مع البسطاء ووجعهم تطوف ذاكرة المسرحي نور الدين فارس
زينب المشاط/ تصوير محمد رؤوف
الحضارة والفن يجتمعان دائماً في النص المسرحي، فحين نتحدث عن المسرح كأننا نتحدث عن تأريخ وحضارة وطن ، وحين نستذكرُ كاتباً مسرحياً كأننا نُقدم باقات امتنانٍ لا مُتناهية لمن أحيا الحضارة والفن والأدب ، فكيف إذا كانت نصوص هذا الكاتب تعكس وجع إنسان المدينة البسيط وتُناقش همومه، وتُحاكي المجتمع ، سيكون حينها الكاتب قد أحيا رسالة وطن ، وهذا ما إتفق عليه الفنانون والكُتاب والمثقفون في جلسةٍ أقامها بيت المدى الثقافي صباح يوم الجمعة في شارع المتنبي لاستذكار الكاتب المسرحي والأكاديمي الراحل نور الدين فارس .
يُشبهُ مدينته "شهربان"
القاص والإعلامي حسين رشيد الذي افتتح الفعالية شبّه الراحل بمدينته شهربان التي تُنتج ثمار الرمان اليانعة، ذاكراً إن الراحل قدم فناً ونصوصاً مسرحية كثيرة ورائعة ، وتطرق حسين رشيد إلى حياة الراحل ذاكراً " انتقل نور الدين إلى بغداد للدراسة الإعدادية حيث توسعت علاقاته في المجال الثقافي والمسرحي بشكل خاص ، وأثمر تفاعله عن صدور أول مسرحياته عام 1965 بعنوان أشجار الطاعون ، ثم غادر العراق عام 1974وتجول بين الكثير من الدول الأوربية واستقر في هولندا لينتقل بعد ذلك إلى مثواه الأخير . "
ويبدو إن ذاكرة نور الدين تتعلق بذاكرة أخيه فلم ينس حسين رشيد التطرق إلى شمس الدين فارس الذي رسم جدارية سينما بابل وأُعدم في بداية الحرب العراقية الإيرانية في وقتٍ عانت فيه عائلة نور الدين من الكثير من الاضطهاد أيام النظام السابق حالها حال أي عائلة معارضة للنظام .
من ألمع كُتاب النص المسرحي
الجلسة التي تحولت الى حوار تفاعلي لم تخلوا من المُداخلات المهمة ، حيث استرجع الحضور من خلالها أهم الأحداث التي تخص الراحل ، ويبدو إن الحاضرين اتفقوا على إن نور الدين فارس كان من ألمع كُتاب النصوص الدرامية في العراق ومن بينهم الكاتب المسرحي عقيل مهدي الذي قال مُستذكراً أشجار الطاعون " في الوقت الذي صدرت فيه مسرحية أشجار الطاعون ومُثلت كانت تتناول واقع الأسرة العراقية والعلاقات الاجتماعية ، وهذا ما عهِدناه في نصوص الراحل التي عُرفت بمُحاكاة الإنسان البسيط المسحوق والتحدث عن مشاكله ومُعاناته . "
وقد ترسخت في ذاكرة عقيل مهدي أيام الدراسة التي جمعته بنور الدين فارس في بلغاريا ، حيث استذكرها المهدي بانبهار شابٍ بأستاذه وصديقه الذي كان يكبره 15 عاماً من العُمر إضافة إلى انبهاره بأسلوب إقناع نورد الدين فارس لأساتذته آن ذاك " جمعني مع نور الدين فارس قسم واحد في جامعة بلغاريا وكان القسم معروف باسم " كاتبدرا " ما معناه علوم المسرح ، وأذكر إن نور الدين حاول تقديم بحث في الفترة مابين 1958 و1974 والتي كانت تعتبر أهم حقبة في تحقيق نجومية نور الدين ، إلا إن الأساتذة المشرفين على البحث رفضوا لاعتقادهم إن نور الدين يتحدث عن مسيرته في هذا البحث ، لكنه بأسلوبه الراقي المُبهر بين لهم إنه يتحدث فقط عن التأليف المسرحي خلال تلك الفترة فوافقوا على بحثه . "
لنُحيي نور الدين فارس
الحُزن والأسى لم يُفارقان الجلسة وخاصةً إن مُغادرة نور الدين فارس لم تكُن بالبعيدة ، حيث ودّعته الأوساط الثقافية في السابع عشر من كانون الأول الماضي فتركت في قلوب الكثير من محبيه غصة حزن وعبرات مخنوقة ، إلا إن الوجع كان واضحاً على نقيب الفنانين صباح المندلاوي الذي تحدث عنه بمزيد من الحب الممزوج بالألم ذاكراً الكثير عن فنه ونصوصه التي وصفها بأنها أحيت الإنسان ، مُشيراً إلى إن نور الدين فارس " برز في الستينيات من القرن الماضي ككاتب درامي له حس شاعري وثوري وهو الذي يتناول الكثير من القضايا والموضوعات التي تهم الإنسان المعاصر ليكون من أدوات التغيير وبناء مجتمع جديد لا مكان فيه للاستغلال والقتل والتهجير والخراب والقمع والإرهاب . "
وبين الجزائر وهولندا كان لنور الدين فارس سر يجمعه بالمندلاوي ، حيث صرح الأخير مُستذكراً عدم مقدرته على تحقيق أمنية صديقه الراحل وقال " بعد سفر نور الدين إلى الجزائر وعمله كأستاذ للأدب والنقد لأكثر من عقد في وهران ، ومنها ذهب إلى هولندا وهُناك كتب لي رسالة مُتمنياً فيها أن أحمل كتاب ترجمه عن نظرية الدراما البلغارية للكاتبة بانوثا إلى وزارة الثقافة السورية وأقمت في دمشق وتابعت أمر طباعته وتركت دمشق مُرغماً ولم يطبع الكتاب ،ليُطبع بعدها في دار الشؤون الثقافية . "
اقتحم ميدان المسرح
للبعض من الحاضرين ذاكرة عابرة مع نور الدين فارس ، إلا إن هذا الرجل لا يسمح للمارين على طريقه من الرحيل دون ترك أثر عميق في أرواحهم، ومن بين من مروا على حياة نور الدين فارس الناقد الموسيقي كمال لطيف سالم الذي لا يكاد أن يُصدق بأنه سيتحدث عن نور الدين فارس يوماً ما في جلسةٍ استذكارية له بعد رحيله ، فقال سالم وقد أعادته الذاكرة للقاء الأول والصدفة الأولى التي جمعته بالراحل " عدت بالذاكرة إلى منتصف الستينيات حيث كُنا نجلس في مقهى حسن عجمي والتقيت بالراحل أكثر من مرة ولم يكن على بالى إني سأتحدث عنه ، لقد تميز نور الدين فارس بالرقة والعفوية والجمال ، في الوقت الذي كانت فيه الكتابة للمسرح تعتبر من الأمور الصعبة لان كتابة القصة مغامرة فكيف بكتابة المسرحية ، إلا إن نور الدين اقتحم الميدان مع يوسف العاني وعلي حسن البياتي وبدأت من تلك الفترة أتابعه."
وكمحبٍ مُتعطش حاول العاني الوصول إلى نور الدين فارس بعد أن سافر إلى بلغاريا إلا إن فرصة اللقاء به لم تُتح.
بين شمس الدين ونور الدين
من يلتقي بشمس الدين فارس لابد لهُ من أن يُحب نور الدين فارس ، وهذا ما أكده المترجم كاظم سعد الدين الذي كانت تجمعه صداقة وثيقة بالمرحوم شمس الدين فارس وأكد إن هذه الصداقة امتدت إلى نور الدين فارس الذي كان يلقاه مع أخيه شمس الدين في إحدى مقاهي الخالص ، حيث كانوا يتحدثون في شؤون الأدب ، وذكر كاظم سعد الدين إنه يعرف عن نور الدين فارس ما لم يذكره أحد وقال " أعرف عن نور الدين شيئا لم يذكره أحد ، لقد كان كاتب مبدع للقصة وله مجموعة قصصية اسمها " الأشجار تموت واقفة " وقبل أن يسافر قال لي إن هنالك قصة ممنوعة وطلب مني الحصول عليها لم أتمكن من إرسالها له لعدم استطاعتي على معرفة عنوانه . "
خسره العراق
العراق لم يخسر نور الدين فارس بسبب وفاته فحسب بل إنه خسره منذ هجرته إلى الجزائر ثم هولندا ، لقد اتفق الحاضرون على إن هذا حال أغلب المبدعين الذين كان للمهجر سبب في خسرانهم ، ومن بين من أكدوا ذلك الناقد والباحث شكيب كاظم الذي ذكر إن " نور الدين فارس من رواد المسرح العراقي وكان كاتباً مهماً للعراق في وقتٍ قلّ فيه تواجد كُتاب مسرحيين حقيقيين أمثال يوسف العاني وعطوان ومعاذ يوسف ، لكن لمغادرته العراق أثر كبير في خسارته ، وما أكثر خساراتنا بسبب ضيق صدر السياسة في العراق . "
موهبته القصصية أفادت النص المسرحي
ولم تخل الجلسة من الحديث بشكل علمي وأكاديمي عن ما قدمه الراحل نور الدين فارس ، حيث تحدث عدد من الأكاديميين ومن بينهم الفنان والأكاديمي الدكتور حسين علي هارف والذي ذكر مُشيراً إلى أهمية المادة الفنية والنصوص التي قدمها نور الدين فارس ذاكراً " يُعد نور الدين فارس رائداً للمسرح بالمعنى الجوهري ذلك لأنه عمِدَ إلى كتابة مسرحيات بوقائع اجتماعية مستمدة من واقع البيئة العراقية بهاجس إنساني ما جعل المخرجين يعمدون لتقديم هذه النصوص باللهجة المحلية الدارجة. "
وأكد حسين علي هارف إن " نور الدين فارس أفاد من موهبته القصصية في خلق متون حكائية مُتقنة لمسرحياته، وقد رَفدَ المكتبة المسرحية فضلاً عن خشبة المسرح العراقي بالعديد من النصوص المسرحية التي أٌنتج الكثير منها . "
اختُتمت الجلسة بحديث الدكتور حسين علي هارف ، إلا إن هُنالك الكثير من القلوب المحبة والعقول المُفكرة والمثقفة التي كانت ترغب بالحديث عن رائد المسرح العراقي نور الدين فارس ، وانتهت جلسة استذكار الراحل إلا إن ذاكرته التي تطوف المسرح وتُعطر نصوص كتاباته ، وتُحرك أجساد أبطال حكاياته المسرحية من خلال روحه التي تسكنهم مازالت باقية .
المدى