابات أحمد بن تيمية التى أضاف عليها بعض المحدثين كسيد قطب وشكرى مصطفى ومحمد عبد السلام فرج وسيد إمام الشريف، إنتهاءا بالمقدسى وأبو محمد العدنانى وأبو بكر ناجى صاحب كتاب "إدارة التوحش" الذى إعتمد فيه أقصى أساليب العنف والإمعان فى فكر التكفير وإستباحة الدماء، هذا الفكر الذى يعمد الى إسقاط أحكام فقهية سابقة على واقع مغاير دون مراعاة الزمن والعلة فى محاولة لإعادة إنتاج الماضى وإرهاب وتكفير أى محاولة جادة لإستخدام العقل فى كشف عوار التراث الفقهى ونقد رموزه باعتباره الحق المطلق مهما كانت مخالفته للعقل والمنطق وأن أى حديث بشأنهم إنما هو تطاول على الله.
2- لعبت قوى مخابراتية متعددة على التناقضات بين التنظيمات التكفيرية "وعلى رأسها بالطبع تنظيمى جبهة النصرة وداعش" على الأراضى السورية بما فى ذلك النظام السورى نفسه آملين فى أن يقضى الطرفان على بعضهما أو على الأقل يتم إضعافهم ليسهل السيطرة عليهم فى النهاية، ولعله كان فى خطة بعض النظم العمل على تقسيم المنطقة الى دويلات طائفية ودينية وكانت إحدى وسائلهم الى ذلك هى إستقطاب الساحة السنية نحو مزيد من التشدد والعنف واذكاء نيران الكراهية بين السنة والشيعة تمهيدا لإستقرار دولة إسرائيل وتمرير قبولها بالمنطقة كدولة دينية، إن الولايات المتحدة باحتلالها لدول مسلمة كأفغانستان والعراق وحل الجيش العراقى خلقت الحاضنة المجتمعية لإنتعاش التيار التكفيرى وذلك بسماحها لبروز القوى الشيعية وهيمنتها على الدولة ما سمح لتيارات تكفيرية "كالقاعدة وداعش" أن تمارس عملياتها العسكرية ضد قوى الإحتلال وضد الشيعة معا.
3- لاشك أن المنتمين لداعش فى أغلبهم من المؤمنين بأنها تمثل الإسلام الصحيح وأن إعلانها إقامة دولة الخلافة هو ركن أساسى من أركان الدين فى عودة شعائرية الى النص وإن ما ميز داعش "فى نظر مؤيديها على الأقل" هو أنها شرعنت الاسلام السياسى وأنزلته من مجرد تنظير وثقافة الى أرض الواقع معلنة تجسيده فى دولة للخلافة محددة التخوم والمعالم، لقد أنفذت حرفيا ما قامت عليه الوهابية من أفكار حول الحاكمية والولاء والبراء ومحاربة الأوثان "تحطيم التماثيل والآثار" بل وتدمير الأضرحة والمراقد الشيعية وهو ما يجعل قلوب المؤمنين بالفكر الوهابى تهفو إليهم فهم متفقون فى تحكيم شرع الله من حيث هو أصول وليست فروعا.
4- إن داعش مخيفة حقا ولكنها تافهة تعتمد على أكثر درجات العنف جنونا وهى مجرد محاولة يوتوبية ميتافيزيقية عدمية صاخبة تعتمد بالأساس على شباب متحمس مغامر "حديث العهد بالإسلام" وخصوصا هؤلاء القادمين من مجتمعات غربية ولا يعرفون العربية حتى يفقهون الإسلام ويدخلون الى القتال مباشرة دون ضوابط يستهويهم القتل والذبح والحرق وتقطيع الأعضاء، بينما كثير ممن يأتون من الشرق يسيل لعابهم بالسبايا من الكافرات وما يوعدون به من حور العين، ويجتمع الطرفان على الثورة والتمرد على سلطة الإب ولا يعترفون بالدولة فى شكلها الحديث بل يعتبرون قضيتهم الأساسية هى هدم الدولة كنظام قمعى يفرض عليهم قيودا ويلزمهم بالإنصياع الى القوانين والنظم.
*رياض حسن محرم
الحوار المتمدن.