ظلت تلك الفكرة تشغل بال الكثيرين من العلماء، حتى أنهم قد كونوا فرقًا لبحثها والعمل على تحقيقها: ماذا عن تصميم مباني قادرة على تنظيف الهواء الملوث بالسخام Smog بشكل فعال والأهم بدون تدخل مباشر من البشر؟ تخيلوا تلك المباني وقد صحت من سباتها العميق مع أشعة الشمس لتعمل في صمت على “امتصاص” السخام في الجو وبشكل لا يلحظه المارة ولا ساكنو البناية نفسها؟!
لا داعي للتخيل! كل ما تحتاجه هنا هو تفاعل كيميائي مباشر يبدأ ما أن تلامس أشعة الشمس سطح تلك المباني ذات التصميم الذكي والأنيق!
وهذا ما يحدث حاليًا على سبيل المثال في مدينة ميكسيكو سيتي سيئة السمعة بنسب تلوث السخام المرتفعة بها؛ حيث تمت تغطية مستشفى يدعى Torre de Especialidades بدرع يتمثل في واجهة أنيقة لافتة للنظر تمتد لأكثر من 100 ياردة ومصنوعة من ألواح آجر (قرميد) خاصة قادرة على تنقية الهواء من خلال التعرض المباشر.
ألواح البناء الخاصة تلك، والتي قامت بإنتاجها شركة Elegant Embellishments المتمركزة في برلين- ألمانيا، مغطاة بالكامل بطبقة كثيفة من ثاني أكسيد التيتانيوم titanium dioxide كصبغة تعمل كعامل محفز على التفاعلات الكيميائية عند تعرضها لأشعة الشمس. فعندما تلامس أشعة الشمس ألواح الآجر الخاصة تلك، يستثار التفاعل الكيميائي الذي يحول أكاسيد النيتروجين الأحادية (وهي المواد التي تكسب السخام صفاته الضبابية) إلى مواد أقل ضررًا مثل نترات الكالسيوم والماء، بالإضافة إلى ثاني أكسيد الكربون غير المحبب على الإطلاق! والرائع هنا أن ثاني أكسيد التيتانيوم لا يتغير أو تضعف فعاليته بمرور الوقت، وإنما يظل فعالًا كما البداية إلى الأبد.
بالطبع لا يتوقع المهندسون وراء هذه التقنية حل مشكلة المدينة المتأزمة بشكل كامل، لكن نواياهم وجهودهم مخلصة حقًا في هذا الصدد، وإنما يأملون أن تلهم الآخرين وتحفزهم للسير على ذات الدرب. ونظريًا، يستطيع مبنى المستشفى تخفيف الآثار الناتجة عن 1000 سيارة من إجمالي السيارات التي تجوب مدينة ميكسيكو سيتي والبالغ عددها 5 مليون سيارة، وكذلك توفير هواء أنعش وأنقى في المنطقة المحيطة بالمستشفى مباشرة.
ومن المكسيك إلى إيطاليا، حيث مبنى Palazzo Italia الفريد والذي تم افتتاحه في معرض أكسبو 2015 في ميلان العام الماضي كأول مبنى يتكون من خرسانة تم تصميمها خصيصًا لتنقية الهواء.
وكما هو الحال مع مستشفى ميكسيكو سيتي، فإن الواجهة الذكية المكونة من الإسمنت وثاني أكسيد التيتانيوم، ستلتقط فور تعرضها لأشعة الشمس أكسيد النيتروجين الملوث وتحوله إلى أملاح غير مؤذية ستذوب عن الجدران فور سقوط المطر.
تقول شركة Nemesi & Partners المنفذة أن المبنى أشبه في فلسفته بالغابة المتحجرة، ويتضمن مصفوفة خلايا شمسية على السطح لتوفير الطاقة اللازمة له طيلة اليوم. بهذا، يستهلك Palazzo Italia طاقة أقل بنسبة 40٪ من المباني التقليدية التي تماثله في الحجم، ولا ينتج عنه أي ملوثات على الإطلاق.
أردنا هذا المبنى أن يصبح أقرب لكائن حي إسموزي أشبه بالشجرة؛ يستنشق ثاني أكسيد الكربون ويزفر الأكسجين!
الجدير بالذكر هنا أن استخدامات هذا النوع من الخرسانة، والتي يطلق عليها أحيانا Tiocem لا تقتصر على تشييد المباني فقط، وإنما يمكن أن تدخل في رصف الطرق، تغطية أسطح المنازل، أعمال الطرق، وحوائط وموانع الطرق السريعة. وبعدما أقرته الدراسات التي قام بها الاتحاد الأوروبي بالفعل، فإنه من المتوقع استخدامه بكثافة في المناطق الحضرية التي تعاني نسب تلوث عالية حول العالم.
أول مدينة تخطر على بالي هنا للاستفادة من هذه التقنية هي بكين بالصين، بعدما انطلق الإنذار الأحمر للمرة الثانية في تاريخها في نهاية 2015، ويمكنكم الاطلاع على هذه الأزمة وبعض الحلول غير التقليدية لعلاجها في موضوعنا هنا.
هل هناك مدن أخرى ترشحونها في عالمنا العربي للاستفادة من هذه التقنية المدهشة؟