الة الرئاسة سعة الصدر



أتي لفظة «السعة» في اللغة ضدّ معني الضيق، يقول ابن منظور: «السعة نقيض الضيق»(1).

والآلة بمعني عمود الخيمة حيث لا تقوم الخيمة الا بها، وسعة الصدر نفس شرح الصدر وانشراحه. يقول فخر الرازي في تفسيره لهذه اللفظة: «القصد منها ما يرجع الي المعرفة والطاعة»(2).

بعد هذه المعالجة اللغوية التي تتصدر عادة الدراسات التقليدية الموجودة في هذا المجال نلج قدر المسطتاع ميدان الدراسة المضمونية لكلمة الامام التي تعد في حد ذاتها دستوراً سياسياً لمن يحاول تدبير ملكه باحكام واتقان وذكاء، وبادئ ذي بدءٍ نقول أنه لا غنيً لكل من يمارس عملاً أياً كان نوعه وكيفما كانت طبيعته من ان يعتمد منهجاً سليماً يتمشي مع طبيعة ما يمارسه من العمل وما يقوم به من الافعال في المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه وهذا ينطبق علي جميع ميادين الحياة، حيث علي الأفراد والجماعات علي حد سواء انتهاج مسالك سليمة وأساليب متقنة بغية ادارة شؤون المجتمع وتسيير أمورها فعلي سبيل المثال من يتولي منصباً اجتماعياً اياً كان مستواه بحاجة الي آليات عمل يستثمرها في تعامله مع الآخرين، فلا بدّ له علي هذا الأساس ان يتمتع بسمات ومميزات خلقية وروحية معينة، منها الجود حيث ورد في الحديث عن الامام علي عليه السلام أنه قال: «من جاد ساد»(3).

فاذا كان الحاكم بخيلاً ممسكاً انفض الناس من حوله. ومنها الرفق مع الناس وقد اكدت الشريعة الاسلامية علي هذه الفضيلة قال النبي صلي الله عليه و آله وسلم : «المداراة نصف الايمان والرفق بهم نصف العيش»(4).

وقال صلي الله عليه و آله وسلم : «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بالفرائض»(5). منها التواضع فقد قال النبي صلي الله عليه و آله وسلم : «ما تواضع أحد للّه الا رفعه اللّه »(6). ومنها مراعاة حقوق الرعية فمن أراد التوسع في ما يخول للرؤساء من المسؤوليات العضام فليراجع الرسالة التي وجهها الامام علي عليه السلام الي مالك الأشتر النخعي وكان قد عين والياً علي ارض مصر في فترة خلافة الامام بالكوفة فقد اوصاه الامام عليه السلام برحابة الصدر الذي نحن الآن بصدد الحديث عنه وهذه الخصيصة كما يؤكّد عليها أمير المؤمنين عليه السلام آلية عمل رئيسية وهامّة في ممارسة الحكم وتقوية بنيته وتدعيم اركانه وهي بمثابة عمود الخيمة، فكما أنّ الخيمة لا تقوم الا بالعمود الذي يقيمها كذلك الحكم لا يستقر الا اذا كان اولياء أموره يتمتعون برحاية الصدر، وهاهو التاريخ يحكي عن معاناة البشر الناجمة في معظمها عن سيادة روح التعالي والنزعة السلطوية لدي الحكام، اذ كانوا يمارسون الحكم مستأثرين به، رافضين لاي موقف معارض لهم، ضاربين عرض الحائط أية بادرة تسيء اليهم علي حد زعمهم بل راحوا يسومون كل من يخالفهم سوء العذاب، والحق يقال انه لم تحصل هذه المواجهة القاسية الا نتيجة لضيق صدورهم وعدم قبولهم آراء الآخرين والانفتاح علي اصحاب الرأي قال تعالي تأكيداً علي الانفتاح علي الآخرين والابتعاد عن الاستئثار بالرأي: «وأمرهم شوري بينهم»(7). وقال عزّ وجلّ مخاطباً نبيه الاكرم: «وشاورهم في الأمر»(8).

والمشورة تعارض التعالي والانغلاق علي الآخرين ثم المشورة تساهم اسهاماً فعالاً في بناء المجتمع وشق الطريق المؤدية الي التقدم والرقي أمام الآخرين مجتمعات أو افراد، وعلي هذا الاساس يقول الامام علي عليه السلام : «من استبدَّ برأيه هلك»(9). وقال في نفس المجال: «لا مظاهرة أوثق من المشاورة»(10).

وهنالك قصص عديدة سردها لنا التاريخ عن المستبدين وأصحاب العقول الجامدة ويحكي عما آل اليه مصيرهم والنكبة التي حلّت بهم، فالمؤلفات التاريخية حافلة بعظات وعبر تستوقف المرء ليتأمّل فيها ويأخذ منها دروساً وعبراً يسير علي هديها في الحياة مع أن هنالك العديد من الحالات تعكس غير هذا، ونعم القول في هذا المضمار قول الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة حين يؤكّد: «ما اكثر العبر وأقلّ الاعتبار»(11)

فشتّان بين هؤلاء المعجبين بأنفسهم واولئك الكبار من اصحاب سعة الصدر والمداراة مع الجميع ونقصد منهم علي وجه التحديد الأنبياء والائمة عليهم السلام فقد واجهوا رعاياهم سواء العدو منهم والصديق في رحابة صدرٍ شقّوا بها طريقهم الي القلوب، فكان هذا وراء سر اقترابهم الي النفوس وانجذاب الناس اليهم ولقد كان أئمة اهل البيت عليهم السلام في مواجهتهم مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية ومنهم المعارضين المخالفين يتّبعون احسن الطرق وتتبلور هذه الطرق الحسنة في قمّتها عند رحابة الصدر حيث تؤثّر اثراً بعيداً في العباد وتجعلهم في أحايين كثيرة مراجعة ما اتخذوه من السلوك المعوج وما اعتقدوه من الانطباعات الخاطئة. وقصة الامام الحسن عليه السلام شهيرة في التاريخ الاسلامي... قصته مع ذلك الرجل القادم الي مدينة النبي صلي الله عليه و آله وسلم ابان الحكم الأموي الجائر... التقي به الامام في احدي حواري المدينة وحينما تعرف الرجل علي الامام أخذ يسبّه ويصبّ عليه جام غضبه ذاك الجام الذي ملأه رجال معاوية بن أبي سفيان سفاهةً وعدواناً ضد ائمة أهل البيت عليهم السلام وبالغ الرجل في ما اتّهم الامام به وحينما هدأت ثورته وهمد غضبه وهيجانه من الأحاسيس غير النزهية وأفرغت ما بدخيلته من الضغائن والاحقاد المشحون بأيدٍ نجسه اذ بالامام يستقبله برحابة صدر وبشاشة وجود وقال له في مضمون كلامه يا رجل ان كنت غريباً آويناك وان كنت جائعاً أشبعناك وان كنت عارياً كسوناك ثم اخذه الي داره وأكرم وفادته، ولمّا رأي الرجل كل هذه العظمة وكل هذا الكرم الأصيل والخلق النيل والشيم العريقة الكريمة، كاد يذوب خجلاً فندم أشدّ الندم وراح يداري خطأه الكبير وأدرك تمام الادراك ان الدعايات الكاذبة التي أذاعها الأمويون ضد اهل البيت عليهم السلام باطلة أساساً، وآنهاملفقة من أولها، هذه هي رحابة الصدر في معناها العريق. اذن تلعب رحابة الصدر دوراً بارزاً في انجاح العمل السياسي والاجتماعي عبر كسب آراء الناس وحسن ظنهم، فكما ان الغلظة تشتّت القلوب وتبعد بعضها عن بعض وتسبب التنافر، كذلك تؤلّف سعة الصدر بينهما وهي تمهّد أرضية خصبة تمريراً للسياسات المقصود تنفيذها... فالتّركيز علي ضرورة الالتزام بهذه السجيّة يكون علي عهدة المسؤولين من اصحاب المراتب والمناصب الاجتماعية والسياسية والثقافية، حيث يُرتجي منهم النظر الي مفهوم سعة الصدر نظرة جادة وسليمة معتبرين اياها أداة حساسة للغاية، تخدم مصالح المجتمع وتطوير ارادته... هذا وقد أوضحت الشرائع السماوية معالم رحابة الصدر ومداراة الناس التي تتمثل في كلام أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «آلة الرئاسة سعة الصدر».

اما نحن كما أسلفنا يجدر بنا أن نأخذ هذا الكلام بعين الاعتبار اذ ما كنّا في موقع الرئاسة وأردنا ممارسة هذه الرئاسة، كما يجدر بفلاسفة الحكم والمشتغلين في حقل السياسة والاجتماع التركيز علي ذلك بل رصد معالمه وايضاح مغزاه ومن ثم طرح هذه البنية الفكرية علي بساط البحث في المعاهد التعليمية المهتمة بشؤون السياسة والاجتماع تمهيداً لمرحلة متعالية تهدف الي ارساء قواعد الحكم والادارة علي أساس سعة الصدر باعتبارها خلق كريم ينفع الراعي والرعية معاً ويساهم كما أسلفنا اسهاماً كبيراً في دفع عجلة المجتمع الي الامام. فنحن اليوم بأمس الحاجة الي الانفتاح علي الآخرين مع التأكيد علي أصالة تراثنا الحضاري وهذا ما يستلزم رحابة الصدر بمعناه الاجتماعي والثقافي الواسع النطاق.


المصادر :

1 القرآن الكريم.

2 ابن منظور، لسان العرب، «مادة».

3 فخر الرازي، التفسير الكبير، تفسير سورة الانشراح.

4 تحف العقول.

5 بحار الانوار.

6 نهج البلاغة.

الهوامش :

1. ابن منظور، لسان العرب مادة «وسع».

2. فخر الرازي، التفسير الكبير، تفسير سورة «الانشراح».

3. تحف العقول، ص 96.

4. بحار الانوار، ج75، ص460.

5. نفس المصدر.

6. بحار الانوار، ج1، ص120.

7. سورة الشوري، آية 36.

8. سورة آل عمران، آية 153.

9. نهج البلاغة، ق 161.

10. نهج البلاغة، ق 113.

11. نهج البلاغة، ق 297.

* رئيس الجامعة الاسلامة الحرة فرع مدينة ساوة